الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في موزنبيق وجنوب أفريقيا

كان اكتشاف الغاز في كابو ديلغادو في موزمبيق فرصة للنهوض بالبلد عموماً، وكابو ديلغادو خصوصاً عبر جلب الاستثمارات الأجنبية، لكن الفساد وفشل الحكومات ساهم في انتشار التنظيمات الإرهابية من "حركة الشباب" إلى "داعش".

  • الأبعاد الاستراتيجية لانتشار داعش في موزنبيق وجنوب أفريقيا
    الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في موزنبيق وجنوب أفريقيا

هناك حروب تخفي أخرى، وهذا ما يحدث على الأقل منذ الهجوم الذي شنّه تنظيم "القاعدة" على نيويورك في 11 أيلول/سبتمبر 2001. حينها، قال الرئيس الأميركي جورج بوش الابن: "من ليس مع أميركا فهو مع الإرهاب". وتحت ذريعة "الحرب على الإرهاب" قادت أميركا تحالفات دولية، وتوسع مجال تدخل حلف "الناتو" خارج أوروبا ونشرت أميركا قواتها وقواعدها العسكرية، خصوصاً في غرب آسيا وأفريقيا.

وبعنوان "الحرب على الإرهاب" احتُل العراق وأفغانستان والشمال الشرقي لسوريا وتعرض الصومال لهجمات دموية وحوصرت إيران وقُسِم السودان. وبذريعة "محاربة إرهاب الفلسطينيين" شُنت الحرب تلو الحرب على غزة التي يتعرض سكانها اليوم لحرب إبادة جماعية، وترتكب في حقهم جرائم حرب غير مسبوقة ينفذها الكيان الصهيوني المدعوم أميركياً وغربياً.

وبالرغم من أن إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب كانت ضامنة لوقف إطلاق النار في غزة، فإنها دعمت "إسرائيل" في عدم الدخول في مفاوضات المرحلة الثانية، وباركت بل شاركت في عودة "إسرائيل" إلى شن حرب الإبادة وترهيب الشعب الفلسطيني في غزة قصد تهجيره قسرياً، بناءً على هوى ترامب الذي رحّب به الإسرائيلي وتبنّاه.

هذا المخطط الجديد- القديم يعود إلى سنة 2006، تاريخ إحكام الحصار على قطاع غزة وتحويله إلى سجن كبير وفضاء يفتقر إلى أدنى شروط العيش الكريم. وقد لا نجانب الصواب إذا قلنا إن ترامب بعقلية التاجر وإدارته الصهيوإنجيلية هو الأكثر حماساً لتهجير سكان غزة التي تعوم فوق ثروات هائلة من الغاز الطبيعي، وتوجد في قلب المسار: بومباي – دبي – عسقلان – طنجة المتوسط – أميركا.

وما يحدث اليوم في غزة حدث ويحدث، وإن بأشكال وعناوين مختلفة، مع الأقليات المسلمة في العديد من الدول الأفريقية، منها موزمبيق.

اقرأ أيضاً: الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في غرب أفريقيا ودول الساحل

مسلمو كابو ديلغادو وظهور "جماعة الشباب" الموزمبيقية

  • خريطة تظهر إقليم كابو ديلغادو على الحدود بين موزمبيق وتانزانيا
    خريطة تظهر إقليم كابو ديلغادو على الحدود بين موزمبيق وتنزانيا

تعيش في شمال موزمبيق وتحديداً على الحدود مع تنزانيا، في محافظة كابو ديلغادو الغنية بالنفط والغاز والمعادن الثمينة، أقلية مسلمة عانت طويلاً من الفقر والتهميش والعنف والإحباط المتزايد. 

لقد كان اكتشاف الغاز في كابو ديلغادو فرصة للنهوض بموزمبيق عموماً وكابو ديلغادو خصوصاً عبر جلب الاستثمارات الأجنبية من قبل الشركات النفطية متعددة الجنسيات. لكن أوضاع الإقليم زادت استفحالاً نتيجة عدم وفاء الحكومة المتهمة بالفساد بوعودها في تشغيل المتضررين من مشروعات استخراج الغاز، وإقدامها بالتعاون مع الشركات متعددة الجنسيات بالاستحواذ على مساحات شاسعة من الأراضي في كابو ديلغادو؛ تمهيداً لإقامة المنشآت اللازمة لاستخراج الغاز. فتمت إعادة توطين نحو 550 أسرة، ومنع 900 أسرة أخرى من الوصول إلى أراضيهم من أجل الزراعة، إضافة إلى فقدان 3 آلاف أسرة مصادر رزقها من الصيد نتيجة التأثير السلبي الذي خلّفته عمليات اكتشاف الغاز على المخزون السمكي في هذه المناطق.

