الجيش السوداني يلاحق الدعم السريع.. الميدان والتحولات الاستراتيجية
تشهد الساحة السودانية تطورات هامة على أكثر من صعيد، ففي حين تتسع رقعة سيطرة الجيش على الأرض، واجهت خطوة الدعم السريع، بالحكومة الموازية، رفضاً دولياً وعربياً واسعاً.
-
جندي من الجيش السوداني بعد سيطرة الجيش على مصفاة نفط في السودان أواخر كانون الثاني/يناير 2025 .(رويترز)
بينما تحاول قوات الدعم السريع إقامة حكومة سودانية موازية في كينيا، بتوقيع "ميثاق سياسي" جمع قوات الدعم وأربع وعشرين كياناً سياسياً، وحركة مسلحة، ومنظمة مجتمع مدني، مقابل رفض مصري وتردد إثيوبي، يتواصل تقدم الجيش السوداني في وسط البلاد، بعد عام ونيف من انتقال الحكومة المركزية من الخرطوم إلى الشرق، مدينة بورسودان على البحر الأحمر، ذات الأهمية الاستراتيجية.
اللافت تصاعد الخلافات داخل أبرز وأكبر القوى الموقعة، حزب الأمة القومي، أحد أقدم الأحزاب التقليدية السودانية، أثر مشاركة رئيس الحزب المكلّف، فضل الله برمة، خليفة الصادق المهدي في المنصب، في التوقيع، حد سحب المجلس الرئاسي للحزب تكليفه، نظراً لما اعتبره المجلس انفراداً بالقرار، مع تواصل الجدل داخل الحزب بشأن شرعية برمة. ومن ناحية أخرى تمثل باقي القوى الموقعة انشقاقات عن كيانات أصلية، مثل "الجبهة الثورية"، التي تضم حركات مسلحة، والحركة الشعبية لتحرير السودان (فصيل الشمال المنشق)، وأطراف من الحزب الاتحادي، وحركة العدل والمساواة (المنشقة).
ما مضامين الدستور الانتقالي الذي وقّعه الدعم السريع، وما تأثيره على وحدة واستقرار #السودان؟
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) March 5, 2025
محلل #الميادين للشؤون الأفريقية والدولية محمد حسب الرسول في #المشهدية
#الميادين pic.twitter.com/hK3N1U0T49
الوسط والعاصمة مفتاحاً استراتيجياً
في الميدان، تقدم الجيش خلال الأشهر الماضية بإيقاع ثابت، يوحي بتنفيذ خطة مركبة لتفتيت قوات الدعم السريع، واستطاع الجيش في الحادي عشر من كانون الثاني/يناير، بعد معارك ضارية لثلاثة أيام، تحرير مدينة ود مدني، وسط البلاد، التي تبعد حوالي 200 كم من الخرطوم، وتعد أكبر مدن ولاية الجزيرة ذات الأهمية الاستراتيجية، مع توالي انسحابات الدعم منها، ومن ولاية سنار الواقعة جنوبها، بعد ضربات متلاحقة وتقدم للجيش قطَع خطوط إمداده، بموازاة انسحابه من عدة مواقع في إقليم دارفور، غرباً، الذي يشهد دعماً من حركة جيش تحرير السودان، بزعامة حاكم دارفور، مني أركو مناوي، للجيش، امتد إلى الخرطوم، ما أفقد الدعم معظم ولايتي الجزيرة وسنار، وسط وجنوبي شرق البلاد، ونقاطاً استراتيجية في العاصمة، التي تربطها بود مدني الآن ارتكازات قوات حكومية تطارد قوات الدعم، مع تواصل القتال فيها.
يبدو واضحاً ارتباط انتصارات الجيش في الأشهر الأخيرة بعملية إعادة انتشار واسعة، شملت القوات المسلحة وقوات الدفاع الشعبي، وقطّعت أوصال الدعم السريع داخل البلاد، بربط القوات الحكومية في عدة ولايات: النيل الأبيض في الوسط وإلى الجنوب، والقضارف جنوباً، وسنار، بعد السيطرة على منطقة "جبل مويا" الاستراتيجية فيها، مع قطع خطوط الإمداد القادمة من الخارج، تشاد تحديداً، بالإمساك بالمثلث الحدودي بين السودان وليبيا ومصر، والسيطرة على قاعدتي "بئر مزة" و"الزرق"، التابعتين للدعم شمالي دارفور، غربي البلاد.
