9 سنوات من استبداد الجولاني في إدلب السورية.. المدنيون يقولون كلمتهم

بسبب السياسات القمعية التي تتبعها "هيئة تحرير الشام" في إدلب السورية، إضافة إلى تدهور الواقع الاقتصادي والمعيشي والخدمي، وانقطاع سبل العيش في مخيمات النازحين، لا يكاد يمرّ أسبوع إلا وتشهد المحافظة خروج تظاهرات شعبية غاضبة.

  • 9 سنوات من استبداد الجولاني في إدلب السورية.. المدنيون يقولون كلمتهم
    9 سنوات من استبداد الجولاني في إدلب السورية.. المدنيون يقولون كلمتهم

لا يكاد يمرّ أسبوع في مدينة إدلب شمال غرب سوريا إلا وتشهد القرى والبلدات في المنطقة خروج تظاهرات شعبية غاضبة تنادي بإسقاط أبي محمد الجولاني زعيم هيئة "تحرير الشام"، حيث يؤكد المتظاهرون رفض سيطرة الجماعة وزعيمها على المدينة التي بدأت قبل 9 أعوام، نتيجة السياسات القمعية التي تتبعها، إضافة إلى تدهور الواقع الاقتصادي والمعيشي والخدمي، وانقطاع سبل العيش في مخيمات النازحين في أرياف إدلب واقترابها من كارثة إنسانية لا يمكن احتواؤها.

كيف بدأت التظاهرات ضد الجولاني؟

قبل نحو 6 أشهر زعمت "تحرير الشام" اكتشاف عملاء في صفوفها يعملون لجهات خارجية، لتنفّذ الهيئة حملة اعتقالات واسعة طالت المئات من المسلحين والقياديين في إدلب وريفها، وهو ما اعتبره مراقبون حملة تصفية داخلية يقودها الجولاني لتصفية المعارضين له داخل التنظيم.

المعتقلون تعرّضوا لشتى أنواع التعذيب داخل سجون الهيئة على يد "جهاز الأمن العام"، حيث قُتل العديد منهم من دون علم ذويهم، إذ كان عناصر "تحرير الشام" يدفنون القتلى بشكلٍ سريّ في مناطق مختلفة من إدلب، قبل أن يكتشف بعض الأهالي وجود إحدى الجثث التي تحمل آثار تعذيب في منطقة الشيخ بحر في ريف إدلب، تعود للمسلّح في فصيل "جيش الأحرار" عبد القادر الحكيم، والذي اعتقلته الهيئة قبل أشهر ضمن ملف "العملاء".

هذه الحادثة أشعلت غضباً شعبياً في عموم إدلب، وكانت شرارة اندلاع انتفاضة غير مسبوقة بوجه الجولاني وتنظيمه، لكن حجم التظاهرات كشف عن حالة من الاحتقان الشعبي في الشمال السوري نتيجة الظروف الاقتصادية وغلاء المعيشة التي يواجهها السكان في المنطقة؛ فكيف وصلت الأمور إلى هنا؟

9 سنوات من الظلم

في آذار/مارس عام 2015، سيطرت "جبهة النصرة" على مدينة إدلب شمال غرب سوريا، حيث فرضت قوانينها الخاصّة على المدنيين، وتمكّن زعيمها أبو محمد الجولاني من تأسيس "إمبراطورية" اقتصادية ضخمة مستفيداً من عوائد المعابر، والتحكّم بشركات النفط، والسيطرة على الزراعة والتجارة، وإحكام القبضة على الصناعة.

إمبراطورية الجولاني الاقتصادية هذه بُنيت على دماء المدنيين الذين كانوا ضحايا لعمليات الاقتتال وحرب التصفية بين الفصائل المسلحة التي انتشرت في المنطقة، بداية من حرب المعابر التي أطلقها الجولاني عام 2017 للسيطرة على جميع المعابر المحيطة بمحافظة إدلب، وكان طرفها الآخر فصائل مسلحة كانت حليفة للنصرة قبل تلك الفترة، مثل "أحرار الشام" و"نور الدين الزنكي" و"فيلق الشام" وغيرها.