ونتيجة للعنف السلطوي والإقصاء وأحياناً التطهير العرقي، تبنّت "جماعة الشباب" (أنصار السنة والجماعة) التي تتخذ من مقاطعة كابو ديلغادو مقراً لها، منذ عام 2015، نهجاً معارضاً فدعت إلى مكافحة الفساد وتطبيق الشريعة الإسلامية في هذه المنطقة الشمالية الفقيرة. لكن عام 2017، ستسلك هذه الحركة، نهجاً عنيفاً وتنفذ أولى هجماتها.

وقد أدت أعمال العنف في هذا الإقليم إلى مقتل ما يقرب من 6 آلاف شخص ونزوح نصف سكان المقاطعة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة بعد أن أصبح العثور على الطعام والمأوى صراعاً يومياً في المنطقة الغنية بالموارد الطبيعية.

من "حركة الشباب" إلى "داعش موزمبيق"

في غياب أي رد فعل مساند أو دعم فعال من طرف الدول والمنظمات الإسلامية الرسمية كمنظمة المؤتمر الإسلامي، نسجت حركة الشباب علاقة مع "داعش" عام 2019. وفي سنة 2022، أُعلن رسمياً عن ولاية "الدولة الإسلامية في موزمبيق". وكانت وزارة الخارجية الأميركية سباقة إلى اعتبار "حركة الشباب" الموزمبيقية على أنها "داعش موزمبيق" في آذار/مارس 2021.

هذا التحول من تنظيم محلي يخوض صراعاً سياسياً وكفاحاً مسلحاً من أجل تحقيق مطالب تخدم الأقلية المسلمة في كابو ديلغادو إلى تنظيم إرهابي له امتدادات عالمية، متهم بمحاولة السيطرة على مشاريع الغاز لتمويل أعماله الإرهابية ويهدد أمن واقتصاد البلاد من خلال ضرب مصالح شركات الطاقة العالمية ما دفع بعضها إلى الانسحاب، مثل مجموعة "توتال" الفرنسية بعد الهجوم الذي تعرضت له منشآتها في كابو ديلغادو؛ هذا التحول خدم أجندات الاستبداد والفساد وأجندات القوى الاستعمارية.

وعوض أن تتوسل الحكومة الموزمبيقية بمقاربة شمولية (سياسية -اقتصادية- اجتماعية) لمواجهة العنف والحد من انتشار "داعش"، ركزت على الخيار الأمني، الذي بدأ بنشر قوات "فاغنر" الروسية عقب الزيارة الرسمية التي قام بها الرئيس الموزمبيقي إلى روسيا في آب/أغسطس 2019، إلا أن هذه القوات سحبت بعد شهرين فقط لأسباب متعددة. كما تعاقدت الحكومة الموزنبيقية في نيسان/أبريل 2020 مع شركة عسكرية من جنوب أفريقيا وهي مجموعة Dyck Advisory Group الاستشارية والمعروفة اختصاراً بـ DAG بهدف تقديم الدعم الجوي واللوجستي والاستشارات العسكرية للقوات المسلحة الموزمبيقية. بيد أنه تم إنهاء وجود هذه القوات في نيسان/أبريل 2021 بعدما اتهمها تقرير لمنظمة العفو الدولية باستهداف المدنيين.

في تموز/يوليو 2021، وقّعت حكومة موزمبيق والحكومة الرواندية اتفاقية أرسلت الأخيرة بمقتضاها جنوداً وقوات من الشرطة لتنفيذ عمليات أمنية وقتالية دعماً للحكومة الموزمبيقية في كابو ديلغادو، وقد بلغ عدد القوات الرواندية في نيسان/أبريل 2023 نحو 2800.

كما لجأت موزمبيق إلى طلب المساعدة من الجماعة الإنمائية للجنوب الأفريقي (سادك) التي أنشأت مركزاً إقليمياً لمكافحة الإرهاب والتطرف في الإقليم. وفي 15 تموز/يوليو 2021 نشرت "سادك" بعثتها في موزمبيق عقب قمة استثنائية انعقدت في مابوتو في موزمبيق في 23 تموز/يونيو 2021. من جهته، دشن الاتحاد الأوروبي البعثة الأوروبية للتدريب في موزمبيق (EUTM) والتي تركز عملها على التدريب العسكري المتخصص في مكافحة الإرهاب.

