في خلفية تحذير السيد نصر الله.. تاريخ طويل من التعاون العسكري بين قبرص و"إسرائيل"

تاريخ طويل من التعاون العسكري يجمع بين قبرص وكيان الاحتلال الإسرائيلي، تخللته مناورات عديدة تحاكي حروباً على لبنان. علاقة قابلة للتطوّر إلى حد انخراط قبرص في أي عدوان مقبل على لبنان، عن طريق فتح مطاراتها أمام طائرات الاحتلال إذا أخرجت مطاراته من الخدمة. فهل يردع تحذير السيد نصر الله قبرص عن ارتكاب هذه الحماقة؟

  • في خلفية تهديد السيد نصر الله.. تاريخ طويل من التعاون العسكري بين قبرص و
    "الجيش" الإسرائيلي نفّذ في قبرص عدّة مناورات، حاول من خلالها محاكاة معركة مع لبنان، مستفيداً من تضاريس البلاد والمسافة بينها وبين فلسطين المحتلة

أكد الرئيس القبرصي، نيكوس خريستودوليدس، في تغريدةٍ له عبر حسابه الشخصي في منصة "إكس"، أن بلاده لا تشارك بأي شكل من الأشكال في أيّ أعمال عدائية، وأنها "جزء من الحل وليست جزءاً من المشكلة".

كلام الرئيس القبرصي، جاء بمثابة تأكيد بأنه يتعامل بجدّية مطلقة مع ما أعلنه الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، في خطابه الأخير ضمن الاحتفال التأبيني الذي أُقيم أمس الأربعاء، تكريماً للشهيد القائد طالب عبد الله "أبو طالب" ورفاقه في الضاحية الجنوبية لبيروت.

بين نفيَين.. اتهامٌ قائم وتهديدٌ غير مسبوق

كان السيد نصر الله قد حرص، في سياق إعلانه موقف المقاومة التفصيلي من التطورات الأخيرة، وتحديداً لجهة التهديدات الإسرائيلية المتزايدة بتوسعة الحرب على لبنان، على تحذير الحكومة القبرصية من فتح مطاراتها وقواعدها لـ"إسرائيل" لاستهداف لبنان، مؤكداً أنّ ذلك يعني رسمياً "أنها أصبحت جزءاً من الحرب"، وأن المقاومة ستتعاطى معها وفقاً لذلك.

من المعروف عن السيد نصر الله، وبناءً على اعتراف العدو قبل الصديق، هو التزامه وتحمّله لمسؤولية ما يقوله ويتناوله من مواضيع في خطاباته، والتأني الشديد بانتظار التثبّت من أي موضوع قبل طرحه، مهما كان متداولاً سواء في الدوائر المغلقة ضمن الأوساط الأمنية والعسكرية، أو حتى في الفضاءات المفتوحة السياسية والإعلامية القريبة من المقاومة، ثم تحرّي الدقة البالغة في توصيف الموضوع وتفصيله، وانتقاء العبارات بعناية تصل إلى حد الحديث عن الأمر شبه الأكيد بوصفه مجرد احتمال، في بعض الحالات.

ولكن السيد نصر الله، وبرغم كل ما سبق، كان واضحاً ومباشراً في مقاربته هذه النقطة، لأنها لا تحتمل سوى الوضوح والمباشرة، فالحديث هنا هو عن مناورات إسرائيلية – قبرصية مشتركة ومعلَنة، تجري سنوياً في قبرص، في مناطق جبلية تضاريسها مشابهة لتضاريس جنوب لبنان، وباستخدام مطارات قبرصية.

وكان السيد نصر الله جازماً في الحديث عن نية الاحتلال تعويض مطاراته ومدارج طائراته - بعد استهداف المقاومة لها في أي حرب مقبلة - بالمطارات القبرصية، للانطلاق منها في عدوانه المحتمل ضد لبنان.

وتكمن أهمية الموضوع في هذه الجزئية المستجدّة منه، فالتعاون العسكري بين الطرفين قائم منذ سنوات، ومع ذلك، لم يجد السيد نصر الله أنه يستوجب تهديداً مباشراً منه، حتى عند ربطه بالتخطيط لعدوانٍ مستقبليّ على لبنان، أما الاشتراك بالعدوان عند حصوله، فهو أمر آخر، يستوجب مقاربةً أخرى حازمة ورادعة.