أتاحت السيطرة على المعابر لهيئة تحرير الشام "النصرة" سابقاً، تقاضي الرسوم الجمركية عند المناطق الحدودية، واحتكار استيراد المواد الأساسية والمستلزمات المعيشية والمشتقات النفطية، والهيمنة على تجارة المحروقات التي كانت تمرّ من شرقي الفرات، حيث توجد مناطق "قوات سوريا الديمقراطية" نحو ريف حلب الشمالي، ثم إلى إدلب.

التحكّم بالاقتصاد، جعل الحياة في إدلب أمراً مستحيلاً، حيث بدأ الجولاني بابتزاز المدنيين وفرض الأتاوات عليهم، وسرقة أراضيهم ومحاصيلهم، وحرمانهم من أبسط حقوقهم، وهو ما ساهم في إغلاق عشرات المشاريع الصغيرة والمحال التجارية، إضافة إلى توقّف مئات الفلاحين عن الزراعة في أراضيهم خوفاً من سرقتها، وخاصّة أصحاب بساتين الزيتون، ما أدّى إلى تراجع زراعة الزيتون وإنتاج زيت الزيتون إلى الحدود الدنيا، في واحدة من أكثر المدن إنتاجاً للمادة داخل سوريا قبل الحرب.

مخيمات الموت البطيء

بظروف غير إنسانية وخيم غير صالحة للسكن، يعيش مئات الآلاف من المدنيين ضمن عشرات المخيمات المنتشرة في أرياف إدلب، حيث تغيب وسائل التدفئة بالكامل خلال فصل الشتاء، لذلك يلجأ الناس إلى حرق إطارات السيارات والملابس والأحذية إن وجدت، لتقيهم موجات البرد القارس.

تسيطر "هيئة تحرير الشام" على المخيمات بشكلٍ كامل وتتحكّم بكميات المساعدات الإنسانية الواصلة إلى المحتاجين، فلا يصل إلا "الفُتات" إلى داخل المخيمات شهرياً، حيث تؤكد مصادر محلية للميادين نت أن قوافل المساعدات تدخل عبر الحدود التركية عبر معابر تسيطر عليها الهيئة، ويتمّ نقل المساعدات لاحقاً إلى مستودعاتها المركزية، حيث تضع الهيئة يدها على جميع المساعدات وتحتكرها لنفسها، بينما ترسل كميات محدودة منها إلى المحتاجين في المخيمات، الذين يلجأ البعض منهم إلى شراء الطعام والشراب من عناصر الهيئة المكلّفين حراسة تلك المخيمات.

خلال العام الجاري أوقف برنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة مساعداته في جميع أنحاء سوريا، ما أدى إلى عواقب وخيمة على السكان في مختلف المناطق السورية، وكانت المخيمات هي الأكثر تضرراً وتحديداً تلك الواقعة تحت سيطرة "هيئة تحرير الشام" (هتش)، ما ينذر بكارثة إنسانية خلال الأشهر القليلة المقبلة، حيث تقدّر منظمات إنسانية أعداد النازحين القابعين في المخيمات بحدود 1.5 مليون شخص.

السرطان ينتشر في إدلب

وبعيداً عن الجانب الأمني والاقتصادي، تنتشر إحصائيات مرعبة لأعداد الإصابات بمرض السرطان في مدينة إدلب وريفها، وريف حلب أيضاً، في ظل انعدام المشافي والمراكز المتخصصة بعلاج السرطان في تلك المناطق، إضافة إلى ارتفاع تكلفة الجرعات الكيميائية والأدوية المهرّبة من تركيا إلى الشمال السوري، وأمام هذا الواقع يواجه مرضى السرطان ظروفاً صحية قاهرة، ولا يجدون متنفّساً لمعاناتهم اليومية.

تؤكد مصادر محلية من داخل إدلب أن عدد المصابين بمرض السرطان يصل إلى 4200 مريض، رفضت تركيا استقبالهم لتلقّي العلاج في مستشفياتها، بينما أغلقت "تحرير الشام" المعابر مع مناطق سيطرة الدولة السورية، ما يمنعهم من الوصول إلى المشافي الحكومية، برغم إعلان دمشق جاهزيتها أكثر من مرة لاستقبال مرضى السرطان وعلاجهم في مشافيها بشكلٍ مجاني كما يجري مع مختلف السوريين في جميع المحافظات السورية، لكن تنظيم الجولاني رفض العرض وأصرّ على المتاجرة بمعاناة المرضى، في سبيل ابتزاز المجتمع الدولي للحصول على مساعدات وهبات أكثر.

