مضيق هرمز في الاستراتيجية الإيرانية: الردع بالاقتصاد في وجه حرب محتملة

تستخدم إيران مضيق هرمز كورقة ردع استراتيجية في مواجهة التصعيد الأميركي الإسرائيلي، مؤكدة قدرتها على تعطيل حركة الطاقة العالمية دون الحاجة لإغلاق كامل.

  • زوارق إيرانية في مضيق هرمز (أرشيفية - فرانس برس)
    زوارق إيرانية في مضيق هرمز (أرشيفية - فرانس برس)

بينما تتزايد احتمالات نشوب مواجهة عسكرية بين الولايات المتحدة و"إسرائيل" من جهة، وإيران من جهة أخرى، يتموضع مضيق هرمز في صلب الحسابات الإيرانية كرأس حربة في استراتيجيتها لردع العدوان المحتمل. هذا الممر، الذي يمرّ عبره نحو 21 مليون برميل نفط يومياً، أي ما يزيد على ثلث تجارة النفط في العالم، لا يُمثّل بالنسبة إلى طهران مجرّد ممرّ ملاحي، وإنما أداة ضغط جيواستراتيجية قادرة على تعطيل الأسواق العالمية وشلّ حركة الطاقة في حال استُهدفت عسكرياً.  
ولطالما ردّدت طهران أنّه إذا مُنعت من تصدير نفطها، فلن يُسمح لأي طرف آخر بذلك. وهي الآن تُدرك تماماً أن أي اعتداء مباشر على أراضيها لن يمرّ بلا كلفة، وأنّ الردّ التقليدي لم يعد كافياً في سياقٍ معقّد تحوّل فيه الاقتصاد إلى ساحة حرب موازية.

البيئة التشغيلية في المضيق شديدة التعقيد. فعند أضيق نقطة، لا يتجاوز عرضه 21 ميلاً بحرياً، مع مسارين ملاحيين لا يتعدّى عرض كلٍّ منهما ميلين اثنين فقط. هذه الخصائص الجغرافية تمنح إيران أفضلية تكتيكية واضحة، خصوصاً مع انتشارها العسكري على طول الساحل الشمالي، ووجود قواعد بحرية وجوية وصاروخية ثابتة ومتحركة، إلى جانب الغواصات الصغيرة والسفن الهجومية السريعة.

وخلال السنوات الأخيرة، نقلت طهران جزءاً من صادراتها النفطية إلى ميناء جاسك خارج المضيق، ما يسمح لها بخوض مواجهة محدودة فيه دون أن تعرقل صادراتها بالكامل. وعلى أيّ حال، لم يعُد مضيق هرمز يمثّل اليوم ورقة تهديد محتملة للضغط الأميركي-الإسرائيلي، وإنما تحوّل إلى مكوّن عضوي في معادلة الردع، تُصاغ على أساسه خطوط الدفاع وحدود الاشتباك، ليس فقط في الخليج، وإنما في كامل رقعة غرب آسيا.

لم تُغلق إيران مضيق هرمز بشكل كامل في أي من مواجهاتها السابقة، لكنها استخدمته مراراً كورقة ضغط ناجحة. خلال "حرب الناقلات" في الثمانينيات، تعرّضت مئات السفن لهجمات، ما تسبب بارتفاع تكاليف التأمين والشحن، من دون الحاجة إلى إعلان رسمي بالإغلاق.

وفي نيسان/أبريل 2023، احتجزت البحرية الإيرانية ناقلة نفط متجهة إلى الولايات المتحدة، بعد أسابيع من احتجاز واشنطن لناقلة إيرانية قبالة سواحل ماليزيا. وتكرّر النمط نفسه العام الماضي مع سفينة مرتبطة بـ"إسرائيل". وفي مطلع نيسان/أبريل الجاري، سجّلت تقارير بحرية حالات تلاعب وتشويش على أنظمة الملاحة في محيط المضيق، تزامنت مع تحليق طائرات استطلاع أميركية. تُظهر هذه الأنشطة أن طهران لا تكتفي بالردع العسكري التقليدي، بل تُفعّل أدوات الحرب الإلكترونية بشكل مدروس لتقويض سيطرة واشنطن على المجال البحري. وهذا الشكل من الردع الإلكتروني لا يستنزف الموارد، لكنه يرسل إشارات إلى السفن التجارية والقطع العسكرية بأن المضيق بات ساحة محفوفة بالمخاطر.

