أوكرانيا حقل تجارب.. روسيا تبرع بالحرب الإلكترونية وتُعطّل الذخائر الأميركية

قدرة روسيا على مكافحة الذخائر عالية التقنية لها آثار بعيدة المدى في أوكرانيا ومؤيديها الغربيين. وقد أدت دوراً رئيسياً، ومكنت الجيش الروسي من استعادة زمام المبادرة والتقدم على طول الطريق في ساحة المعركة.

  • أوكرانيا حقل تجارب.. روسيا تبرع بالحرب الإلكترونية وتُعطّل الذخائر الأميركية
    أوكرانيا حقل تجارب.. روسيا تبرع بالحرب الإلكترونية وتُعطّل الذخائر الأميركية

للوهلة الأولى، قد يعتقد الكثير من المهتمين بتطورات المواجهة الروسية - الأطلسية في أوكرانيا أن الهلع الأميركي من مسار التحول في الجبهة يعود إلى الانتصارات والإنجازات العسكرية الأخيرة التي حققتها موسكو في منطقة خاركوف شرق أوكرانيا، لكنْ ثمة دافع أخطر يكمن وراء رعب واشنطن، ويتمثل بالتفوق التكنولوجي الروسي في الحرب الإلكترونية.

يتمثل هذا التفوق في تعطيل فعالية الأسلحة الغربية، وتحديداً الأميركية منها، في ساحة المعركة، إذ إن العديد من الذخائر الأميركية الصنع الموجّهة عبر الأقمار الصناعية في أوكرانيا فشل في مقاومة تكنولوجيا التشويش الروسية، ما دفع كييف إلى التوقف عن استخدام أنواع معينة من الأسلحة المقدمة من الغرب بعد انخفاض معدلات تأثيراتها بشكل كبير، وفقاً لمسؤولين عسكريين كبار في كييف وتقييمات أوكرانية داخلية سرية.

أوكرانيا ميدان لاختبار الأسلحة

خلق الصراع في أوكرانيا ساحة اختبار حديثة للأسلحة الغربية التي لم يتم استخدامها مطلقاً ضد "عدو" كموسكو يتمتع بقدرة على التشويش على الذخائر الذكية عبر نظام تحديد المواقع العالمي (GPS).

في العادة، كانت الذخائر الأميركية الصنع الموجّهة، والمقدمة إلى كييف، ناجحة وفعّالة عند تسليمها للجيش الأوكراني، لكن قيام القوات الروسية بتطوير تقنيات تكنولوجية مضادة لهذه الأسلحة، ثم نجاحها في ما بعد باختراقها، وحرفها عن أهدافها، أفقدها ميزة تفوقها، وأضعف قوة تأثيراتها المفترضة في الميدان الأوكراني.

وتعليقاً على ذلك، كشف مسؤول عسكري أوكراني كبير في حديث صحافي أن القلق الغربي الشديد من تطور قدرات روسيا في الحرب الإلكترونية يشكل ضغطاً كبيراً على واشنطن وحلفائها في حلف الناتو لمواصلة الابتكار لتخطي التكنولوجيا الجديدة لموسكو، إذ يعدّ الابتكار سمة من سمات كل صراع تقريباً، بما في ذلك الحرب في أوكرانيا، إذ ينشر كل جانب التكنولوجيا والتغييرات الجديدة للتغلب على الآخر واستغلال نقاط الضعف عند كل طرف. 

الأسلحة التي نجحت روسيا في ضرب فعاليتها

أقرّ محللون ومسؤولون عسكريون غربيون بأن الجيش الروسي برع في الحرب الإلكترونية منذ سنوات، وهو يستثمر في الأنظمة التي يمكن أن تعطّل إشارات المكونات الإلكترونية الغربية وتردداتها، فضلاً عن نجاحه في الحدّ من فعالية أنواع أخرى من الذخائر والأنظمة العسكرية الأميركية المتطورة التي يمكن إيجازها بالآتي:

أولاً: نظام تحديد المواقع العالمي (GPS) الذي يساعد على توجيه بعض الذخائر الدقيقة نحو أهدافها.