وطوال فترة سيطرة الجولاني في شمال غرب سوريا، واجه المدنيون نقصاً حاداً في الخدمات الأساسية وانقطاعاً مستمراً في المشتقات النفطية "إن وجدت"، بينما كان رفع الأسعار -المحسوب بالدولار- سمة رئيسية للمحروقات والمواد الغذائية في المنطقة، وكان لهذا الأمر انعكاس مباشر على السلع الأساسية والخضار والفواكه، التي شهدت أسعارها ارتفاعاً كبيراً، حيث وصل سعر ليتر البنزين إلى 1.3 دولار أميركي، أما سعر أسطوانة الغاز المنزلي فوصل إلى 12.87 دولاراً.

أمام هذا الواقع أصبحت الحياة صعبة للغاية بالنسبة للفقراء وذوي الدخل المحدود داخل إدلب، وباتت القدرة الشرائية متدنية للغاية، وهو ما أدى إلى تضاعف أعداد الفقراء في مختلف مناطق المدينة، في حين يستأثر الجولاني وتنظيمه بكل مفاصل الحياة داخل إدلب.

3 أذرع اقتصادية للجولاني

في العام 2018 أُعلن عن تأسيس شركة مستقلة داخل إدلب باسم "وتد" تختص بتجارة المحروقات واستيرادها، وعلى الرغم من نفي الجولاني وجود علاقة له مع الشركة، إلا أن "وتد" حصلت على كامل الدعم الأمني والسياسي واللوجستي من تنظيم "تحرير الشام"، وتؤكد مصادر محلية للميادين نت أنّ "وتد" استوردت النفط الأوكراني عبر شركات نفط تركية عن طريق معبر باب الهوى الحدودي، حيث تشتري الشركات التركية النفط الأوكراني وتبيعه لـ"وتد"، وبالتالي باتت الشركة هي المستورد الوحيد للمازوت والغاز المنزلي من تركيا والنفط الخام من شرق الفرات.

بعد تمدّد "وتد" في إدلب، أُغلقت محطات الوقود الخاصة بشكل كامل نتيجة احتكار الشركة لسوق المحروقات في الشمال، حيث تقدّر مصادر الربح الشهري الصافي للشركة بنحو 1.5 مليون دولار أميركي.

وفي مدينة سرمدا، الواقعة قرب معبر "باب الهوى" الحدودي مع تركيا وبرأس مال تجاوز 12 مليون دولار أميركي أسّس الجولاني شركة "نماء" التجارية ذات الاختصاصات المتعددة من العقارات، والصحة، وتمويل المناقصات، واستخراج الحجر والرخام وتصديره؛ وعلى الرغم من كونها حديثة الإنشاء، حقّقت أرباحاً صافية خلال شهر واحد قُدّرت بنحو 600 ألف دولار.

بعد المشتقات النفطية والعقارات والصحة، عمل الجولاني على تأسيس شركة "اليمامة"، التي هيمن من خلالها على القطاع الزراعي والحيواني في الشمال السوري، بعد احتكار تجارة الدواجن والأبقار والمنتجات الحيوانية، إضافة إلى فرض الأتاوات على المزارعين.

تسبّبت شركات الجولاني بتكبيد التجار الصغار والمزارعين خسائر بمئات آلاف الدولارات، نتيجة احتكارها للمواد الأساسية في الأسواق وفرض الضرائب على كل مشروع جديد، وهو ما ساهم في توقّف العجلة الاقتصادية تماماً وازدياد الطبقة الفقيرة، في ظل الغلاء الفاحش الذي تشهده الأسواق.

الزراعة أبرز القطاعات المتضررة

لطالما اعتبرت مدينة إدلب خزّاناً زراعياً استراتيجياً في سوريا قبل الحرب، وتحديداً بزراعة أشجار الزيتون، حيث كانت المدينة الأعلى إنتاجاً للزيتون وزيته، لكن الأمر اختلف كثيراً منذ العام 2015 حتى اليوم، فأعداد الأشجار في تناقص مستمر نتيجة سيطرة الهيئة على أراضي الفلاحين ومنعهم من الزراعة وفرض "الأتاوات" عليهم، إضافة إلى أعمال القطع والحرق بسبب غلاء المحروقات ووسائل التدفئة، مما دفع معظم المزارعين إلى قلع الأشجار من كرومهم واستخدامها في تدفئة أسرهم.

