شبح الحرب يخيّم على الكاريبي: فنزويلا أمام احتمالية غزو أميركي
الولايات المتحدة تحشد في الكاريبي تحت ذريعة "الحرب على المخدرات"، وفنزويلا ترد بسلسلة تحركات ميدانية داخلية، لكن هذا الوضع يطرح أسئلة كبرى لا تتعلق بمستقبل كراكاس فحسب وإنما بمستقبل القارة ككل.
-
الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو خلال الحفل الختامي لدورة العمليات الخاصة الثورية الثانية، (رويترز)
عادت أميركا اللاتينية خلال الأيام الماضية إلى واجهة الأحداث العالمية بعدما تصاعدت مؤشرات مواجهة مفتوحة بين الولايات المتحدة وفنزويلا. الانتشار العسكري الأميركي في البحر الكاريبي، مصحوباً بخطاب اتهامي يربط الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو وشخصيات حكومية بـ"تجارة المخدرات"، رسم صورة مقلقة عن استعداد واشنطن لتبرير تدخل مباشر بذريعة "الحرب على المخدرات".
هذا المشهد يستدعي في الذاكرة القريبة نماذج وُظفت فيها ذرائع مشابهة لشن حروب انتهت بكوارث إنسانية. لكن خصوصية الحالة الفنزويلية تكمن في أنّها تقع وسط قارة أعلنت منذ عقد أنها "منطقة سلام"، وفي بلد لا يزال يملك قاعدة اجتماعية متماسكة وجيشاً أعاد تنظيم صفوفه حول مفهوم "الحرب الشعبية الدفاعية".
منذ منتصف آب/أغسطس 2025 تتابعت التقارير عن تحركات بحرية أميركية نحو جنوب البحر الكاريبي، شملت 3 مدمرات و3 سفن إنزال برمائية (تحمل إحداها قوات مارينز وطائرات إقلاع عامودي) وغواصة نووية وقوة بشرية قوامها نحو 4500 جندي.
ورغم غياب إعلان رسمي صريح من "البنتاغون"، فإن التسريبات الإعلامية وبيانات البيت الأبيض قدّمت صورة متناقضة تتأرجح بين عمليات "اعتراضية" ضد شبكات تهريب وبين التلميح لعمل عسكري محدود. التناقض نفسه غذّى شعوراً عاماً بأن واشنطن تمارس "حرباً نفسية"، ترمي إلى تهيئة الرأي العام المحلي والإقليمي لقبول احتمال تدخل عنيف.
ردّت كراكاس في البداية بسلسلة تحركات ميدانية داخلية، أبرزها تفعيل أكثر من 5 آلاف دائرة أمنية محلية، وإطلاق حملة تجنيد عامة في "الميليشيا الوطنية البوليفارية" وصلت المشاركة فيها إلى ما يزيد على 5 ملايين مواطن من مختلف الفئات العمرية.
وإلى جانب ذلك، أكدت كاراكاس تحريك جزء من أسطولها البحري ردّاً على الحشد الأميركي: دوريات وسفن في بحيرة ماراكايبو وخليج فنزويلا، وقطع أكبر شمالاً، مع مسيّرات وزوارق نهرية ووحدات من مشاة البحرية لتأمين الحدود.
الهدف المعلن قطع قنوات التهريب وحماية السيادة، لكن الإشارة الأوضح: فنزويلا ترفع مستوى الجهوزية وتضع الكاريبي أمام معادلة ردعٍ تحول دون مرور أي استفزاز أميركي بلا كلفة.
وعل أي حال، لم يكن البعد العسكري وحده ما أشعل القلق. فقد رافقت تلك التحركات مضاعفة المكافأة الأميركية المرصودة للإطاحة بالرئيس مادورو إلى 50 مليون دولار. وقوبلت هذه الخطوة في الداخل الفنزويلي برفض واسع حتى من أطياف معارضة تعتبر أنّ تحويل رئيس منتخب إلى "جائزة" مالية يمثّل إذلالاً للسيادة الوطنية.
واستُخدمت الاتهامات الأميركية لربط الحكومة بـ"تهريب الكوكايين"، رغم أنّ تقارير الأمم المتحدة والوكالات المختصة لم تُدرج فنزويلا بين الدول المنتجة للمخدرات. وهذه المفارقة عززت رواية كراكاس بأنّ "الحرب على المخدرات" ليست سوى ستار لتبرير مغامرة عسكرية تستهدف إخضاع بلد يملك أكبر احتياطي نفطي مؤكد في العالم.
