مملكة أكسوم (الحبشة) وعلاقة ملكها النجاشي بالمسلمين

يعدّ النجاشي أحصمة بن أبجر أشهر ملوك مملكة "أكسوم" (الحبشة)، التي تقع في الطرف الشمالي للقرن الأفريقي في إريتريا ومنطقة تيغراي في شمال إثيوبيا.

  • مملكة أكسوم (الحبشة) وعلاقة ملكها النجاشي بالمسلمين
    مملكة أكسوم (الحبشة) وعلاقة ملكها النجاشي بالمسلمين

أقيم في باريس معرض عالمي في الخامس من أيار/مايو 1889 بمناسبة الذكرى المئوية للثورة الفرنسية التي تمّ فيها تدشين برج إيفيل. ضمّ هذا المعرض جناحاً استقطب الكثير من الزوّار الذين جاءوا للتفرّج على 400 أفريقي مختطف من السنغال والغابون والكونغو ومعهم بعض الآسيويين.

لم يكن هذا هو المعرض البشري الوحيد الذي نظّم في العواصم الأوروبية، إذ منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، نظّمت معارض مماثلة في برلين ولندن. كان الهدف منها هو "إظهار الطابع البدائي للأفارقة" الذي يحاول الإنسان الغربي باحتلاله لدولهم تحضيرهم.

وللأسف الشديد فقد اخترقت هذه الصور النمطية التي رسمها الاستعمار عن الأفارقة في جنوب الصحراء الكبرى عقول الكثير من العرب والمسلمين، فصارت أفريقيا بالنسبة إليهم عبارة عن "براري وأدغال وإنسان متخلّف". وقليل منهم من يعرف أنّ جنوب الصحراء الكبرى قد عرف منذ القدم حضارات ودولاً وإمبراطوريات كان لها شأن كبير. نذكر منها على سبيل المثال: حضارة كوش وممالكها، مملكة أكسوم، إمبراطورية آشانتي، إمبراطورية بنين، إمبراطورية جولوف، ومملكة الكونغو...

إمبراطورية الحبشة (مملكة أكسوم)

تقع مملكة "أكسوم" في الطرف الشمالي للقرن الأفريقي في إريتريا ومنطقة تيغراي في شمال إثيوبيا، كانت عاصمتها مدينة أكسوم. تأسست في القرن الأول الميلادي، ازدهرت بين القرنين الثالث والخامس، وانتهت ككيان سياسي في القرن العاشر.

إبّان ذروتها هيمنت "أكسوم" على البحر الأحمر وعلى معظم إريتريا الحالية وشمال إثيوبيا وجيبوتي والصومال وفرضت هيمنتها على مملكة مروي الكوشية في السودان التي كانت تعيش مرحلة تضعضع، كما فرضت سيطرتها على جنوب مصر وحيمر في اليمن وأجزاء جنوبية من السعودية. وقد وصفها ماني (الشخصية الدينية الفارسية في القرن الثالث الميلادي) بأنها رابع قوة عظمى في عصره إلى جانب بلاد فارس وروما والصين.

ويعتقد الباحثون في تاريخ المنطقة أن أكسوم قامت على أنقاض مملكة "دعمت" القديمة (D'mt أو Da'amot) وإن كانوا لا يستبعدون تأثير هجرة السبئيين الذين عبروا البحر الأحمر من اليمن، في القرنين الرابع والخامس قبل الميلاد على هذه الدولة. استخدم الأكسوميون بداية الكتابة العربية الجنوبية قبل أن يبدأوا باستخدام الكتابة الجعزية بحلول القرن الرابع الميلادي.

أهّلها موقعها الجغرافي وتحكّمها في جزء كبير من البحر الأحمر من الاستفاذة من الطريق التجاري البحري بين مصر الرومانية ثم البيزنطية، والهند. وقد أصبح ميناء أدوليس الأكسومي الميناء الرئيس لتصدير العاج واللبان والذهب والزمرد وصدف السلحفاة والحديد والملح والحبوب والمواشي، واستيراد الحرير والتوابل والبخور.