بالتوازي مع ذلك، شهدت مستلزمات الإنتاج من البذور والمبيدات الحشرية والمحروقات ارتفاعاً قياسياً، ما أدى إلى انخفاض إنتاج الزيتون بنسبة أكثر من 80% عما كان عليه قبل العام 2011، فلم تعد زراعة الزيتون وقطافه حرفة سكان إدلب الأولى كما كانت سابقاً، وعلى خلفية ذلك أغلقت أعداد كبيرة من معاصر الزيتون أبوابها.

وعلى غرار الزيتون، تأثرت محاصيل زراعية عديدة بنقص الخدمات وغياب التجهيزات والواقع الأمني، وكان لإنتاج القمح نصيب كبير من المعاناة، خاصّة أنه يشكّل مصدر الدخل الأساسي لأكثر من 70% من أهالي ريف إدلب، كما أن لهذه المادة الدور الأكبر في الأمن الغذائي والاكتفاء الذاتي من المواد الغذائية الأساسية، إلا أنّ هذه الزراعة تأثّرت بشكل كبير نتيجة قلّة المحروقات وانخفاض كميات الأمطار الشتوية، لينعكس ذلك بشكلٍ مباشر على توفّر الطحين اللازم لإنتاج الخبز، وهو ما ساهم في ارتفاع أسعار المادة أكثر من مرة وانقطاعها في أحيانٍ أخرى، وفي هذا السياق تؤكد مصادر محلية في إدلب للميادين نت أن إنتاج القمح حالياً لا يغطي أكثر من 30% من الحاجة الفعلية للمادة، لذلك فإن أسعار الخبز ستشهد ارتفاعات متتالية خلال الأيام المقبلة.

المقاتلون الأجانب في كل مكان

لا يقتصر الاحتقان الشعبي في إدلب على الوضع الاقتصادي فقط، فوجود المقاتلين الأجانب المتطرفين في مختلف المناطق يشكّل مصدر قلق كبير للأهالي، خاصّة أن هؤلاء لهم اليد العليا في مختلف القطاعات السياسية والأمنية والاقتصادية والخدمية، ويحظون بمراتب قيادية عالية، إضافة إلى تمتعهم بحماية مباشرة من زعيم هيئة "تحرير الشام".

وتؤكد مصادر محلية أن من يعرفون بـ"الجهاديين الأجانب" في إدلب ينتمون إلى 15 دولة على الأقل، كالسعودية وتركستان الشرقية وكوسوفو وألبانيا والشيشان وصربيا ومقدونيا الشمالية وفرنسا، ولعل أشهر الجماعات المنتشرة في سوريا: الكتيبة الألبانية، وكتيبة "الإمام البخاري" الأوزبكية و"جند الشام" الشيشانية، و"كتيبة الملحمة تاكتيكال" المكوّنة من مقاتلين شيشان وأوزبك وأذريين.

لقد عمدت تلك الجماعات منذ دخولها إدلب إلى تهجير السكان الأصليين والاستيطان في قراهم، إضافة إلى سرقة مصادر رزقهم واستملاك أراضيهم الزراعية، وهذا ما يتضح جليّاً في منطقة جسر الشغور التي يسيطر عليها "الحزب الإسلامي التركستاني" و"الآيغور" منذ العام 2015، كما استوطن الأجانب في قرى الزنبقي وربيعة وعطيرة والغسانية وغيرها من قرى ريف إدلب.

اليوم، وفي ظلّ الاحتقان الشعبي وتدهور الوضع المعيشي وحالة الفلتان الأمني في الشمال السوري الخاضع لسيطرة تنظيم الجولاني؛ لا يبدو أن الاحتجاجات الشعبية ستهدأ في وقت قريب، وإنما ستتوسّع لتشمل قرى وبلدات جديدة، ما يعني أن الأهالي لن ينتظروا نتائج المفاوضات السياسية والمناورات العسكرية لإنهاء ملف إدلب، بل سيقولون كلمتهم بوجه من سرق أراضيهم وأرزاقهم.