اقتصاد ما بعد الحرب في سوريا.. الوجهة الجديدة!

تأثيرات الحرب السورية والحصار الغربي على دمشق، جعلها تتقلب في السنوات الماضية بين نظم وهياكل اقتصادية متعددة لمحاولة تلافي آثار الحرب والحصار، فأي وجهة تختار بين التشاركية والخصخصة لتحفيز الاقتصاد والاستثمار.

  • اقتصاد ما بعد الحرب في سوريا.. الوجهة الجديدة!
    اقتصاد ما بعد الحرب في سوريا.. الوجهة الجديدة!

تحت وطأة العقوبات الاقتصادية الخانقة التي فرضها الغرب على سوريا، بقيت الخطوات الحكومية خلال سنوات الحرب في حالة مواجهة مستمرة، ما منع من تحديد ملامح هوية اقتصاد البلاد، فتنوّعت وجهة المحاولات من دون أن تحسم تجربة بعينها مسار "اقتصاد الحرب"، وبقيت المحاولات الرسمية لمواجهة تهالك مؤسسات القطاع العام في ظل الحرب والحصار من دون حلول كاملة أو أثر واضح.

لكن سلسلة قرارات متتالية للحكومة السورية في أقل من 3 أشهر بهدف تعزيز "التشاركية" بين القطاعين العام والخاص، قد تحمل مساراً جديداً غير مسبوق وتدفع نحو قراءة تتجاوز حدود إقرارها، إلى دائرة أوسع تطال ملامح الهوية المقبلة لاقتصاد ما بعد الحرب، لما تقدمه تلك القرارات من مساحة هي الأولى من نوعها أمام القطاع الخاص، لرفد قطاعات حيوية كانت لعقود سبقت سنوات الحرب، حكومية تديرها الدولة السورية فقط.

خطوات حكومية سابقة.. آثار محدودة وهوية غائبة!

الحراك الحكومي السوري المتتالي نحو تغيّر البنية القانونية الناظمة لإدارة القطاعات الاقتصادية في البلاد لم يكن وليد المرحلة الحالية، وكان أشبه بمحاولات متضاربة بهدف إيجاد أرضية أكثر مرونة في التشاركية مع القطاع الخاص، لكن تضاد الوجهة، والتناقض بين الطرح والتنفيذ حال دون تحقيق أثر ملموس في السنوات الماضية والتي سبقت القرارات الأخيرة، خاصة في الفترة الممتدة من مطلع العام 2016 إلى منتصف العام 2023.

القانون رقم (5) للعام 2016 والذي أجاز التشاركية بين القطاعين العام والخاص بعد سنوات من النقاش والمداولة، سبقته بعام تقريباً موافقة الحكومة السورية على قانون أتاح لمجالس المدن والوحدات الإدارية تأسيس شركات قابضة لإدارة الخدمات والاستثمار، وعليه قامت محافظة دمشق في  العام ذاته بتأسيس شركة قابضة، وعلى المسار ذاته قامت محافظة حمص بتأسيس أخرى مشابهة في العام 2018.

وفي الإطار نفسه، أعلن رئيس الوزراء السوري السابق عماد خميس، خلال لقاء مع مجموعة من رجال الأعمال في معرض دمشق الدولي أيلول/سبتمبر 2018، أنّ الحكومة ستفتتح على الأرجح 50 مشروع بنى تحتية أمام مستثمرين خاصين على شكل الشراكة بين القطاعين العام والخاص.

كذلك أقر القانون رقم (43) لعام 2023 القاضي بإحداث هيئة عامة لإدارة أملاك الدولة واستثمارها، من دون أن تتمكن جميع هذه القوانين من تحقيق خرق يفتح مجال الاستثمار في قطاعات حيوية كانت أبوابها أغلقت لعقود مضت وبقيت مفاتيحها بيد المؤسسات الرسمية.

لكن طرح وزارة النقل السورية، أواخر العام الفائت، عقد استثمار الخطوط الجوية السورية للنقاش والتفاوض من دون إقراره حتى الآن، شكّل نقلة لافتة في بنية المفاهيم الحكومية السائدة حول الاستثمار في القطاعات الرسمية، خاصة إذا ما تم النظر إليه بالتوازي مع القرارات المتلاحقة في الأسابيع الماضية، ما يدفع نحو ضرورة التساؤل الحقيقي حول هوية الاقتصاد السوري في مرحلة ما بعد الحرب؟

قوانين جديدة.. هل تحدد هوية اقتصاد البلاد؟

في أقل من 10 أيام خلال شهر آذار/مارس الماضي، خرجت تصريحات متقاربة لوزيري الصحة (حسن الغباش) والتربية (محمد المارديني)، تحدث فيها وزير الصحة حول ضرورة تنظيم خدمات المشافي الحكومية التي كانت لعقود مضت مجانية لكل من يدخلها، من دون إلغائها بالمطلق إنما توجيهها إلى مستحقيها عبر التشاركية مع القطاع الخاص، بينما ناقش وزير التربية ضرورة أن يكون للتعليم الخاص عوائد مالية تعود إلى قطاع التربية.

