"قمة آسيان 2025".. الصين في خلفية إعلان كوالالمبور
قمة "آسيان" تشهد شراكة ثلاثية مع الخليج والصين، في تحول آسيوي يعكس تصاعد التعددية القطبية عالمياً.
-
قمة رابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان" في ماليزيا، كوالالمبور في 26 أيار/مايو 2025 (الأناضول)
حملت القمة الـ46 لرابطة دول جنوب شرق آسيا "آسيان"، التي انطلقت في السادس والعشرين من الشهر الحالي في العاصمة الماليزية كوالالمبور، عنوان "الشمول والاستدامة". وما يميّزها عن سابقاتها حضور لافت لمجلس التعاون الخليجي للمشاركة بالقمة، إذ توازي قمة الرابطة قمة "آسيان" ومجلس التعاون الخليجي، ثم قمة ثلاثية للرابطة ومجلس التعاون الخليجي والصين، في مؤشر على توجّه عالمي وإقليمي متزايد نحو الشرق، ينعكس في تصريح أنور إبراهيم رئيس الوزراء الماليزي، الذي قال إنّ الشراكة بين آسيان ومجلس التعاون الخليجي "أهمّ من أي وقت مضى، في وقت ومشهد عالمي متزايد التعقيد ويشوبه الغموض الاقتصادي والتحدّيات الجيوسياسية"، وفق قوله.
ومن جانبه قال رئيس الوزراء السعودي، المشارك في القمة بالنيابة عن ولي العهد محمد بن سلمان، إن القمة الثلاثية الأولى بالسعودية عام 2023 وضعت أسساً متينة للشراكة، وإن القمة الحالية تستكمل البناء على ما تحقّق بالفعل، لافتاً أن الشراكة حقّقت تقدّماً في مستويات التبادل التجاري بنسبة 21% من عام 2023 إلى 2024، ليبلغ حجم التجارة البينية نحو 123 مليار دولار، وأنّ هناك فرصاً واعدة للتطوير في قطاعات حيوية عديدة، مثل القطاع المالي والزراعة وصناعة الأغذية الحلال والطاقة الخضراء والمتجدّدة.
من ناحية أخرى أعلنت الصين، قبل أيام من الانعقاد، اختتام مفاوضاتها ذات الجولات التسع، التي بدأت في تشرين الثاني/نوفمبر عام 2022، مع الرابطة، لترفيع الاتفاقية التجارية- منطقة التجارة الحرة بين الطرفين، معتبرةً النسخة الجديدة من الاتفاقية "إنجازاً بارزاً لدعم التجارة الحرة"، وفق البيان الصيني.
تتمتع منطقة التجارة الحرة بين الصين ورابطة آسيان بخصوصية معتبرة، إذ يُعدّ الطرفان أكبر شريكين تجاريين واستثماريين لبعضهما البعض، وتضمّ المنطقة أكثر من ملياري نسمة، نحو ربع سكان العالم، وتمثّل أهم مفردات الاندماج الاقتصادي بين الصين والدول العشر الأعضاء، إذ كفلت تخفيض أو إلغاء التعريفات الجمركية على أكثر من 90% من السلع المتبادلة. وفي الخلفيّة يبلغ إجمالي الناتج المحلي للطرفين أكثر من 22 تريليون دولار أميركي، أي قوة فارقة في السياق الدولي الحالي، المؤثّر على كلّ التكتلات الاقتصادية الإقليمية بالضرورة، في ظل انفراد أميركا بتغيير القواعد التجارية المستقرة.
لعلّ أحد شواهد حيوية العلاقة الاقتصادية بين الصين وآسيان سعي الطرفين إلى تحديث اتفاقية منطقة التجارة الحرة، وإصدار النسخة الثالثة منها، بإضافة 9 فصول جديدة لم تشملها النسخة السابقة، لتعالج مجالات بالغة الأهمية والراهنية، مثل ترابط سلاسل التوريد والاقتصاد الرقمي وضبط اللوائح الفنية القياسية ومطابقة المعايير.
يعزّز التحديث الأخير التعاون في القطاعات الناشئة، مثل التجارة الإلكترونية والتقنيات الصديقة للبيئة والبنية التحتية المستدامة، ويسعى إلى دمج سلاسل التوريد المتعلّقة بالمجالات الاستراتيجية، وتقنيات الإنتاج الصناعي الجديدة والحيوية، مثل أشباه الموصلات والأدوية، فضلاً عن توسعة تخفيضات التعريفات الجمركية، لتشمل المزيد من السلع والخدمات. ما يعني تكريس تكتل آسيوي صيني جامع، يحقق اكتفاءً ذاتياً كبيراً ينعكس على داخل الدول، في استقرار أو انخفاض الأسعار وتحسّن مستوى المعيشة، وعلى المستوى الدولي والاستراتيجي، في تعزيز التعددية القطبية واتجاه المزيد من الدول إلى إعادة تشكيل "السوق" العالمي والعلاقات معه وشروطه، خاصةً مع ضغوط أميركية جديدة، تغيّر بالفعل شكل العلاقات التجارية.