كما عمل ملوك أكسوم خلال القرنين الثاني والثالث على تطوير شبكة تجارية داخل المملكة وربطها بطرق القوافل التجارية من عمق أفريقيا إلى شمالها في مصر، خصوصاً بعدما سيطروا عام 350 م على أراضي مملكة مروي، التي كانت تزوّد مصر بالسلع من أفريقيا الاستوائية عبر النيل. فطوّروا تجارتهم مع العديد من الدول الأفريقية عبر طريق النيل والطرق البرية التي امتدّت على طوله ولتصبح مملكة أكسوم المورد الرئيسي للإمبراطورية الرومانية من المنتجات الأفريقية.

كما مكّنهم وجودهم في اليمن من تطوير تجارتهم مع الجزيرة العربية وبلاد بين النهرين وفارس.

بدءاً من عهد إندوبيس (Endubis)، (القرن الثالث الميلادي) سكّت أكسوم عملاتها المعدنية الخاصة – ذهبية وفضية وبرونزية - وهي الأولى التي تمّ سكّها في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، الشيء الذي ساهم في تسهيل التبادل التجاري وأدى إلى الازدهار التجاري في أكسوم. وقد تمّ العثور على قطع من هذه العملات في القيسارية في فلسطين وجنوب الهند. وبحكم أنّ ملوك أكسوم كانوا يضعون صورهم على هذه النقود فقد ساعد ذلك في تتبّع تاريخ الملوك الذين حكموا هذه الدولة منذ إندوبيس حتى أصحمة بن أبجر (أرما) بين 270 و 630.

بدأ تحوّل أكسوم من الوثنية واليهودية إلى المسيحية، ابتداءً من عام 324، حينما اعتنق الملك إيزانا (عيزانا) المسيحية بتأثير من أستاذه فرومنتيوس، مؤسس الكنيسة الأرثوذكسية الإثيوبية، فتبعته النخبة وعموم الشعب. وأصبحت أكسوم ثالث دولة في العالم تتبنّى المسيحية ديناً رسمياً للدولة بعد أرمينيا (301) وجورجيا (317)، وقبل الإمبراطورية الرومانية (في 380 بمرسوم تسالونيكي).

مع نهاية القرن السادس الميلادي بدأ نجم أكسوم في الأفول، إذ خسرت "حِمير" في اليمن بعد معركة حضرموت عام 570 مع الساسانيين (الفرس) وأدى خروجهم من شبه الجزيرة العربية وسيطرة أعدائهم على الضفة الشرقية للبحر الأحمر وبحر العرب إلى عرقلة أهم طرقهم التجارية.

في القرن العاشر، انهارت أكسوم لأسباب متعدّدة قد تكون فقدانها السيطرة على الطرق التجارية البحرية إحداها، ولكن المؤكد أن الظروف المناخية (جفاف طويل) كانت أهمها.

النجاشي أحصمة بن أبجر

نجاشي Negus، لقب أطلقه الأحباش على ملوكهم ويعني ملك الملوك. ويعدّ النجاشي أصحمة بن أبجر Ashama ibn Abjar أو أرمح (أرمها) أحد أعظم هؤلاء الملوك. ولد نحو عام 560 م — وتوفي 630 م. كان أصحمة الوريث الوحيد لنجاشي الحبشة المسنّ الذي تآمر عليه أبناء بطانته وقتلوه، وأبعدوا أحصمة من القصر بعدما توّجوا عمه ملكاً عليهم. وتقول بعض الروايات إن أعيان قصر أكسوم باعوا أصحمة لرجل عربي يدعى الضميري، فعمل راعياً. لكن في التاسعة من عمره لقي عمه مصرعه بصاعقة، فعاد الملأ من قومه ليعيّنوه نجاشي الحبشة.