ثانياً: قذائف المدفعية الدقيقة من طراز Excalibur التي تعدّ نموذجاً للعديد من الأسلحة الأميركية، لكونها باهظة الثمن وحديثة.

ثالثاً: قذائف المدفعية الهاوتزر الأميركية من طراز M777، المخصصة لتدمير أهداف (مثل مرابض العدو، والمركبات المدرعة) على بعد يتراوح بين 15 و24 ميلاً.

رابعاً: قنابل من طراز JDAM موجهة بدقة، وخارقة للتحصينات، ويصل مداها إلى 28 كيلومتراً، ويمكن إطلاقها من ارتفاع يتجاوز 13 كيلومتراً.

خامساً: قاذفات HIMARS "هيمارس" الصاروخية، وهي منظومة عملياتية خفيفة تنصب على عربات مدولبة، وتتألف من 6 مواسير يتم التحكم فيها أوتوماتيكياً. أما مداها، فيبلغ 80 كيلومتراً. ومن مميزاتها أن بإمكان كل صاروخ أن يحمل رأساً قتالياً عنقودياً أو رأساً يستخدم لزرع الألغام. كما يمكن استخدام راجمة HIMARS لإطلاق صاروخ بالستي واحد إلى مدى يبلغ نحو 300 كيلومتر.

تأثير التكنولوجيا الروسية في الأسلحة الأميركية الذكية

إن تشويش روسيا على أنظمة توجيه الأسلحة الغربية الحديثة، بما في ذلك قذائف المدفعية الموجهة المزودة بنظام تحديد المواقع العالمي (GPS)، ونظام صواريخ المدفعية عالية الحركة هاوتزر، أو نظام HIMARS القادر على إطلاق الصواريخ الأميركية الصنع التي يصل مداها إلى 50 ميلاً، أدى إلى تآكل قدرة الردع الأوكرانية بمواجهة القوات الروسية، الأمر الذي دفع المسؤولين في كييف إلى السعي بشكل عاجل للاستنجاد بالبنتاغون للحصول على تحديثات مضادة تبطل الإجراءات الروسية من قبل مصنعي الأسلحة الأميركيين.

أكثر من ذلك، تضمنت وثائق أميركية حصلت عليها صحيفة "واشنطن بوست" تفاصيل لم يتم الإبلاغ عنها سابقاً حول مدى نجاح التشويش الروسي في إحباط الأسلحة الغربية.

تكشف هذه الوثائق أن النموذج الأحدث لتقنية Excalibur (إكسكاليبور) الحالية فقد مميزاته وإمكاناته الحربية، إذ إن تجربة ساحة المعركة في أوكرانيا دحضت سمعتها كسلاح "طلقة واحدة، هدف واحد"، بانتظار أن يقوم البنتاغون والشركات المصنعة الأميركية بمعالجة هذا الخلل.

في البداية، حقق الأوكرانيون نجاحاً باستخدام طلقات Excalibur عيار 155 ملم، إذ أصابت أكثر من 50% من هذه الذخائر أهدافها بدقة  مطلع العام الماضي، وفقاً لتقييم سري أوكراني - أميركي استند إلى ملاحظات بصرية مباشرة، لكن الطامة الكبرى أن هذا المعدل انخفض على مدى الأشهر القليلة التالية بشكل حاد، ليصل إلى أقل من 10%.

أما السبب، فمردّه (والكلام هنا على ذمة التقييم أعلاه) إلى التشويش الروسي على نظام تحديد المواقع العالمي (GPS). هذا الأمر بدوره أرغم الجيش الأوكراني على التخلي عنها العام الماضي. 

من هنا، وبعدما أبلغ الأوكرانيون عن المشكلة، توقفت واشنطن قبل 6 أشهر عن توفير قذائف Excalibur بسبب ارتفاع معدل الفشل (بحسب مسؤولين أوكرانيين رفضوا الكشف عن هويتهم لمناقشة مسألة أمنية حساسة). 

