الأزمة السودانية بين الوساطة الأفريقية والمساعي العربية والدولية

تورّط أطراف إقليمية ومصالح دولية في الأزمة السودانية جعل البعض يرى ضرورة تولّي الاتحاد الأفريقي والتكتلات الإقليمية الأخرى زمام المبادرة للضّغط على جانبي الصراع لوقف القتال وإيجاد حل طويل الأجل.

  • الأزمة السودانية بين الوساطة الأفريقية والمساعي العربية والدولية
    الأزمة السودانية بين الوساطة الأفريقية والمساعي العربية والدولية

اتّسم التاريخ السياسي في السّودان منذ الاستقلال بالاضطرابات التي يمكن الشّعور بأثرها في الصراعات المحلية والوطنية المستمرة. وعلى الرغم من عزو البعض أسباب ذلك إلى الفوارق التي أحدثها الاستعمار أو الانقسام الإثني الطويل الأمد بين العرب والأفارقة في البلاد، فقد مال آخرون إلى رد ذلك إلى عوامل أخرى معقدة تشمل الأسباب التاريخية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية، فضلاً عن الاختلاف في طبيعة الصراعات المختلفة في البلاد، بما في ذلك الحرب الأهلية الأولى في ستينيات القرن الماضي، وطبيعة حكم الرئيس السابق عمر البشير، وتصاعد حرب دارفور، وتنفيذ اتفاق سلام عام 2005، ونتائج استفتاء الجنوب عام 2011.

وفي ما يتعلق بالنزاع الجاري، فهو امتداد للأزمة المستمرة منذ إطاحة الرئيس البشير عام 2019. وقد اندلع القتال بين الجيش السوداني ومليشيا قوات الدعم السريع شبه العسكرية في الخرطوم في 15 نيسان/أبريل الماضي (2023)، نتيجة مقاومة مسألة دمج قوات الدعم السريع في الجيش السوداني كجزء من جهود توحيد الجيش وإعادة السلطة إلى المدنيين.

 ويتصدر المشهد جنرالان متصارعان من أجل الهيمنة والنفوذ يمثلان طرفي النزاع: الأول هو عبد الفتاح البرهان؛ رئيس المجلس الحاكم في السودان وقائد الجيش السوداني، والآخر هو محمد حمدان دقلو (المعروف بحميدتي)؛ قائد قوات الدعم السريع ونائب رئيس المجلس الحاكم.

ومن المفارقات أنَّ الجنرالين تحالفا في السابق أثناء إطاحة الرئيس البشير، وهما من الشخصيات الرئيسية في الانقلاب العسكري الذي حدث في تشرين الأول/أكتوبر 2021، عندما أقال الجيش الحكومة الانتقالية بقيادة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وفرض حالة الطوارئ، ما ترك السودان من دون حكومة نشطة.

وقد كشفت تقارير الأيام الماضية أن المدنيين هم أكثر من يعانون بفعل الوضع المتفاقم وصراع الجنرالات، وأن اندلاع الاشتباكات بدّد الآمال في الانتقال السلس إلى الحكومة المدنية قريباً بسبب الظروف الحالية.

ويُضاف إلى ما سبق أنّ تورّط أطراف إقليمية ومصالح دولية في الأزمة السودانية جعل البعض يرون ضرورة تولّي الاتحاد الأفريقي والتكتلات الإقليمية الأخرى زمام المبادرة للضغط على جانبي الصراع لوقف القتال وإيجاد حل طويل الأجل، نظراً إلى الأهمية الإستراتيجية للسودان بالنسبة إلى منطقة شرق أفريقيا بشكل خاص، وقارة أفريقيا بشكل عام، وتداعيات الأزمة على الدول المجاورة له وعلى العالم.

أهمية السودان الإستراتيجية وتداعيات الأزمة على المستوى الأفريقي

يقع السودان بين مصر وإريتريا في شمال شرق أفريقيا، ويحده البحر الأحمر في الشمال الشرقي، وليبيا من الشمال الغربي، وتشاد من الغرب، وجمهورية أفريقيا الوسطى في الجنوب الغربي، وجنوب السودان وإثيوبيا في الجنوب الشرقي، الأمر الذي منحه ميزة الجمع بين الثقافتين الأفريقية والعربية، وجعله جسراً تاريخياً بين شمال أفريقيا وجنوب الصحراء الكبرى، وبوابة مهمة للوصول إلى مناطق أفريقية أخرى ذات أهمية جيوستراتيجية.