وكذلك تحدث وزير الصناعة السوري عبد القادر جوخدار قبل ذلك بأيام حول وجود العديد من العروض المقدمة من القطاع الخاص والدول الصديقة للاستثمار في شركات القطاع العام تتم دراستها.

هذه التصريحات المتتالية لمسؤولين حكوميين مطلع العام الحالي، بدت وكأنها "تلميح" في سياق تغيير قادم قد يشكل مرحلة جديدة في الهوية الاقتصادية للبلاد.

قانون "إحداث الشركات المساهمة والشركات المشتركة" الذي أقره مجلس الشعب السوري مؤخراً، تجاوز التلميحات الوزارية ووسّع خيارات الاستثمار الممكنة أمام القطاع الخاص، وكذلك فعلت الموافقة التي أبداها مجلس الوزراء لتأسيس "الشركة السورية للإعلام"، ليتمكن القطاع الخاص لأول مرة من الاستثمار في هذا المجال، بالتوازي مع أخرى تخللت المرحلة ذاتها في مواعيد متقاربة، ولا سيما الإعلان عن توقيع عقود خاصة لتشغيل محطتي "دير علي" و"تشرين" الحراريتين وتوقيع أخرى أكبر وأوسع مع شركات صينية لإنشاء مشروع كهروضوئي، كلها قطاعات اقتصادية دخلها القطاع الخاص لأول مرة تحت عناوين واسعة وغير مسبوقة، كتلك التي قدمها المرسوم الرئاسي رقم (16) لعام 2024 بداية شهر أيار/مايو الفائت، والذي سمح للشركات الخاصة الاستثمار في صناعة التبغ وشرائه من الفلاحين، وأنهى حصرية إدارة واستثمار المؤسسات الحكومية لهذا الملف، ووسع بشكل لافت دائرة الخيارات التي يدخلها القطاع الخاص للمرة الأولى.

اقتصاد مواجهة الحصار.. "الاشتراكية" أم "التشاركية"؟

الهوية الدستورية للاقتصاد السوري مرت بمراحل مختلفة قبل الوصول إلى مفهوم "التشاركية" أو "الخصخصة"، والذي بدأ بالظهور في السياسة الاقتصادية للبلاد بشكله الأول في العام 2005 ضمن مفهوم اقتصاد "السوق الاجتماعي"، وهو شعار رفعه حزب البعث الحاكم حتى العام 2010، كما ظهر بشكله الثاني الأكثر وضوحاً في دستور العام 2012، والذي شكّل تحوّلاً مفصلياً وفتح الباب واسعاً نحو التخلي عن "الاشتراكية" دستورياً في المبادئ الاقتصادية الستة التي يقوم عليها.

ألغى الدستور الجديد سمة "الاشتراكية" الملازمة للاقتصاد، وحلّ مكانها القطاع الخاص شريكاً للقطاع العام في الاقتصاد الوطني، لكن سنوات الحرب التي تلت الدستور الجديد أدخلت مفهوم "التشاركية" بمرحلة "عدم وضوح"، يرى فيها البعض تشتتاً وغياباً للمنهجية المتماسكة، خاصة بالنظر إلى الخطوات الحكومية الأخيرة، التي تتقاطع مع مفاهيم ورؤى اقتصادية تبتعد في أثرها اللاحق عن الرؤية "الاشتراكية" التي قامت عليها البلاد طوال سنوات ما قبل الحرب، وقد تتعارض معها أيضاً.

ويمكن اعتبار ما عرف بـ "اقتصاد الحصار" منذ العام 2015 أكثرها تعارضاً في الوجهة والنتيجة، حيث بدت التجارب الرسمية حينها في حالة اضطراب غير واضحة الملامح بين "الاشتراكية" و"التشاركية"، بحكم خيار الأمر الواقع ومواجهة العقوبات، لتبدأ مرحلة شكّل فيها رفع الدعم عن عدد من المواد الأساسية والغذائية وأسعار الطاقة والمحروقات، إلى جانب إصدار قوانين الاستثمار للشركات الخاصة، أكبر السمات.