تربّى النجاشي أحصمة في بيئة دينية أهّلته لأن يصبح على دراية كبيرة بالنصرانية، وملكاً ذا فؤاد من رحمة ملأ الأرض عدلاً. كما عرف بحكمته واقتداره في إدارة الدولة، فحظي بالتقدير والتبجيل من الأحباش.

تزامنت فترة حكمه مع البعثة النبوية بمكة. وعندما اشتدّ التضييق والتعذيب والقتل على أتباع الإسلام من طرف قبيلة قريش، لم يأمر رسول الإسلام محمد (ص) أصحابه باللجوء إلى العرب الغساسنة الموالين للروم وعلى دينهم وليس إلى العرب المناذرة الموالين للفرس، بل أمرهم بالذهاب إلى الحبشة، وقدّم في حقّ ملكها أحصمة بن أبجر شهادة بقيت وستظلّ خالدة في التاريخ إذ قال: "إنّ في أرض الحبشة ملكاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا ببلاده ولوذوا بحماه، حتى يجعل الله من أمركم فرجاً، ويهيّئ لكم من ضيقكم مخرجاً".

اختبار عدل النجاشي 

بعدما استقرّ المهاجرون المسلمون في الحبشة، وبينهم جعفر بن أبي طالب وعثمان بن عفان وزوجته رقية بنت رسول الله (ص)، أحسّت قريش بخطر وجود قاعدة خلفيّة للمسلمين في الحبشة فأرسلت الداهية عمرو بن العاص ومعه عبد الله بن أبي ربيعة، وأخذا معهما الكثير من الهدايا لمحاولة رشوة النجاشي ومحيطه من الأعيان والبطارقة الذين كانوا أوّل من التقوا بهم، وبعدما قدّموا لهم الهدايا قالوا لهم: "إنه قد حلّ بأرضكم غلمان من سفهائنا، تركوا دين آبائنا وأجدادنا ومزّقوا كلمة قومهم، فإذا كلّمنا الملك في أمرهم فأشيروا عليه أنْ يسلّمهم لنا من دون أن يسألهم، فنحن من أشراف قومهم وأعلم بما يدينون"، فوافقوهم على ذلك.

وعند لقائه بالنجاشي قدّم له ابن العاص الهدايا وخاطبه قائلاً: "أيها الملك إنه قد أوى إلى بلدك منّا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدين ابتدعوه، لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردّهم إليهم، فهم أعلم بهم عيناً، وأعلم بما عابوا عليهم وعاتبوهم فيه".

التفت النجاشي إلى البطارقة والأعيان والوزراء، فقالوا داعمين قول عمرو بن العاص: "صدقاً أيها الملك، فإننا لا نعرف دينهم هذا الذي استحدثوه وقومهم أدرى بهم منّا". لكن النجاشي ردّ عليهم بصرامة قائلاً: "لا والله، لا أسلّمهم لأحد حتى أسمع كلامهم، وأقف على أمرهم، فإن كانوا على شرّ أسلمتهم لقومهم، وإن كانوا على خير: حميتهم وأحسنت جوارهم ما داموا في بلادي". 

استدعى النجاشي المسلمين، وعمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة والبطارقة بين يديه، فسلّموا، فقال عمرو: "ما لكم لا تسجدون للملك؟"، فقالوا: "إنا لا نسجد إلا لله"، فأعجب النجاشي بهذا وسألهم عن دينهم.

فقال جعفر بن أبي طالب (رض): "أيها الملك، كنّا قوماً أهل جاهلية، نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، يأكل القوي منّا الضعيف، فكنّا على ذلك حتى بعث الله إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله لنوحّده ونعبده، ونخلع ما كنّا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، والكفّ عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصّنة، وأمرنا أن نعبد الله وحده لا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام. فصدّقناه، وآمنا به، واتبعناه على ما جاء به، فعبدنا الله وحده فلم نشرك به شيئاً، وحرّمنا ما حرّم علينا، وأحللنا ما أحلّ لنا، فعدَا علينا قومنا، فعذّبونا وفتنونا عن ديننا، ليردّونا إلى عبادة الأوثان من عبادة الله، وأن نستحلّ ما كنّا نستحلّ من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقّوا علينا، وحالوا بيننا وبين ديننا، خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا ألّا نظلم عندك أيها الملك".