وإذا كان نفي الرئيس القبرصي صحة تلك المعلومات، سابقاً، أمام مسؤولين في الدولة اللبنانية، لم يغيّر شيئاً في موقف السيد نصر الله، فإن نفيه المستجد، والذي أتى لاحقاً للاتهام والتهديد العلنيين، الورادين ضمن خطاب السيد نصر الله، لن يغيّر شيئاً بدوره، ما يُبقي الاتهام قائماً والتهديد قابلاً للتنفيذ فور توفّر شروطه، فلا يسقطان إلا إذا قرّرت قبرص الإحجام عن أداء هذا الدور.

"مركبات النار".. كي لا يضلّ الجنود طريقهم في لبنان!

ما أشار إليه السيد نصر الله، لجهة تنفيذ مناورات برية في مناطق جبلية في قبرص، تضاريسها شبيهة بالتضاريس اللبنانية، لمحاكاة معركة على الجبهة الشمالية (لبنان)، كان مستنداً إلى معلومات تفصيلية بشأن تاريخ طويل من التعاون العسكري بين الطرفين، تخلله عدد من المناورات، أبرزها مناورة "مركبات النار"، التي جرت بين أيّار/مايو وحزيران/يونيو 2022.

المناورة التي وصفها الإسرائيليون، في حينه بأنها الأكبر في تاريخ "إسرائيل"، شاركت فيها قوات من الفرقة "الـ98"، والتي تضم لواء الكوماندوس في "جيش" الاحتلال، كما شارك سلاح الجو الإسرائيلي في المناورة مشاركةً فعّالة، وفقاً لما ذكره مدير قسم الشؤون الإسرائيلية في قناة الميادين، عباس إسماعيل، في تقريرٍ بعنوان "إسرائيل تتدرّب في قبرص على غزو لبنان: السياق والأهداف والإشكاليات".

وجاءت المناورة كخطوة ضرورية بالنسبة لمسؤولي الاحتلال، في سياق استخلاص العبر من إخفاقات حرب تموز/يوليو 2006 والبلاء السيّئ الذي أبلاه "جيش" الاحتلال الإسرائيلي بصورة عامة، والوحدات البرية بصورة خاصة، والذي دقّ جرس الإنذار لدى المستويات السياسية والعسكرية في "إسرائيل"، وأثار نقاشاً صاخباً داخل الكيان.

وفي الحديث عن أسباب اختيار قبرص دون غيرها، أكدت صحيفة "إسرائيل هيوم" الإسرائيلية، نقلاً عن ضباط في "جيش" الاحتلال، أنّها "نسخة عن لبنان، في المسافة، وأيضاً الظروف الجغرافية التي سيُشاهدونها في الحرب المقبلة أمام حزب الله". وأضافت الصحيفة أن "قبرص تشبه لبنان: الجبال، النباتات، ضرورة العمل بين مدنيين. بالنسبة إلى الضبّاط والجنود الشبّان، هذا عالم جديد وغير معروف. معظمهم وُلد قبيل وقت قصير من الانسحاب من جنوبي لبنان عام 2000، ولم يشاركوا في حرب لبنان الثانية".

وبحسب الصحيفة، فإن خلاصة المناورة تكمن في أنّ ما حدث في حرب لبنان الثانية "ممنوع أن يحدث المرة المقبلة: قوات علقت على بعد متر من السياج؛ جرحى انتظروا ساعات لإخلاء طبي؛ وسائل قتالية وأغذية لم تصل في الوقت المحدَّد؛ الجيش تعثّر بذيله؛ ومقاتلون ضلّوا الطريق..".

وإذا كانت "مركبات النار" هي الأقوى في حينها، فهي لم تكن الأولى ولا الأخيرة من نوعها، فقد سبقتها مناورات مماثلة، وتلتها مناورة "شمس زرقاء" في العام 2023، أما آخر المناورات الإسرائيلية - القبرصية المشتركة فقد أُجريَت في نيسان/أبريل الماضي لمحاكاة هجوم إسرائيلي على إيران.

صحيفة "يديعوت أحرونوت" الإسرائيلية، كشفت في آذار/مارس الماضي، أنّ "إسرائيل تتجه إلى الاستحواذ على ميناءٍ في قبرص"، متحدثةً عن حجة "حماية وارداتها من البضائع في حال استهداف ميناء حيفا"، ومُشيرةً إلى أنّ المبادرة مثّلت "استجابةً لسيناريوهات الأمن القومي والتحديات المتعلقة بالخدمات اللوجستية البحرية".