وقد مكّن هذا الموقع الجغرافي الإستراتيجي أيضاً دولة السودان من أن تكون لاعباً إقليمياً رئيساً وواحدةً من طرق التجارة العالمية وسلاسل التوريد عبر مضيق باب المندب الذي تمر به 10% من التجارة العالمية، مع التوقعات بأن يبلغ إجمالي الناتج المحلي لمنطقة البحر الأحمر 6.1 تريليون دولار بحلول عام 2050، وأن يبلغ حجم تجارتها نحو 4.7 تريليون دولار.

كل هذا يضاف إلى ما يتمتع به السودان من ثروات طبيعية هائلة، مثل النفط والغاز الطبيعي والذهب والحديد والفضة والنحاس والرخام والصمغ العربي، وهو ما يجعل البلاد محط اهتمام الأطراف الإقليمية والقوى الدولية المختلفة لمحاولة الحفاظ على نفوذها وتعزيز أجنداتها في أماكن أخرى.

ويُلاحظ من ردود أفعال الدول الأفريقية تجاه الاشتباكات الجارية أن مسؤولي الاتحاد الأفريقي والتكتلات الإقليمية الأخرى يرون استقرار السودان أمراً حاسماً للدول المجاورة له، وخصوصاً تشاد، الحليف الوثيق لفرنسا، والتي تكافح أنشطة المعارضة المسلحة على طول حدودها. وقد أبدت في الآونة الأخيرة عدم ارتياحها لتزايد أنشطة قوات الدعم السريع على طول حدودها مع السودان.

ولعل هذا يرتبط بمزاعم وجود علاقة بين حميدتي ومجموعة فاغنر الروسية التي تنشط أيضاً في الموزمبيق ومالي. وهناك تقارير عن حصول قوات حميدتي على الدعم من الجيش الليبي بقيادة المشير خليفة حفتر، وإن كان المتحدث باسم حفتر قد نفى ذلك بشدة. وتكرر أيضاً ورود اسم روسيا وفاغنر في ما يتعلق بالعمل في مناجم الذهب في السودان، التي يملك حميدتي عدداً منها شمال البلاد. 

وقد أكّدت الأوضاع الأخيرة أن مصر وجنوب السودان ستكونان الأكثر تضرراً من الصراع في السودان، سواء من الناحية الإنسانية أو السياسية أو الاقتصادية، الأمر الذي يجعلهما صاحبي المصلحة الرئيسية في استقرار جارهما، إضافة إلى أن الاشتباكات تضع مصر في موقف صعب بالنظر إلى العلاقات الجيدة بين حكومة الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي وقائد الجيش السوداني عبد الفتاح البرهان، فيما تشير مصادر إلى حميدتي من قبل الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، وهما دولتان تعتمد عليهما مصر للحصول على مساعدات مالية لتخطّي أزمتها الاقتصادية.

وتعني الأزمة أيضاً أنَّ السودان مشغول عن قضايا المناطق الحدودية التي يتنازع عليها مع جيرانه مع تأثّر الإدارة الآمنة لمياه النيل الذي تعتمد عليه مصر بنسبة 90% لتزويدها بالمياه، ويعني القتال أيضاً أنَّ قضية سد النهضة الإثيوبية قد لا تحظى بالأولوية في قضايا المسؤولين السودانيين في الوقت الحاليّ، وهي قضية يعدّ فيها البرهان شريكاً موثوقاً به لدى مصر لتوافق مصلحته مع الموقف المصري تجاه القضية.

من ناحية أخرى، يقع السودان في منطقة غير مستقرة نسبياً، إذ تعصف به الاضطرابات السياسية، مثل أزمة جمهورية أفريقيا الوسطى، وصراع تيغراي الأخير في إثيوبيا بمشاركة إريتريا، والأنشطة الإرهابية مثل حركة الشباب النشطة في الصومال وأماكن أخرى في شرق أفريقيا وبوكو حرام في بحيرة تشاد، إضافة إلى الهشاشة الاقتصادية وأحداث الطقس المتطرفة التي تعانيها المنطقة. 