أتاح هذا التقدم بسط السيطرة على قطاع كبير من وسط السودان، و"سنجة" أكبر مدن سنار، ثم توجيه حشد قوات كبير إلى العاصمة، بموازاة عملية كبيرة داخلها، بدأت الخريف الماضي، للإمساك بالجسور الاستراتيجية التي تربط أوصالها عبر النيل، وكانت المحصلة طرد قوات الدعم السريع من مساحات كبيرة فيها.
من ناحية أخرى، بات التفوق الجوي للقوات الحكومية، والاستخدام الكثيف للطيران المسيّر، يلعب دوراً أبعد من تحييد القدرات الهندسية والآليات، مع انتشار الدعم السريع في مساحات واسعة مكشوفة طبوغرافياً، هو تصفية القيادات الميدانية، الذي يعكس تفوقاً استخبارياً كذلك، وبالتالي اغتيال أبرز مساعدي حميدتي، مضوي حسين ضي النور، وقائد القوات في ولاية الجزيرة، "عبد الله حسين"، وقائد منطقة وسط دارفور، علي يعقوب جبريل، وأحد قادة الخرطوم - بحري، عيسى الضيف. والنتيجة سيطرة على أغلب مساحة وسط السودان، ظهير المنطقة الشرقية على البحر الأحمر، حيث بورسودان - مقر قيادة الجيش الجديد، وأغلب الخرطوم العاصمة، المقسمة بالنيل إلى قطاعات ثلاثة.
تقدم ميداني للجيش السوداني على حساب الدعم السريع في عدد من المحاور.
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) March 2, 2025
تقرير: حسين السيد #الميادين #السودان @HusseinHsayed pic.twitter.com/RxWZSZvILI
نحو غطاء محلي ودولي للدولة المركزية
بخلاف قوات الدعم السريع ذات الطبيعة اللامركزية والقبلية، ونمط انتشارها، بآليات خفيفة دون قواعد مركزية كبيرة، لتجنب ضربات الطيران، تتمتع القوات المسلحة السودانية بشعبية في عدة مدن ومراكز كبيرة، رغم التباين القبلي، وتكاثر الحركات الانفصالية بعد سقوط البشير، ممثلة تاريخية للحكم المركزي في العاصمة الخرطوم، رغم الانسحاب سابقاً من أغلب مساحاتها، ولطيف عريض من جمهور تيار الحركة الإسلامية، أي كتلة شعبية معتبرة، والشرائح الوسطى المدينية.
من هنا بات نموذج الدولة الوطنية الموحدة ضمانة لحد أدنى من الاستقرار الأمني، مقابل انتهاكات قوات الدعم ضد المدنيين، التي أظهرتها شهادات حية، وتقارير منظمات حقوقية غربية، وشهدتها مناطق عديدة حتى في إقليم دارفور، إلى حيث ينتمي القوام الرئيسي للقوات، فضلاً عن الجنسية الأجنبية لجزء آخر، مرتزقة من تشاد وبضع دول أفريقية.
جعل هذا المشهد الجيش، وخيار الدولة الوطنية، وإن أضعفه الواقع، ضرورة، كما جعل الأول عابراً الانتماءات القبلية إلى حد كاف لتأمين ظهير جماهيري، وقادراً على تمثيل البلاد في العلاقات الدولية الرسمية بين الدول، بعد أن ساهمت الكيانات دون الدولة (المتكاثرة آخر عقدين) في تفكيك البلاد، بلا أفق سياسي جامع واضح، في ظل ضعف القوى السياسية غير المسلحة، واعتماد وزن وفاعلية أغلب عناصرها على الحضور الإعلامي، والتمثيل الدولي للشعب بصفتها "معارضة الخارج"، دون تجذر شعبي معتبر.