فقال النجاشي لجعفر: "هل معك مما جاء به عن الله من شيء؟".

فقرأ جعفر آيات من سورة مريم من أوّلها إلى: {وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا * فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا * قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا * قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاَمًا زَكِيًّا}، فبكى النجاشي حتى أخضل لحيته وبكى الأساقفة من حوله حتى أخضلوا مصاحفهم.

عندها التفت النجاشي إلى عمرو وقال: "إنّ هذا والذي جاء به عيسى ليخرجان من مشكاة واحدة، والله لا أسلّمهم إليكما أبداً". لكن عمرو عاد ليقول إن المسلمين يعتبرون عيسى بن مريم عليه السلام عبداً، فسأل النجاشي جعفر الذي ردّ بقوله تعالى في سورة مريم: {فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا * قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا * وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا * وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا * وَالسَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدتُّ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا * ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ * مَا كَانَ لِلَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ * وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ}.

فلما سمع النجاشي ما قاله جعفر أخذ عوداً، وقال:"والله ما تجاوز عيسى عمّا قلت، هذا العرجون"، فضجّ البطارقة غضباً، فالتفت إليهم النجاشي وقال: "وإنْ غضبتم، هذا هو الحقّ"، ثم قال لجعفر: "اذهبوا فأنتم آمنون في أرضي، من نال منكم غرم، والله ما أحبُّ أنْ أُعطى جبلاً من ذهب وأوذي أحداً منكم"، ثم قال لحجّابه: "ردّوا على عمرو وصاحبه هداياهما فلا حاجة لنا بها، إنّ الله ما أخذ منّي رشوة حين ردّني إلى ملكي".

إسلام النجاشي ومواجهته للفتن 

الموقف المبدئي للنجاشي أحصمة جرّ عليه القلاقل والفتن، إذ تحرّك الأساقفة ينشرون بين الناس أنّ النجاشي قد ارتدّ عن دينه، فاستغل ابن عمّه الفرصة وأعلن الحرب عليه لهذا السبب. خشي النجاشي على جعفر ومن معه فأعدّ لهم سفناً لينجوا بها إن هزم، لكن شاءت إرادة الله أن ينتصر وبقي المسلمون في الحبشة تحت رعايته حتى عودتهم إلى المدينة في السنة السابعة للهجرة بعد فتح خيبر.

أما بخصوص البطارقة فقد استطاع وبذكائه وحكمته تحييدهم، حيث أتى برقاع وكتب فيه: "أشهد أن لا إله إلا الله، وأنّ محمداً عبده ورسوله، وأشهد أنّ عيسى عبده ورسوله وروحه وكلمته ألقاها إلى مريم"، ثم طواه وجعله في صدره ولبس فوقه ملابسه، ودعا البطارقة والأعيان فقال: "كيف سيرتي فيكم؟". قالوا: "خيرُ سيرة، غير أنك فارقت ديننا، وزعمت أنّ عيسى عبد"، فقال: "ما تقولون أنتم فيه؟" فقالوا: "ابن الله"، فوضع النجاشي يده على صدره حيث الرقاع، وقال: "وأنا أشهد أن عيسى لم يزد على هذا شيئاً". وبسبب هذه الأحداث اضطرّ إلى إخفاء إسلامه وطلب من المسلمين عدم الدعوة لدينهم في الحبشة.

قبيل فتح مكة توفّي النجاشي، فدعا النبي محمد (ص) أصحابه وأخبرهم أنّ أخاهم أصحمة النجاشي قد توفي، فصّلوا عليه. فكان هو الوحيد الذي صلّى عليه رسول الله صلاة الغائب.