في الواقع، لا يمكن فصل إرسال الولايات المتحدة قواتها البحرية إلى جنوب الكاريبي عن الصراع المحتدم حول إقليم "غويانا إيسيكيبا"، ذلك الإقليم الغني بالنفط والغاز والذي أعلنت فنزويلا في أواخر عام 2023 ضمّه رسمياً باعتباره ولاية جديدة ضمن سيادتها.
هذا التحرك الفنزويلي أعاد إشعال النزاع التاريخي مع دولة غويانا المتاخمة، لكنه في الوقت نفسه جذب أنظار الشركات الأميركية العملاقة وعلى رأسها "إكسون موبيل" التي تستثمر مليارات الدولارات في استخراج النفط من المياه المتنازع عليها.
وجود البوارج الأميركية قرب السواحل الفنزويلية يُفهم هنا باعتباره رسالة مزدوجة: حماية مصالح الطاقة الأميركية في مياه "غويانا إيسيكيبا"، والضغط على كاراكاس للتراجع عن خطواتها السيادية. وبمعنى آخر، ما يبدو كحملة "مكافحة مخدرات" ليس سوى ستار يخفي وراءه حسابات استراتيجية أعمق تتعلق بالهيمنة على موارد الطاقة في حوض الكاريبي.
لكن الصراع لا يُقاس بميزان القوة العسكرية فحسب. فعلى الساحة الدولية، استطاعت فنزويلا استدعاء دعم صريح من روسيا والصين وإيران ودول "ألبا"، إضافة إلى تأييد سياسي من المكسيك وكولومبيا وكوبا ونيكاراغوا وغيرها.
البيانات الصادرة عن عواصم هذه البلدان لم تكتف برفض التهديدات، وإنما ربطتها بخرق واضح لمعاهدات مثل "تلاتيلولكو" التي حوّلت أميركا اللاتينية إلى منطقة خالية من السلاح النووي.
لقد اعتبر نشر غواصة نووية أميركية في البحر الكاريبي انتهاكاً مباشراً لالتزامات قديمة، وهو ما دفع كراكاس لتقديم شكوى رسمية إلى الأمم المتحدة والمطالبة بضمانات علنية من واشنطن. وهنا يظهر البعد الأخطر: أي مواجهة عسكرية في الإقليم لن تظل ثنائية بين الولايات المتحدة وفنزويلا، وإنما ستفتح المجال أمام تفاعلات إقليمية ودولية معقّدة تزيد من حدّة الانقسام في النظام العالمي الراهن.
في السياق ذاته، برز الموقف الكوبي مع تحذير هافانا من أنّ استخدام ملف "المخدرات" ذريعة للتدخل يكرّر سيناريو أسلحة الدمار الشامل في العراق. أما المكسيك، فاستعادت مبادئها الدستورية لتعلن بوضوح أنّها لن تدعم أي تدخل في فنزويلا، وهو موقف يعكس خشية من أن يؤدي إشعال الحرب إلى موجات نزوح واضطراب اقتصادي يضرب كامل المنطقة.
بدوره قدّم الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو بعداً إضافياً حين وصف "كارتل دي لوس سوليس" (الذي يُتهم مادورو بقيادته) بالاختراع السياسي، مقارناً إياه بأسطورة أسلحة صدام حسين.
هذه المواقف مجتمعة، إضافة إلى غيرها، تُظهر أنّ أميركا اللاتينية ليست كتلة متجانسة مع حسابات الولايات المتحدة ولا يمكن لواشنطن جرّها بسهولة خلف مخططاتها.
ومع ذلك لا يميل ميزان القوة ببساطة لصالح كاراكاس. فوجود قطع بحرية أميركية مزوّدة بقدرات صاروخية وهجومية متقدّمة، إضافة إلى الدعم الجوي المتواصل، يتيح لواشنطن تنفيذ ضربات محدودة تستهدف مواقع عسكرية أو منشآت استراتيجية تحت عنوان "عمليات جراحية".
وهذا النوع من التدخل، وإن كان لا يصل إلى مستوى الغزو الشامل، قد يكفي لإحداث فوضى وفتح الباب أمام تصعيد داخلي. وهنا تكمن خطورة الحرب الهجينة، حيث يجري خلط الحصار الاقتصادي الضاري والحرب الإعلامية بعمليات عسكرية انتقائية. بيد أنّ تقديرات كثيرة تشير إلى أنّ كلفة هذا السيناريو على واشنطن ستكون مرتفعة، ليس بسبب احتمالات ردّ عسكري فنزويلي فحسب، وإنما أيضاً لتداعياته على استقرار أسواق النفط والهجرة في القارة.