على مستوى استراتيجي، توصلت روسيا والسودان إلى اتفاق يسمح لموسكو بإنشاء قاعدة بحرية على ساحل البحر الأحمر، وفقاً لتصريح وزير الخارجية السوداني لوكالة الأنباء الروسية. في خطوة طُرحت فكرتها أواخر عهد البشير عام 2017، تُكسب تحركات الجيش وزناً أكبر بصفة عامة، ضمن الحضور الروسي وسط وغرب أفريقيا، وربما ميزة ميدانية شرق البلاد تحديداً. وتغلق ملف شراكة "فاجنر" الروسية مع الدعم، التي رصدتها تقارير في السنوات الماضية، بموازاة ما نقلته وكالة "بلومبرغ" في كانون الأول/ديسمبر الماضي، أن روسيا تبيع الجيش السوداني ملايين براميل الوقود، وآلاف الأسلحة ومكونات الطائرات النفاثة، وأن إيران أرسلت إليه عشرات الطائرات المسيرة وشحنات من الأسلحة. وفي الخلفية موقف مصر الداعم له، والرافض جذرياً لخطوة الحكومة الموازية، بعد اتهامات الدعم المتواصلة لمصر بتنفيذ ضربات جوية استهدفت قواته، وعودة آلاف اللاجئين منها إلى السودان، بتوالي انتصارات القوات الحكومية.
ما دلالة الموقف المصري المؤيّد للحكومة السودانية تجاه التطوّرات الميدانية في #السودان، والرافض للاجتماعات التي تُعقد في #كينيا؟
— قناة الميادين (@AlMayadeenNews) February 24, 2025
الكاتب والمحلل السياسي أبي عز الدين #مصر#الميادين pic.twitter.com/q0gWifxIWI
رغم توالي عثور الجيش على أسلحة ومعدات إماراتية بحوزة قوات الدعم، بعد أشهر من بدء الصراع عام 2023، تأخر إعلان الدولة السودانية ذلك حتى العام الماضي، وأبلغت الأمم المتحدة بشكل رسمي موثق، دعمته تقارير استخباراتها العسكرية والعامة، أن الدعم السريع يتلقى تسليحاً من الإمارات، دون رد فعل أممي يُذكر، رغم تكرار رصد شحنات عسكرية دخلت البلاد من تشاد وليبيا، مع صمت مصري طويل بدا مبرراً بقوة العلاقة مع الإمارات، يوازي نشاطاً دبلوماسياً، دولياً وأفريقياً، لدعم موقف الحكومة المركزية في السودان، وحضور يتشكل حثيثاً في الصومال - شرقي أفريقيا، بإعلان ترفيع علاقات البلدين إلى مستوى استراتيجي، مطلع العام الحالي، وإرسال بعثة عسكرية محدودة في آب/أغسطس الماضي، لتكون أول الداعمين للجيش الصومالي في بعثة قوات الاتحاد الأفريقي الجديدة "AUSSOM" بعد انسحاب البعثة السابقة "ATMIS".
في الأيام الماضية ينعكس هذا الزخم الميداني والسياسي في رفع السودان دعوى رسمية إلى محكمة العدل الدولية، ضد الإمارات، مع طلب اتخاذ تدابير مؤقتة بشأن دعمها لقوات الدعم السريع، واتهام بالتواطؤ في إبادة جماعية ترتكبها قوات الدعم. ويشير إدراج الدعوى في أعمال المحكمة، كما يُظهر موقعها الرسمي على الإنترنت، إلى جدية الملف المقدَم للمحكمة وأدلة كافية للنظر فيه. وفي التوقيت نفسه استعادت مصر أخيراً ثمانية مواطنين اختطفهم الدعم، قبل حوالي عامين، ونُقلوا من مناطق اشتباكات في الخرطوم، على يد "الأجهزة المعنية" وفق قول إعلام رسمي مصري، وتنسيق مع أجهزة سودانية. خطوة تشير إلى تقارب أعمق بين البلدين يبدو قيد التشكّل، مع استعادة القوات الحكومية الخرطوم، الذي يعني تأمين شمال البلاد وخط الحدود المصرية الطويل، ووقف موجات اللجوء، وتهيئة المنطقة لاستقبال المزيد من العائدين من مصر.