كيف صنع الغرب وعياً غير تاريخي عنّا؟
بعد سنوات من الحرب العالمية الأولى؛ قلة من الناس اكتشفت أن هذا الجنون الجماعي لم يحدث بسبب اغتيال الأرشيدوق النمساوي، وأن تلك اللحظة كانت فقط التعبير عن التنافس بين القوى العظمى لاقتسام العالم.
-
هل نستطيع مواجهة المركزية الغربية؟
بعد نهاية الحرب العالمية الأولى بسنوات، وعندما لم يكن العالم يعرف بعد أنه متجه إلى حرب عالمية ثانية، تتضاعف فيها أعداد الضحايا، كان عالم النفس فرويد و عالم الفيزياء ألبرت آينشتاين يتراسلان للنقاش في عنوان حسّاس: "لماذا الحرب؟". ومن النقاش بين العالمين الكبيرين عن الغرائز المتناقضة، ونقاش علاقتها بالتجاذب والتنافر داخل الذرّة، وصولاً إلى استنتاج أن نمو الثقافة يساهم دوماً في تخفيض نزعة الحرب؛ ما زال السؤال نفسه مفتوحاً إلى يومنا هذا "لماذا الحرب؟".
بعد سنوات من الحرب العالمية الأولى؛ قلة من الناس اكتشفت أن هذا الجنون الجماعي لم يحدث بسبب اغتيال الأرشيدوق النمساوي فرانتس فيرديناند، وأن تلك اللحظة كانت فقط التعبير عن التنافس بين القوى العظمى لاقتسام العالم، وشهوة مفرطة لنيل الحصص الأكبر من رجل أوروبا المريض، الدولة العثمانية.
خرجت روسيا من الحرب بعد انهيار الحكم القيصري فيها، واستغرب العالم الموقف، ولكن روسيا التي عثرت على ملفات اتفاقية سايكس بيكو لتقسيم منطقتنا، وجدت نفسها آنذاك غير معنية في كل ذلك.
بريطانيا مثلاً وجدت في الحرب العالمية الأولى، أو في الامبريالية عموماً مخرجاً من الحرب الأهلية، وكانت النخبة الحاكمة في بريطانياً قد عرضت تخييراً ضمنياً لسكان المملكة، إذا أردتم أن نجنبكم الحرب الأهلية في الداخل، فاسمحوا لنا بالاستعمار في الخارج، فمن هناك سوف نحصد لكم فائض القيمة العالمي، ونصرّف منتجاتكم، وتستقر أحوالكم، وتنتعش ظروفكم المعيشية. لم تكن روسيا معنية أساساً في هذه المعادلة، ولم تكن قد وصلت هذه المرحلة من التطور الاقتصادي أصلاً.
وإلى جانب معادلات الاقتصاد والسياسة والدول، ظهرت المبادرات والحركات الأصغر. حتى الحركات الفنية والثقافية التي تنطوي على شيء من العبثية، كانت تبحث عن معنى الحرب ومسبباتها، واعتبرت سيكولوجيا الجنود جزء من معادلة الحرب، ففي الوقت الذي قال فيه الغرب لجنوده إذهبوا للدفاع عن الحضارة والشرف، شعر قلّة من الجنود أن من يعود منهم حياً سيعود تحت حكم النخبة التي أشعلت الحرب واستفادت منها.
كانت روسيا ما بعد القيصرية، والدادائية والسوريالية أقلية في مناخ الحرب المتجذر، وعاجزتان عن الوقوف في وجه دعاية الحرب المتجددة، ومنذ تلك اللحظة إلى يومنا هذا، ما زالت النخبة الحاكمة الغربية، ووكلائها في العالم، مصممة على صياغة التصورات الذهنية الدافعة باتجاه الحرب، في المدارس والصحافة والمؤسسات الدينية، وتعتمد أسلوب إثارة غرائز البقاء لدى المجموع، وتخلق روابط عاطفية بينية فيه لتعزيز هذه الغريزة، وتُصدّر صورة مفادها أن هنالك خصم قادم للقضاء على الغرب، وغالباً من الشرق أو الجنوب، كما أنها تثير شعور التفوق العرقي الغربي، الذي دفعت أوروبا نفسها ثمنه خلال الحرب العالمية الثانية، إضافةً إلى تدخلها في صياغة وعي شعوب الجنوب في ذاتها ووعيها لتاريخها !
لا يختلف ما جرى في الحربين العالميتين، عمّا يجري في الحرب العالمية الدائرة اليوم، ولكن بشكلها الحديث الممكن. إن صناعة الصور الذهنية المنسجمة مع مبدأ الحرب ما زالت مستمرة، وبقوّة، وما زالت قادرة على إثارة هستيريا الجموع في العالم، شمالاً وجنوباً، ولكن الأكثر قسوة على أراضي دول الجنوب.