وتمتد الصراعات في إقليم دارفور في غرب السودان إلى تشاد المجاورة، فيما يتأثّر السودان أيضاً بالتحديات في تشاد، بل تسمح الحدود المفتوحة في مناطق الحدود الثلاثية بتحرّك المقاتلين والأسلحة بحرّية من جمهورية أفريقيا الوسطى التي مزقتها الصراعات وتشاد المعرضة للانقلاب، إضافة إلى شمال غرب ليبيا، وهو ما يسهّل عبور هذه الجماعات والميليشيات المسلحة الحدودَ والسفر عبر دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا وأفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، ما يزيد المخاوف بشأن صلاتهم المحتملة بالمنظمات الإرهابية خارج أفريقيا ورغبتهم في نهب الثروات المعدنية. هذا إلى جانب موقع السودان كنقطة عبور المهاجرين إلى أوروبا.

وعلى الرغم من أن البعض رسموا ضمن السيناريوهات المتوقعة من الأزمة الجارية انتصار البرهان وانتشار قوات الدعم السريع في المناطق الحدودية المضطربة أو توقيع اتفاق سلام بين الجانبين، فإن كثرة الفاعلين المحليين والخارجيين وتعدد الأسباب والعوامل يجعلان أيّ تدخل زائد أو هجوم خارجي قادراً على تغيير مسار الصراع وتفاقمه.

ومنذ منتصف نيسان/أبريل الماضي عندما اندلعت الاشتباكات، اتفق الجيش السوداني وقوات الدعم السريع مراراً على وقف قصير لإطلاق النار، ولكن الهدنة انتُهِكت مراراً في العاصمة الخرطوم وغرب دارفور اللتين أصبحتا مناطق حرب، وأدى الوضع إلى هروب أكثر من 100 ألف سوداني وعبورهم الحدود البرية والبحر الأحمر إلى الدول المجاورة، مع نزوح أكثر من 344 ألفاً داخل أنحاء البلاد.

وفي دولة جنوب السودان التي انفصلت عن السودان عام 2011 بعد حرب دامية، فإن ما يحدث في جارها السودان غير مبشر لاعتمادها عليه وعلى أوغندا وكينيا من حيث الاقتصاد والواردات. وقد حافظ سكان كلا البلدين على علاقات وثيقة، وهناك مجموعة كبيرة من اللاجئين والمهاجرين والعمال من البلدين المقيمين والعاملين فيهما.

بين الوساطة الأفريقية والمبادرة العربية الغربية

يتمتع الاتحاد الأفريقي اليوم بدور بارز وسلطة قانونية لتسوية النزاعات الداخلية الأفريقية، إذ يحدد هذا الدور القانون التأسيسي لهذه المنظمة القارية وبروتوكول مجلس السلم والأمن التابع لها. 

مع ذلك، لا يزال الاتحاد الأفريقي يواجه تحديات متعددة من حيث تنفيذ هذا التفويض وواقعية إمكاناته لحلّ النزاعات والأساليب المناسبة للتدخل وفرض قراراته لتهدئة الأوضاع حمايةً لحياة المواطنين وممتلكاتهم وحفاظاً للوحدة الوطنية.

ومن بين الانتقادات التي يواجهها الاتحاد الأفريقي هو كونه طرفاً في تدهور الأوضاع السياسية في الدول الأفريقية، لأن المنظمة تتحاشى دائماً مواجهة زعماء هذه الدول الذين غالباً ما يكونون السبب الرئيسي في ظهور الأزمة، ومعاقبتهم على إذكاء الصراع أو الحدّ من تجاوزاتهم التي تشمل تعديل الدستور لتحقيق مآربهم الخاصة والبقاء على الحكم أو تزوير الانتخابات والميل إلى الاستبداد والتعامل غير القانوني والمفرط مع المنتقدين والمعارضين أو جلب أطراف دولية أخرى لها مطامع تعزز الفساد وتؤدي إلى تراجع الحكم الرشيد والتفكك الوطني.

وفي سياق الأزمة السودانية، استحسن الكثيرون دور الاتحاد الأفريقي عام 2019 في التوسط لإيجاد صفقة بين الجيش السوداني والحركة المدنية باستخدام قوانينه الإقليمية، بمساعدة آبي أحمد رئيس الوزراء الإثيوبي، إذ أنهت الصفقة وقتذاك الأعمال العدائية التي أعقبت إطاحة الرئيس عمر البشير، وأظهر ذلك ما يمكن للاتحاد الأفريقي تحقيقه في حال استعداد مسؤوليه لتفعيل قدراته الإقليمية وتفويضه القاري لحل النزاعات الداخلية في الدول الأعضاء.