وعلى الأرض تُظهر فنزويلا قدرة على ضبط حدودها الغربية حيث ينشط تهريب المخدرات عبر كولومبيا. عمليات "برق كاتاتومبو" مثّلت نموذجاً عن استعداد الجيش لمواجهة شبكات التهريب. وإعلان وزارة الدفاع عن ضبط عشرات الأطنان من المخدرات خلال العام يؤكد أنّ البلاد تحوّلت من ممر محتمل إلى جدار صدّ.
وهذه الوقائع تقوّض السردية الأميركية وتمنح كراكاس ورقة قوة في خطابها الدولي. كما أنّ التلاحم بين الجيش والشرطة و"الميليشيا الوطنية" في إطار الاندماج الشعبي-العسكري يعكس تحوّلاً مؤسساتياً يسعى إلى تحويل الدفاع عن السيادة إلى مسؤولية جماعية لا حكراً على القوات النظامية.
في هذا المشهد، تبدو استراتيجية واشنطن حلقة جديدة من مشروع أوسع يستهدف الحكومات المناهضة للإمبريالية والهيمنة الأميركية. فمنذ محاولة انقلاب 2002 على تشافيز وكل ما تَبِع ذلك، وصولاً إلى العقوبات الخانقة التي سببت هجرة عشرات آلاف الفنزويليين ومحاولات اغتيال مادورو وعملية "جدعون" الانقلابية العسكرية الفاشلة في عام 2020، لم تنجح الولايات المتحدة في تغيير النظام.
ولذا يبدو أنّ خيار التلويح بالقوة العسكرية يعكس مأزقاً استراتيجياً أكثر مما يعكس ثقة بالقدرة على الحسم؛ وهو أيضاً محاولة للضغط على حلفاء مادورو ودفعهم للتراجع، أو لإعادة إحياء صورة "الرجل القوي" في السياسة الأميركية تعويضاً عن عوار تراجع هيمنتها العالمية.
ومع ذلك، لا يمكن إغفال أنّ أي مغامرة عسكرية ستضع الولايات المتحدة في مواجهة مقاومة شعبية مسلّحة. ملايين المتطوّعين الذين تدربوا ضمن "الميليشيا"، والتجربة التاريخية للشعب في مقاومة الاستعمار والانقلابات، كلها عوامل تجعل فكرة الغزو أو الهيمنة المباشرة شبه مستحيلة. وربما يدرك المخططون العسكريون في واشنطن أنّ أقصى ما يمكن تحقيقه هو إرباك داخلي أو إحداث شرخ في القيادة الفنزويلية عبر "عمليات جراحية"، لكن دون ضمان القدرة على بناء نظام بديل مستقر. هذه المفارقة تضع احتمالية الغزو في خانة التهديد القابل للاستعمال السياسي أكثر من كونه خياراً حتمياً للتنفيذ.
يبدو أنّ مصير هذه الأزمة سيتوقف على مزيج من الحسابات الدولية والإقليمية. إذا تمكّنت كراكاس من حشد دعم أوسع داخل الأمم المتحدة وربط التدخل بخرق معاهدات ملزِمة، فإنّ هامش المناورة الأميركي سيتقلّص. وإذا واصل الحلفاء الإقليميون رفع الصوت ضد عسكرة الكاريبي، فستجد واشنطن نفسها أمام كلفة سياسية مضاعفة.
بيد أنّ احتمال وقوع "حادث" ما يظل قائماً، وهو ما تخشاه فنزويلا التي ترى أنّ خلق ذريعة في مياهها الإقليمية قد يكون مدخلاً لخطوة عسكرية تصعيدية. وعلى أي حال، يبقى الشعب الفنزويلي متمسّكاً بخيار المقاومة، مستنداً إلى قناعة بأنّ التاريخ لا يرحم من يتنازل عن استقلاله تحت وقع التهديد.
الأسئلة الكبرى المطروحة اليوم لا تتعلق بمستقبل فنزويلا فحسب، وإنما بمستقبل القارة ككل. هل ستبقى أميركا اللاتينية قادرة على حماية إعلانها "منطقة سلام" أم ستُجَر إلى مواجهة جديدة تكرّر مآسي التدخلات السابقة؟ هل تستطيع القوى الصاعدة مثل الصين وروسيا تحويل تضامنها السياسي إلى مظلة ردع فعلية أم أنّ النظام الدولي المأزوم سيترك فنزويلا تواجه مصيرها منفردة؟
هذه الأسئلة المفتوحة تعكس أنّ الأزمة أبعد من كونها خلافاً بين بلدين، بل هي اختبار لمعنى السيادة في عالم تُعاد فيه صياغة موازين القوة. وفي قلب هذا الاختبار تقف فنزويلا، رافعة راية مقاومة قد تحدّد مسار القارة لسنوات قادمة.