"رسالة الطيارين" تفجّر سجالاً واسعاً: السياق والدلالات

رسالة الطيارين في سلاح الجو الإسرائيلي وعلى الرغم من عدم إضافتها جديداً تظهر تأجيج السجالات حول خطة التعديلات القضائية، والحرب في غزة، وإعادة الأسرى، كما أدّت إلى تصعيد الاصطفافات السياسية بين الحكومة والمعارضة.

  • "رسالة الطيارين" تفجّر سجالاً واسعاً: السياق والدلالات

في لحظةٍ مفصلية أمنية وداخلية، وسجالاً محتدماً حول قضايا مركزية، جاءت "رسالة الطيارين" في سلاح الجو الإسرائيلي كحدث أعاد جذب الانتباه. وعلى الرغم من أن الرسالة لم تحمل جديداً، فإنّ تعامل قيادة "الجيش" معها كان العلامة الفارقة عن التعامل السابق أيام هرتسي هاليفي.

من جهة ثانية سلطت الرسالة الضوء على خطوط التماس المتشابكة، بشأن ما يُعرف بقضايا الدين و"الدولة"، ومكانة "الجيش" الإسرائيلي السياسية والاجتماعية، وموقفه من الانقسامات السياسية والاجتماعية المتجذرة في بنية "الدولة".

من وسم الحرب بـ"السياسية"، إلى المطالبة بإعادة الأسرى "بأي ثمن"، مروراً بإعادة الجدل حول امتيازات النخب العسكرية وقانون إعفاء "الحريديم"، فجّرت الرسالة نقاشاً عميقا تجاوز حدود "الجيش"، ولامس جوهر ما يُسمى بالصراع القيمي حول شعار "المساواة في تحمل العبء"، كما أعادت تحشيد الاصطفافات السياسية والاجتماعية، بين مؤيّد لخطة نتنياهو القضائية (كونها تعيد التوازن المفقود إلى سلطات "الدولة") وبين معارض لها (على اعتبار أنها انقلاباً على الثوابت وأداة هيمنة وتسلّط).

دلالات سياسية واجتماعية

تمحور الحراك السياسي والإعلامي المرتبط برسالة الطيارين في سلاح الجو الإسرائيلي حول بُعدَين أساسيين: السياسي والاجتماعي. فعلى الرغم من أن الرسالة لم تُضِف جديداً إلى السجال القائم، إلا أنّها جاءت في توقيت حساس، إذ تخوض "إسرائيل" حرباً في قطاع غزة، مما منحها زخماً خاصاً، كما أنّها تزامنت مع احتدام السجال حول قانون إعفاء "الحريديم" من الخدمة العسكرية.

وقد أعادت هذه الرسالة، التي استخدمت مفردات متصلة بالسياق الحالي مثل "إعادة الأسرى" و"عبثية الحرب"، أعادت إنتاج السجال حول ما يسمى "خطة الإصلاح القضائي" كما يسميها الائتلاف الحكومي، في حين تصفها المُعارضة بـ"خطة الانقلاب القضائي".

هذا الجدل يتمحور حول جدلية "الهيمنة" في مقابل "إعادة التوازن" (بين السلطات)؛ أو "الدولة العميقة" (كما يسميها نتنياهو) في مقابل "دولة المؤسّسات والقانون"، وهذه العناوين تُمثل -برأي مراقبين- إحدى أهم مرتكزات النزاع والسجال الداخليين في "إسرائيل".

البُعد السياسي

تضمّنت الرسالة توصيفاً للحرب في غزة بأنها "سياسية"، وطالبت بإعادة الأسرى الإسرائيليين حتى ولو كان الثمن وقف الحرب في غزة نهائياً. وقد ساهمت هذه المطالبة في ترسيخ الاصطفافات السياسية القائمة بين أحزاب اليمين في الحكومة والمُطالبين بأولية القضاء على حركة حماس من جهة، وبين والمُعارضة والمطالبين بأولوية إعادة الأسرى من جهة أخرى.

ويُلاحظ أنّ الأحزاب الحريدية في الحكومة حافظت على نوع من الحياد العلني، نظراً لانشغالها بمعركة موازية تسعى من خلالها إلى إعفاء الشبان "الحريديم" من الخدمة العسكرية.

البُعد الاجتماعي

يحمل سلاح الجو الإسرائيلي طابعاً نخبوياً، ويُنظر إلى عناصره، خاصة الطيارين والملّاحين منهم، على أنهم "لوردات المجتمع الإسرائيلي" أو حتى "مجتمع مغلق"، يتسم بالتفوّق والامتياز مقارنة ببقية وحدات "الجيش"، خصوصاً القوات البرية والقتالية.

ويعود ذلك إلى أنّ أغلب الطيارين ينحدرون من أوساط اجتماعية ميسورة ومراكز حضرية، في حين تعتمد الوحدات البرية بشكل أكبر على شبان من الضواحي والأطراف وشرائح اجتماعية أضعف تعليمياً واقتصادياً.