تضمّ رابطة "آسيان" دول: ماليزيا وإندونيسيا والفلبين وتايلاند وسنغافورة وفيتنام وميانمار وكمبوديا ولاوس وبروناي. واتّبعت اقتصادات أول أربع دول نموذج "النمور الآسيوية"، الذي قام في سبعينيات القرن الماضي على التصنيع الموجّه للتصدير والتخصص الصناعي، لكن العودة إلى تاريخ الرابطة بالذات يكشف إنجازاً أساسياً مبكراً، لعله الأهم، وبات مرتبطاً بالصين في العقد الأخير، هو حفظ معدلات تجارة بينية مرتفعة ومتزايدة، مع هيكل مؤسسي دائم يضمن تكريس وتطوير العملية، منذ تشكيل الرابطة عام 1977 من أول خمس دول. وبينما حقّقت الدول الأعضاء الهدف العامّ الأساسي وقتها، معدل النمو السريع، قامت على رأس المشروع سكرتارية دائمة مقرها العاصمة الإندونيسية جاكارتا، مع لجنة دائمة تنعقد كلّ شهرين وتشمل وزارات الخارجية والسفراء.
بمجرّد انطلاقها، شملت المشروعات الأساسية للرابطة منطقة تجارة حرة وسوقاً مشتركة، وفي العام التالي أُنشئت المؤسسات المعنية بتفعيل اتفاقيات الأفضلية التجارية والمنطقة التجارية الحرة للرابطة: لجان تكوّنت من شبكة هيئات فنية فرعية وجماعات خبراء متخصصة، ولجنة مخصصة للصناعة والتعدين والطاقة حدّدت أول مجالات العمل، التي شملت السيارات والآلات الزراعية ومعدات الاتصال والسماد والصلب والمطاط، وشهد عام 1978 اتفاق وزراء الاقتصاد على إعفاء 50 منتجاً من الجمارك في كلّ جولة مفاوضات.
تكتسب القمة الحالية أهمية كبيرة بفعل النقاش الدولي العام عن "التعددية القطبية"، التي تقودها الصين عملياً، ويمكن القول إن بذورها وُجدت في آسيا أولاً، بانتقال الصناعات إليها من أميركا وأوروبا واليابان، الذي كان مربحاً وقتها للغرب الجمعي بفعل عوامل اقتصادية وسكانية وجغرافية، وفي إطار طبيعة النظام الرأسمالي العالمي نفسه. لكن أدّت الإنتاجية العالية والتنافسية المتسارعة التي حقّقتها الصين، ومحيطها الجغرافي من النمور الآسيوية وأشباه النمور، مع تضخّم القطاعين المالي والخدمي في الغرب الجمعي، إلى تحوّل في هذا النظام.
لم يعد خافياً تلازم هذا التحوّل مع تراجع سياسي غربي، يوازي عدوانية أميركية حالياً مع ترامب، على حدّ قول رئيس الوزراء الماليزي خلال افتتاح أعمال قمة "آسيان"، قبل يوم من القمة الثلاثية، إن على الرابطة وشركائها التحوّل إلى نموذج للتعاون في عالم بات يتشكّل على أساس التعددية القطبية. مع تأكيد خطاب "آسيان" ودولها أهمية شعار "حرية التجارة"، الذي يعني في السياق الحالي رفض النسخة العدوانية من الحمائية، التي يطبّقها ترامب، وتبدو غير عقلانية وبلا ثمار حقيقية على المستوى المحلي الأميركي. والمحصّلة العامّة الآن، على مستوى العلاقات الدولية، أنّ الاتحادات الإقليمية المتماسكة والطرف الصيني وتكتّل بريكس باتوا خياراً أفضل للراغبين في شراكة استراتيجية مستقرة.
شهدت القمة حفل توقيع "إعلان كوالالمبور بشأن آسيان 2045"، وهو وثيقة رئيسية ترسم توجّه دول الرابطة للعشرين عاماً المقبلة، عنوانها "رؤية مجتمع الآسيان 2045، وتتضمّن خططاً استراتيجية على محاور رئيسية، تشمل السياسة والأمن والاقتصاد والثقافة والمجتمع. ووصفها كاو كيم هورن، الأمين العامّ للرابطة، في مؤتمر صحافي قبيل القمة، بأنها خارطة طريق استراتيجية عملية صُمّمت لتوجيه الرابطة في تحديد أولويات عملها، وأنها تُقرّ بقضايا مثل التحوّلات الجيوسياسية والتحوّل الرقمي والتغيّر الديموغرافي ومخاطر المناخ.