وبالرغم من النجاحات النسبية التي حققتها بعثة سادك والقوات الرواندية، فإن الصراع لا يزال موجوداً في مناطق من إقليم كابو ديلغادو بل وانتشر إلى أقاليم أخرى. هذا ما دفع مجمل الرأي العام في موزمبيق والمعارضة الرئيسية متمثلة في RENAMO إلى التحفظ على نجاعة المقاربة الأمنية التي نهجتها الحكومة وانتقدت نشر القوات العسكرية الخاصة، والقوات الرواندية.

اتهام جنوب أفريقيا بالعلاقة مع "داعش"

تتهم الولايات المتحدة جنوب أفريقيا بأنها أصبحت قنطرة مرور ومركزاً عملياتياً ولوجستياً لحصول "داعش" على الدعم الفني والتقني والمالي الذي تحتاجه في شرق أفريقيا. في هذا الصدد، لم تتردد الخزينة الأميركية في فرض عقوبات على مواطنين وشركات من جنوب أفريقيا اتهمتهم "بالانتماء" إلى تنظيم "داعش" وتقديم الدعم للتنظيم في موزمبيق والكونغو الديمقراطية. من جهته، حذر مجلس الأمن في تقرير صادر عنه من استغلال الجماعات الإرهابية لجنوب أفريقيا.

هذه الاتهامات نفتها جنوب أفريقيا نفياً قاطعاً معتبرة أنها تدخل في سياق الضغوطات الغربية القلقة من سياسات جنوب أفريقيا في العديد من القضايا الدولية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية. ومن المتوقع أن تزداد الضغوطات على جنوب أفريقيا في هذا الصدد، خصوصاً في ظل تشبثها بالدعوى التي رفعتها لدى محكمة العدل الدولية ضد الاحتلال الإسرائيلي واتهامه بارتكاب جرائم حرب وإبادة جماعية لسكان غزة.

خاتمة

وجود القواعد الأميركية في سوريا والعراق يُبرر اليوم بوجود بؤر وخلايا نائمة لـ"داعش" في البلدين. وفي أفريقيا - قارة المستقبل وعلى ثرواتها وخيراتها تخاض اليوم صراعات بين قوى عالمية، يُبرر وجود قوات أجنبية حكومية وغير حكومية بمبررات عديدة أولها محاربة الإرهاب. لكن يبدو أن هذا الوجود العسكري والاستخباري الكبير لم يكن له أثر كبير على التنظيمات الإرهابية.

وقد لا نجازف إذا قلنا إنه لم تكن هناك في الماضي ولا توجد اليوم رغبة فعلية للقضاء النهائي على الإرهاب. فوجود هذه القوات رهين بوجود "القاعدة" و"داعش" من أجل ضمان مصالح دولها وشركاتها، وهذا ما تفطنت إليه الجماهير الأفريقية في مالي وبوركينا فاسو والنيجر والكونغو وموزمبيق وندّدت به. ومن الغريب أن الذي أضعف نفوذ القاعدة بالدرجة الأولى - خصوصاً في أفريقيا - ليس التحالفات الدولية والإقليمية بل هو تنظيم "داعش".

أكيد أن النزاعات العرقية والمشكلات الاقتصادية والصراعات الدينية وهشاشة المنظومات الأمنية وفساد الأنظمة السياسية واستبدادها وعدم استقرارها وعجزها في تحقيق التنمية والعدالة والمساواة والاستقرار الأمني والسياسي، كلها عوامل قد تؤدي إلى تأجيج الصراعات بين أبناء الوطن الواحد وظهور التطرف والإرهاب. ولكن الأكيد أيضاً أن الإرهاب في الكثير من الأحيان صناعة أجهزة أمنية استعمارية تستغل الأوضاع المزرية لإشعال الفتن وإذكاء الصراعات لتحقيق أهداف تخدم أجنداتها وأطماعها ومصالحها.

اقرأ أيضاً: الأبعاد الاستراتيجية لانتشار "داعش" في القرن الأفريقي وشرق ووسط أفريقيا

اخترنا لك