ولكنَّ انقلاب الجنرال البرهان بالتعاون مع حميدتي عام 2021 لإطاحة الحكومة الانتقالية واندلاع الاشتباكات بعد ذلك يعني أنَّ الجهات الخارجية غير الأفريقية الفاعلة في الأزمة السودانية أكثر تأثيراً وقوةً من التكتلات الأفريقية، رغم أن أضرار الأزمة وتداعياتها تؤثر مباشرة في قارة أفريقيا ودولها، ورغم أنَّ الجيران المحيطين بالسودان هم من سيتحملون العقبات على المدى الطويل بنسبة أكبر من غيرهم في المناطق الأخرى.

تؤكّد النقطة السابقة تطورات الأيام الماضية، مثل قبول الأطراف المتحاربة في السودان المبادرة الأميركية السعودية، إذ سافر مبعوثوهم إلى السعودية لإجراء محادثات قد تحدد مجرى الصراع وتضع حداً له، ولو مؤقتاً.

يدخل هذا في إطار النفوذ الذي تحظى به كلّ من الولايات المتحدة والسعودية وغيرهما، وتأثيرهما في حسابات الجنرالات السودانية المتحاربة، الذي يفوق تأثير الاتحاد الأفريقي أو الدول الأفريقية الأخرى، وخصوصاً أن التحركات الإماراتية والسعودية الأخيرة في السودان أظهرت أنَّها تدعم عملية سياسية فاعلة عبر محاولة إضفاء الشرعية على حكومة يقودها الجيش أو يؤثر فيها. 

يضاف إلى ما سبق أن قبول الأطراف السودانية المبادرة الأميركية السعودية مؤشر على موقف الجنرالات السودانيين من المبادرات الأفريقية منذ اندلاع الصراع، رغم ترحيب البرهان بالجهود الأفريقية لإيجاد حل، وتحذير مجلس السلم والأمن التابع للاتحاد الأفريقي من أي تدخل خارجي من شأنه أن يعقد الأزمة في السودان، وطلبه من القوات المسلحة السودانية وقوات الدعم السريع "تبني حل سلمي سريع وحوار شامل" لحل خلافاتهما، إلى جانب مساعي رؤساء جنوب السودان سلفا كير وكينيا ويليام روتو وجيبوتي إسماعيل عمر جيله لاستضافة المتحاربين والتوفيق بينهم تحت منصة الهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد).

وفي حين أنَّ المبادرة الأميركية السعودية تنال إشادة المجتمع الدولي، إذ تفرض التداعيات والأضرار ضرورة إيقاف القتال وإجبار جميع الأطراف على الحوار، فإن تهميش الاتحاد الأفريقي أو الكتل الإقليمية الأفريقية الأخرى، مثل الهيئة الحكومية الدولية المعنية بالتنمية (إيغاد) التي كان السودان وبعض جيرانها أعضاء فيها، قد يكون كارثياً ويجعل الحلول المقدمة غير مستدامة، وذلك للديناميكيات الأفريقية للأزمة.

ويمكن أن تساعد التكتلات الإقليمية والقارية الأفريقية على تجنّب انزلاق السودان إلى منطقة حرب باردة بين القوى الأجنبية المهتمة فقط بالموارد المعدنية والمناطق الإستراتيجية لتأمين هيمنتها في الأمن والاقتصاد والتجارة العالمية. 

وأخيراً، يجب أن تكون هناك حلقة اتصال بين جهود العالم العربي والدولي وجهود الوساطة الأفريقية التي يقودها الاتحاد الأفريقي وغيره، وذلك للتنسيق وتفادي تكرار الجهود نفسها أو إضعاف ما سبق تحقيقه. هذا الاتصال سيمكّن الاتحاد الأفريقي ومجلسه الأمني أيضاً من تطوير إستراتيجية ملموسة فاعلة تواكب التحديات الجديدة وتمكّن من التعامل مع العنف المستمر في سياق المفاوضات.

منتصف نيسان/أبريل تندلع مواجهات عنيفة في الخرطوم وعدة مدن سودانية، بين الجيش بقيادة عبد الفتاح البرهان وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو، وتفشل الوساطات في التوصل لهدنة بين الطرفين.