في السياق ذاته، واجه الأوكرانيون تحدياً مماثلاً بقذائف موجهة من عيار 155 ملم قدمتها دول غربية أخرى. وما زاد الطين بلة أن الدول المانحة لهذه القذائف لم يتضح لها بعد لماذا أصبحت هذه الذخائر أيضاً عديمة الفعالية. 

كما قدمت صواريخ JDAM الأميركية التي أسقطتها الطائرات الأوكرانية على الجيش الروسي مثالاً آخر على الفشل في إصابة أهدافها بدقة. 

كان تقديمها في شباط/فبراير 2023 مفاجأة لروسيا، لكن خلال أسابيع، انخفضت معدلات إصابتها بعد الكشف عن "عدم مقاومة" التشويش الروسي، استناداً إلى التقييم الأوكراني السري. وفي تلك الفترة، أخطأت القنابل أهدافها من مسافة لا تقل عن 65 قدماً إلى نحو ثلاثة أرباع الميل.

أما بالنسبة إلى قاذفات HIMARS، فقد تم الاحتفال بها خلال السنة الأولى من الحرب لنجاحها في ضرب مستودعات الذخيرة الروسية ونقاط القيادة خلف خطوط "العدو"، لكن بحلول العام الثاني انتهى كل شيء، بعدما استخدم الروس الحرب الإلكترونية، وعطلوا إشارات الأقمار الصناعية. ونتيجة لذلك، فقد نظام HIMARS فعاليته تماماً، إلى حدّ أنه بات يخطئ الهدف بمقدار 50 قدماً أو أكثر.

وتبعاً لذلك، قال مسؤول عسكري أوكراني كبير: "عندما يكون الهدف، على سبيل المثال، جسراً عائماً... ولكنْ هناك انحراف بمقدار 10 أمتار، ينتهي به الأمر (أي الصاروخ) في الماء".

علاوة على ذلك، أكدت الوثائق أن شبكة من أنظمة الحرب الإلكترونية الروسية والدفاعات الجوية تهدد الطيارين الأوكرانيين، مضيفة أن بعض أجهزة التشويش الروسية تعمل أيضاً على خلق حالة من الاضطراب في نظام الملاحة للطائرات الأوكرانية. كما وجد التقييم أن الدفاع الروسي كثيف للغاية، إلى درجة أن الطيارين الأوكرانيين تحت تهديد السلاح دائماً.

تعقيباً على ذلك، أشار روب لي، وهو زميل بارز في معهد أبحاث السياسة الخارجية، وهي مجموعة بحثية مقرها فيلادلفيا، إلى أن استخدام روسيا للحرب الإلكترونية لمكافحة الذخائر الموجهة كان تطوراً مهماً في ساحة المعركة في العام الماضي. وأضاف: "العديد من الأسلحة تكون فعالة عندما يتم تقديمها، لكنها تفقد قوتها بمرور الوقت، وهو جزء من لعبة القط والفأر التي لا تتوقف بين الخصوم الذين يتكيفون ويبتكرون باستمرار".

في المحصلة، إن قدرة روسيا على مكافحة الذخائر عالية التقنية لها آثار بعيدة المدى في أوكرانيا ومؤيديها الغربيين؛ ففضلاً عن أنها أدت دوراً رئيسياً ومكّنت الجيش الروسي من استعادة زمام المبادرة والتقدم على طول الطريق في ساحة المعركة، إلا أن الخطورة تكمن بالنسبة إلى الولايات المتحدة، عندما تبدأ موسكو بتسليم هذه التكنولوجيا الحديثة لخصوم أميركا، وخصوصاً الصين وإيران، وحتماً ستصل إلى حزب الله وحركات المقاومة لاحقاً. هنا، لنتخيل كيف سيبدو المشهد في الكيان الإسرائيلي.

 

علي دربج - أستاذ جامعي. 

حلف الناتو يحاول التمدد باتجاه الشرق قرب حدود روسيا، عن طريق ضم أوكرانيا، وروسيا الاتحادية ترفض ذلك وتطالب بضمانات أمنية، فتعترف بجمهوريتي لوغانسك ودونيتسك، وتطلق عملية عسكرية في إقليم دونباس، بسبب قصف القوات الأوكرانية المتكرر على الإقليم.