يعتمد الرهان الإيراني على إدراك عميق لحجم التداخل بين تدفقات الطاقة والاستقرار المالي العالمي. إذ سبق وسجَّلت مؤشرات البورصة، مع كل تهديد باغلاق المضيق، ارتفاع أسعار الطاقة عالمياً. وقد طرحت مراكز أبحاث غربية سيناريوهات تُظهر أن أي اضطراب في المضيق، ولو لأيام قليلة، قد يرفع سعر البرميل إلى أكثر من 200 دولار، ويدفع الأسواق نحو انهيار متسلسل.

وإن كانت الحرب في ظاهرها عسكرية، فإن طهران تُلوّح أيضاً بحرب اقتصادية قادرة على إلحاق الضرر من دون إطلاق النار. وهذا ما تفهمه واشنطن جيداً.  
ومع ذلك، لا تُشير استراتيجية إيران إلى نية إغلاق كامل للمضيق، بل إلى قدرتها على خلق تهديد دائم بالتعطيل، كافٍ لهزّ الأسواق وإرباك التحالفات، من دون تحمّل كلفة المواجهة المباشرة.

لكنّ سيناريو الإغلاق الكامل لمضيق هرمز، رغم كونه خياراً غير مفضّل، يفرض نفسه بقوة في حال اندلاع الحرب فعلياً. وشهدنا خلال الأشهر الماضية إشارات إيرانية متكررة إلى هذا الاحتمال، لا سيما مع تصاعد التهديدات الأميركية والضربات الإسرائيلية في سوريا ولبنان.

والجدير ذكره هنا أن الاستعدادات الإيرانية لا تقتصر على المجال البحري فقط. فقد أظهرت صور الأقمار الصناعية في آذار/مارس الماضي تعزيزات في الدفاعات الجوية غرب محافظة أذربيجان وفي محافظة هرمزغان الإيرانية، شملت نشر منظومات "غدير" الرادارية بعيدة المدى. وتمثل هذه التغطية جزءاً من شبكة متكاملة تُستخدم لرصد الطائرات والصواريخ والسفن، وتُربط بوحدات الحرب الإلكترونية. كما عرضت طهران مؤخراً منشآت صاروخية تحت الأرض، تضم صواريخ فرط صوتية وباليستية، بعضها قادر على بلوغ القواعد الأميركية في قطر والبحرين والإمارات، وكلها تقع ضمن دائرة التأثير من مضيق هرمز.

وعلاوة على ذلك، تمتلك إيران أسطولاً من الغواصات الصغيرة من طراز "غدير"، والتي تُعد فعالة في المياه الضحلة والمزدحمة كمياه المضيق. ووفق تقارير استخبارية غربية، فإن هذه الغواصات مجهزة بتوربيدات وصواريخ "بحر-بحر" وألغام بحرية، وتُستخدم في تكتيكات الكمائن البحرية، يث يمكنها تعطيل حركة السفن الكبرى أو جرّ القوات الأميركية إلى مواجهة غير متكافئة.

أما الولايات المتحدة، فتُدرك أن الخيار العسكري ضد إيران سيكون باهظ الكلفة، لا سيما إذا ترافق مع ردّ إيراني مضاد يشلّ الملاحة في المضيق. ونتيجةً لذلك وبسبب إمكانية أن يشتعل الوضع في المضيق، تُبقي واشنطن، على سبيل المثال، حاملة طائراتها "هاري ترومان" خارج نطاق الخليج، مفضلةً العمل من البحر الأحمر أو المحيط الهندي، في محاولة للردع عن بُعد، دون التورط في كمين جغرافي.

ولم تُوجَّه الرسائل الإيرانية إلى واشنطن وحدها. فقد حذّرت طهران ستّ دول إقليمية – من بينها البحرين وقطر والإمارات والسعودية والكويت – من أن استخدام أراضيها أو أجوائها في أي ضربة أميركية أو إسرائيلية سيجعلها جزءاً من بنك الأهداف الإيراني. وألمحت التصريحات العسكرية إلى احتمال استهداف منشآت الطاقة والبنى التحتية في تلك الدول، بما في ذلك خطوط التصدير والموانئ ومحطات الكهرباء.