سوف أركز في هذه الورقة، على هذا العنصر بالتحديد، صناعة الغرب ووكلائه للصور الذهنية المحفزّة للحرب!
ميكانيزمات بناء الصورة الذهنية
أولاً: صورة الخطر الشرقي القادر على الوصول
أشارت استطلاعات الرأي داخل الولايات المتحدة الأميركية عام 2001، أن نسبة المؤيدين للحرب على العراق كانت ترتفع مع التصريحات الإعلامية، وصلت نسبة تأييد الحرب في لحظة معينة إلى 73% ، كان ذلك بعد الاستثمار في أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتصريحات كولن باول الشهيرة. ولكن، وبعد ما أسمي ب "جرح المعلومات"، انخفضت هذه النسبة مجدداً إلى 33%، قبل أن تعاود الارتفاع مجدداً باستخدام الآلية نفسها؛ الخطر الشرقي القادر على الوصول إلى الولايات المتحدة !
عمل الغرب على صناعة هذه الصورة ضد إيران وروسيا أيضاً، كيف؟
حاولت واشنطن تبرير العدوان الإسرائيلي على إيران، بعد أن دعمته بكل الإمكانات، وبعد أن شاركت بنفسها في العدوان على منشآت نووية إيرانية حساسة. كذب الغرب طيلة السنوات الماضية أنّ إيران خطر نووي، وهي بذلك تخفي الحقائق التالية:
1. في العقيدة النووية الإيرانية، يوجد قرار يقضي بمنع امتلاك السلاح النووي.
2. تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية تظهر حجم تعاون إيران على امتداد السنوات الماضية، حتى بعد الانسحاب الأميركي من الاتفاق. ارتفع عدد الكاميرات المنصبة في المنشآت النووية الإيرانية، ما بين عامي 2013 و2017 ، بنسبة 89%، وعدد جولات التفتيش والتحقق ارتفع بنسبة 152%، وعدد الأختام على المعدات ارتفع من 1800 عام 2013 إلى 2600 عام 2017، ومؤخراً كانت الوكالة تخصص 22% من تقاريرها وجهودها من أجل إيران لوحدها.
3. مع إثارة الغرائز بخطر قادم من الشرق، يراد التعتيم على الخطر القادم من الغرب؛ فنحن لا نعرف الكثير عن المفاعلات النووية الغربية وعيوبها الهيكلية، ولا نعرف شيئاً عن المفاعل النووي الأخطر في منطقتنا، وهو المفاعل النووي الإسرائيلي. هذا المفاعل النووي الذي بُني ونما في العتمة، وبمساعدة الفرنسيين ومن ثم الأميركيين؛ وعندما سئل رابين يوماً عن معيار تحديد الدولة التي تمتلك سلاحاً نووياً، قال أن تعلن هي عن ذلك، وأن تجرّبه، وسكت العالم إلى يومنا هذا، وفتح عيونه على إيران فقط. إن المفاعل النووي الإسرائيلي خطير في منطقتنا، حتى أننا نتضرر بسبب سياسات تصريف النفايات النووية، التي تنطوي على تقنيات تستهدف بيئات معينة، تماماً كما أننا أمام سياسات تطهير عرقي صامت.
لم تكن مصادفة عندما تحدّث نتنياهو عن قدرة الصواريخ الإيرانية الوصول إلى الولايات المتحدة، في حال تم تطويرها قليلاً، وليس مصادفة أن يقول أن الولايات المتحدة هي التالي، إذا لم يتم تدمير قدرات إيران الدفاعية. إن كل ذلك يدور في فلك صناعة صورة الخطر الشرقي القادر على الوصول، ولكن العالم ينسى أن هذا الشرق، وإن كان قادراً على الوصول فهو لا يرغب فيه؛ إلاّ دفاعاً عن النفس عندما يتطلب الأمر ذلك. لقد نشأت فلسفة الشرق على مبدأ التوافق، أمّا حل التناقض بالصراع والقوة فهو جوهر الفلسفة الأوروبية الحديثة، في نسختها الليبرالية بالتحديد.
لا يختلف الأمر مع روسيا، فالغرب أراد تصوير روسيا كقوة متأهبة للانقضاض على أوروبا، ويبرز إيمانويل تود في كتابه "هزيمة الغرب" مفارقة كبيرة تبدّد هذه الأوهام؛ هل فعلاً تحتاج روسيا إلى أراض جديدة، وهي تمتلك 17 مليون كم مربع من الأراضي، بمساحات شاسعة للزراعة، وبتصدير زراعي وصل في عدد من السنوات لمنافسة صادرات النفط، وكل ذلك مع كتلة سكانية أقل من اللازم لإنجاز هذه المهمة؟
إن الجغرافيا تنحاز ضد الفكرة القائلة بتأهب روسيا للهجوم على أوروبا، ولكن الإعلام الغربي ما زال يحقق نجاحات لا ننكرها في إقناع الرأي العام الأوروبي، أن روسيا فعلاً متربصة للقتال والمواجهة.