وأفادت باهتمام القبارصة بالاقتراح الإسرائيلي، كما كشفت أنّ التكلفة التقديرية لهذا الاستحواذ تبلغ نحو 140 مليون دولار.

ليس التهديد الوحيد.. هل تتورّط قبرص بما يهدّد أمنها؟

وإذا كان تهديد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصر الله، واضحاً وقاطعاً، فإنه كان في الوقت نفسه موجزاً، وتناول الزاوية التي تعني المقاومة بشكل مباشر، بهدف زيادة الضغط على قبرص لمنعها من التورّط في تسهيل أي عدوان إسرائيلي على لبنان، والاشتراك فيه، ولكن هذا لا يعني أن الضغط غير موجود، ولا ينفي أنّ لتوسعة الحرب مع لبنان مخاطر أخرى على قبرص، يعرفها الرئيس القبرصي جيداً، وهي التي حملته إلى لبنان في زيارته الأخيرة إليه.

فالسلطات القبرصية تخشى من أن يدفع اشتداد المعركة وتحوّلها إلى حرب مفتوحة بمئات آلاف اللاجئين السوريين إلى الهرب باتجاه قبرص، بهدف العبور منها إلى دول الاتحاد الأوروبي، بما يهدّد الأمن والاستقرار فيها، خصوصاً أن عدد سكانها لا يتجاوز مليوناً وربع مليون نسمة موزّعين على مساحة تبلغ 9 آلاف كيلومتر مربع، بحسب ما ذكره أستاذ تاريخ العلاقات الدولية في الجامعة اللبنانية جمال واكيم في مقالة له عبر موقع الميادين.

ويضيف واكيم أن المخاطر التي تتهدّد قبرص من تدفّق اللاجئين قد تأتي من حيث لا تحتسب نيقوسيا، مع ورود تقارير عن إقدام شركات عقارية إسرائيلية على شراء عدد هائل من العقارات، في منطقة شمال قبرص التي تعدّها نيقوسيا إقليماً متمرداً، ولا تعترف بها إلا تركيا.

ويرجّح واكيم أن يكون ذلك مرتبطاً بالحلول "السوريالية" التي يطرحها الإسرائيليون لتصدير الأزمة عبر ترحيل الفلسطينيين إلى عدّة بلدان أوروبية، وفق ما طالب به المسؤولون الصهاينة الذين وصل بهم الحد إلى المطالبة بتوطين الفلسطينيين في اسكتلندا وأيرلندا.

"التصعيد لمنع التصعيد".. في معنى التهديد وسياقه

لم يسلم تحذير السيد نصر الله للحكومة القبرصية، من موجة سوء الفهم الداخلي المتعمّد التي تحاصر كل ما يطلقه من مواقف، فانبرت بعض الأصوات مجدداً للحديث عن "إساءة إلى علاقات لبنان مع جيرانه".

والحقيقة أن التهديد يشترط لاعتبار قبرص جزءاً من الحرب أن تعدّ نفسها كذلك ابتداءً، وتنخرط في المشاركة مباشرةً بالاعتداء على لبنان، وهو أقل ما تستوجبه مقتضيات الدفاع عن السيادة التي يزعم أصحاب تلك الأصوات حرصهم عليها.

كما أن التصعيد في لهجة السيد نصر الله، سواء في الشقّ الموجّه إلى حكومة الاحتلال و"جيشها"، أو في الشق الموجّه إلى الحكومة القبرصية، يأتي كما العادة، في سياق ردع العدو عن ارتكاب أي حماقة من خلال التصعيد على الأرض، وردع قبرص عن الاشتراك في هذه الحماقة من خلال فتح مطاراتها أمام الاحتلال.

وحتى في الشقّ الموجّه إلى قبرص، لا يغيب تهديد السيد نصر الله لـ"إسرائيل" بكل ما فيه من ردع، فما لم يقله السيد نصر الله حرفياً يمكن استخلاصه من بين كلماته، وهو أن خروج مطارات "إسرائيل" من الخدمة في أي حرب مقبلة، واحتياجها إلى "مساعدة صديق" هو "تحصيل حاصل"، وأن على قبرص التحلّي بما يكفي من الحكمة وبعد النظر كي لا تتصدى لأداء هذا الدور ولا تكون هذا "الصديق".

اقرأ أيضاً: السيد نصر الله: اقتحام الجليل لا يزال حاضراً.. ولا مكان في الكيان بمنأى عن صواريخنا الدقيقة

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.