اقتصاد ما بعد الحرب 

القرارات الجديدة والمتلاحقة منذ مطلع العام الجاري، أتت بعد عام تقريباً، لم يتمكن خلاله الانفتاح العربي على سوريا من أن يكون بوابة، طال انتظارها، لرفد بنيتها الاقتصادية بمشاريع واستثمارات عربية شكلت سابقاً أحد أضخم الاستثمارات الوازنة في البلاد، وتزامنت مع توقيع اتفاقية لتوليد الكهرباء مع الصين وإلغاء أخرى مشابهة مع الإمارات، كانت ستشكل واحدة من أكبر مشاريع الطاقة البديلة، لكن العقوبات عرقلت تنفيذها وأبقتها قيد الانتظار بعد التوقيع عليها لمدة تجاوزت السنتين، وما سبقها من عقود لاستثمار الموانئ والمناجم مروراً بعقود التشغيل الحصرية لمحطتي توليد كهرباء "ديرعلي" و"تشرين" الحكوميتين، عبر شركات خاصة ومناقشة عقود استثمار المطارات وغيرها من القطاعات..

كلها تفاصيل تطرح تساؤلات ملحّة حول الهوية المقبلة للاقتصاد السوري بعد فتح باب الاستثمار الخاص للمرة الأولى في قطاعات حيوية كانت قبل ذلك حكومية تديرها الدولة السورية فقط، فهل سيكون نمط اقتصاد ما بعد الحرب في سوريا هو "التشاركية" أم "الخصخصة"؟

القرارات الأخيرة وتحديات "المراوحة في المكان"

نقاط مفصلية لا يمكن تجاوزها قد تضع الأثر المتوقع للقرارات الأخيرة ضمن خانة "المراوحة في المكان"، خاصة أن العقبات الأساسية التي واجهها الاقتصاد السوري منذ بدء الحرب والحصار مازالت موجودة وتشكل حائطاً صلباً لا يبدو أن القرارات الأخيرة عملت على تجاوزه، فعقبة تحويل الأموال الربحية للاستثمارات الخارجية، من سوريا إلى خارجها، ما زالت قائمة من دون حل، وقد تكون وراء إلغاء عقود الاستثمار في الطاقة بعد مرور أعوام على توقيعها، عقب تعثر إمكانية البدء فيها، وغيرها من الفرص المشابهة.

كذلك لم تغير القرارات الجديدة من واقع مشكلات كثيرة تطال الاستثمارات المحلية، والتي تضاف إليها أيضاً عقبات أخرى إلى جانب العقوبات المفروضة على البلاد، بسبب بعض الخطوات الحكومية الملزمة للمستثمرين المحليين والتي يرى فيها كثيرون قيوداً على الاستثمارات، كـ "المنصة الخاصة بتمويل الاستيراد" التي يرى فيها كثيرون آلية تدعم الاحتكار و"تكبيلاً" يطال هو الآخر كل خيارات الاستثمار في الصناعة والتجارة وغيرها.

أيضاً لم تتمكن كل الخطوات الحكومية السابقة والأخيرة من إيجاد حلول تعيد المستثمرين المحليين الذين هاجروا بسبب الحرب وآثار الحصار، ويعدّون كتلة هامة شكلت أحد أعمدة الاستثمارات في سوريا لعقود مضت وباتت تشكل ثقلاً وازناً في اقتصادات دول الجوار.

ووفق تصريحات رسمية، فإن هدف تأمين الصيانة والتأهيل للبنى اللازمة، بالإضافة إلى تأمين وسائط الدعم اللوجستي للموارد البشرية وغياب السيولة المالية اللازمة، كانت ضمن الأسباب الرئيسية التي وضعت خيار استثمار بعض القطاعات الهامة كمطار دمشق الدولي، في خانة التفاوض، أو الموانئ البحرية والمناجم، والتي دخلت حيز التنفيذ منذ سنوات، ما يشير بشكل أو بآخر إلى الأرضية التي رسمت مسار الخطوات الحكومية الأخيرة نحو الوجهة الجديدة للاقتصاد السوري، والتي حُصرت بمعظمها وفق التصريحات الرسمية ضمن خانة الظروف السياسية والعقوبات والحصار لتبرير خطوات حكومية كثيرة لناحية رفع الأسعار وإلغاء الدعم ووضع بعض المؤسسات والشركات في الاستثمار الخاص، ما أبقى ميزان الاقتصاد السوري من دون "قبان" واضح، يميل متأثراً بموازين الحسابات السياسية، لا بموازين التجارة التي تفرضها المعطيات الاقتصادية، ويدفع إلى التساؤل حول البنية التي سيقوم عليها الاقتصاد السوري مستقبلاً في ظل قرارات الأمر الواقع.. ماذا لو انتهى الحصار، هل سنعود إلى نقطة البداية، هل ستفقد هذه القرارات قانونيتها وصوابيتها بعد انتهاء الأسباب الموجبة لها؟