وفي هذا السياق، أعادت "عاصفة رسالة الطيارين" طرح السجال القديم - الجديد حول "المساواة في تحمّل عبء الخدمة العسكرية"، وهو سجال لا يقتصر على معسكرَي الائتلاف والمعارضة، بل يمتد إلى داخل الأحزاب الحكومية وحتى التيارات الدينية ذاتها.

موقف "الجيش" الإسرائيلي

على خلاف مواقف القيادة العسكرية السابقة في مراحل ما قبل الحرب، تبنّت القيادة الحالية موقفاً حاسماً تجاه هذه الرسالة. في البداية حاولت القيادة العسكرية منع نشر الرسالة عبر التهديد بالفصل، كما سُرّبت قائمة بأسماء الموقعين – نحو ألف عنصر من تشكيلات الاحتياط في سلاح الجو، يُقدّر أن 10% منهم فقط في الخدمة النشطة.

ومع فشل هذه الإجراءات في ثني الموقعين (إذ سحب عدد قليل فقط توقيعه بعد التهديد بالفصل)، قرّر قائد سلاح الجو، بدعم من رئيس الأركان (زامير)، فصل جميع الموقعين، بحجة أنّ الرسالة ذات طابع سياسي. وصرّح مصدر في سلاح الجو بأن خطورة الرسالة تكمن في أنها "تقوّض شرعية القتال في غزة".

الاحتواء والتخوف من العدوى

في محاولةٍ لاحتواء تبعات الرسالة وتداعياتها، حاولت قيادة "الجيش" التقليل من شأن الرسالة، حيث أشارت أنها لم تنطوي على دعوة صريحة لرفض الخدمة الاحتياطية، وأن غالبية الموقعين لا يشاركون فعلياً في الخدمة النشطة بسبب تقدمهم في السن.

لكن الخشية الأكبر لدى "الجيش" هي من انتقال هذه العدوى إلى تشكيلات عسكرية أُخرى، وهو ما بدأت بوادره بالظهور فعلاً، في سلاح البحرية، حيث وقّع (أمس الخميس) أكثر من 150 عنصراً – من الاحتياط والمتقاعدين – على رسالة مماثلة تدعو إلى وقف القتال ومراجعة السياسات الحالية. وفي وحدة الـ8200 في شعبة الاستخبارات العسكرية (مئات جنود الاحتياط الحاليين والسابقين)، إضافةً إلى رسالة موقعة من 100 طبيب عسكري في الاحتياط.

السيناريو الأكثر إقلاقاً بالنسبة "للجيش" هو اختراق هذه الظاهرة لصفوف الوحدات النظامية، ما قد يؤدي إلى انقسامات داخلية في المؤسسة الأمنية والعسكرية، وأيضاً من تحويل النزاع السياسي إلى "حرب عرائض" متبادلة داخل "الجيش"، كأن يصدر غداً بيان من ضباط احتياط في ألوية المشاة يرفض وقف الحرب قبل هزيمة حركة حماس.

ردود الفعل السياسية

انسجاماً مع الانقسامات السياسية، احتفت الأوساط الحكومية والإعلام اليميني بقرار رئيس الأركان واعتبروه "صائباً وحازماً"، كما حظي القرار بدعم رئيس الحكومة ووزير الأمن، فيما هاجمت أوساط المُعارضة الحكومة ورئيسها، ووقفت إلى جانب الطيارين.

وفي لغة خارجة عن المألوف وصف رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، الموقّعين على الرسالة بـ"الأعشاب الضّارة، التي تديرها منظمات ممولة من الخارج بهدف إسقاط حكومة اليمين"، ونعتها بـ"مجموعة صغيرة، مشاكسة، فوضوية ومنقطعة عن الخدمة".

ويُذكر أنّ رئيس الأركان السابق، هرتسي هاليفي كان قد اتخذ نهجاً أكثر احتواء في التعامل مع مواقف مماثلة، أثناء السجال حول الخطة القضائية قبل الحرب في غزة، الأمر الذي أعطى رئيس الأركان الحالي (زامير) المزيد من الرصيد لدى أحزاب اليمين (الّلا - حريدية) في الحكومة.

في المقابل، ركّزت المعارضة هجومها على الحكومة، وليس على "الجيش"، متهمة إياها بمعاقبة المحتجين من جهة، بينما تسعى، من جهة أخرى، إلى منح إعفاءات جماعية للمتدينين "الحريديم" من الخدمة العسكرية الإلزامية. وقد عبّر عن هذا التناقض رئيس المعارضة، يائير لابيد في تعليقه على قرار الفصل.

اقرأ أيضاً: نضال بدارنة... حين تجرّم "إسرائيل" الضحك الفلسطيني وتبيح السخرية من الإبادة الجماعية

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.

اخترنا لك