وقد تُرجِم هذا التحذير عملياً من خلال إغلاق المجال الجوي الإيراني أكثر من مرة أمام طائرات شحن عسكرية، وزيادة وتيرة المناورات البحرية، وتصعيد الخطاب التحذيري عبر المنابر الرسمية. ومع ذلك، اختارت طهران الحفاظ على واجهة دبلوماسية نشطة، وأكدت استعدادها للتفاوض غير المباشر مع واشنطن عبر وساطة عمانية، شريطة وقف الضغوط والتهديدات.

وفيما تراهن الولايات المتحدة على سياسة "حافة الهاوية"، تأمل طهران في فرض قواعد اشتباك جديدة من دون أن تخسر أوراقها الاستراتيجية. ومع أن واشنطن تصعّد في العلن، فإنها لا تبدو مستعدة لتحمّل كلفة الحرب الشاملة. فإرسال قاذفات "بي-2" إلى جزيرة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، وانتشار القطع البحرية في البحر الأحمر يعكس محاولة للردع أكثر منه تمهيداً للهجوم.

ويبدو أن إدارة ترامب متمسكة بالرهان على سياسة "حافة الهاوية": رفع التهديدات إلى الحد الأقصى لإجبار طهران على تقديم تنازلات، من دون التورط في مواجهة فعلية قد تتسبب بانهيار الأسواق. وفي المقابل، ترد طهران بالمثل، عبر إظهار الجاهزية العسكرية ورفض التنازل، مع ترك الباب مفتوحاً أمام التفاوض غير المباشر.

بهذه الحسابات، لم تعد أي خطوة في مضيق هرمز بلا ثمن. كل سفينة تمر من هناك، وكل تشويش يُسجَّل على أجهزة الملاحة، وكل بيان يُعلَن من طهران أو واشنطن، يمكن أن يكون بداية لسيناريو مفتوح. لكنّ إيران تبدو كأنها من يمسك بالخيط الأهم: قدرة على الرد، واستعداد للحوار(غير المباشر)، ومعرفة عميقة بأن المعركة الحقيقية تُخاض على جبهات الاقتصاد والنَفَس الطويل.

 

اللافت أن هذا الموقف الإيراني المتماسك لا يوجد ما يقابله في مواقف خصومها. فـ "إسرائيل" تُجمع على ضرورة استهداف البرنامج النووي الإيراني، فيما تختلف التقديرات الأميركية حول التوقيت والجدوى، وتنقسم دول الخليج بين من يفضّل الحياد ومن يراهن على المظلة الأميركية. وحتى داخل الإدارة الأميركية ذاتها، تتباين الرؤى بين من يدفع نحو الحسم، ومن يفضّل احتواء الأزمة وتفادي الانزلاق إلى مواجهة واسعة.

أما طهران، فتُبقي خطابها الرسمي عند مستوى ثابت من التحذير، من دون انفعال، مع تمسّكها بحدّ أدنى من الدبلوماسية يتيح لها هامشاً للمناورة، دون أن تُتهم بالتصعيد.

وعلى أي حال، باتت الرسائل المتبادلة بين الطرفين – سواء عبر وسطاء أو عبر الميدان – أكثر وضوحاً: لا إيران مستعدة للتنازل عن برنامجها النووي أو عن دعمها لحلفائها، ولا واشنطن قادرة على تنفيذ تهديداتها من دون كلفة كبرى. والنتيجة أن المنطقة تعيش لحظة احتقان شديدة، تختلط فيها إشارات التصعيد بدعوات التهدئة، ويبقى مضيق هرمز نقطة الالتقاء الأكثر حساسية في هذه المعادلة، لا بصفته ممراً بحرياً استراتيجياً فحسب، وإنما بصفته اختصار لطبيعة مرحلة تتقاطع فيها الجغرافيا بالسياسة، والحرب بالاقتصاد، والطاقة بموازين القوة.

اخترنا لك