في شهر شباط عام 2025، أصدر مركز غالوب المعروف استطلاعاً للرأي يقول فيه أن 78% من الأميركيين ينظرون بطريقة غير تفضيلية إلى روسيا، وبعد شهرين، في نيسان من العام نفسه في استطلاع لمركز بيو للأبحاث والدراسات يقول أن 50% من الأميركيين البالغين يعتبرون روسيا عدو. ولكن لماذا يستمر الرأي العام الأميركي في دعم السياسة الأميركية في أوكرانيا، مع كل الضرر الذي يلحق بالاقتصاد بسبب التضخم، وبسبب المبالغة في الإنفاق العسكري الأميركي؟
1. إن الرأي العام الداعم لسياسات دعم أوكرانيا، يتغلغل داخله شعور القلق المصنّع من الوصول الروسي إليه، وإن التحفظ فيه على اختصار الدعم بعدم الانخراط الكلّي هو نابع في جزء منه من هذا القلق بالذات؛ وهو ما يعيدنا إلى العنوان الأول؛ الخطر الشرقي القادر على الوصول.
2. في الرأي العام الأميركي صورة متوارثة عن طبيعة نظام الحكم في روسيا، وجزء منها متوارث من الحقبة السوفياتية؛ لذلك عندما تستثار لديه أسئلة فلسفة الحق، يشعر أن روسيا تمثيل للحكم الديكتاتوري، من الاتحاد السوفياتي وصولاً إلى بوتين. كرّست وسائل الإعلام الأميركية هذه الصورة عن أنظمة الحكم المختلفة عنها سواء لجهة دور الفرد في السلطة ، أو لجهة وجود هيئات سياسية متعددة مختلفة عن النموذج الأميركي ( كما هو الحال في إيران وفنزويلا وكوبا مثلاً، التي نحتت جميعها نموذج إدارتها السياسي بمعزل عن الإملاءات الأميركية). إن هذا الأمر يتسّق تماماً مع اللاوعي الغربي بتفوق واستثناء نسخته الخاصة في الحكم، التي يعتبر النسخ المختلفة عنها شكلاً من أشكال الديكتاتورية.
ثانياً: هوية ثقافية غير تاريخية
تعرّض المفكر الفرنسي جان بودريار لكثير من النقد عندما كتب عن أحداث الحادي عشر من سبتمبر، بعنوان "صلاة لراحة البرجين التوأمين"، وقد تم تضمين هذا النصّ في كتاب شامل صادر عن المركز القومي للترجمة بعنوان "لماذا يقاتلون بموتهم"، ضمّ كتابات أخرى ذات صلة ب "ذهنية الإرهاب"، ومنها مشاركات لأمبرتو إيكو وجاك دريدا.
بعد "صلاة لراحة البرجين التوأمين"، اتّهم طيف واسع من التيار الثقافي الغربي بودريار ب "دعم الإرهاب". يقول بودريار أن البرجين مثّلا رمزية القوة والعدوانية للإمبراطورية الأكبر في العالم، ويقول أن الحادي عشر من سبتمبر كان سيحدث في كل الأحوال، لو لم يكن على يد القاعدة، فعلى يد غيرها من المجموعات، لأن فائض القوة والهيمنة يستدعي التدمير !
لقد كان بودريار مسكوناً بالحالة الموضوعية العالمية التي أدّت إلى ذلك الحدث المؤلم، لجهة الضحايا المدنيين، ولم يكتفِ بالتركيز على التكوين الثقافي للفاعل؛ وفي ذلك يتقاطع مع منطق ريتشارد وولف، الذي يعتبر أن الهجرة غير النظامية مثلاً هي نتيجة منظومة التبادل غير المتكافئ في العالم، والظلم الاقتصادي العالمي، الذي يرسم بيده مسارات الهجرة إلى المراكز الاقتصادية الحاملة للكم الأكبر من الفرص.
لقد استثمرت الولايات المتحدة في لحظة الحادي عشر من سبتمبر لصناعة هوية ثقافية غير تاريخية للشرق؛ وأرادت أن تقول للعالم أن الشرق كله "قاعدة"، ولكن من يقبل أن نقول أن الغرب كله هو "الكوكلوكس كلان"؟
استثمر الغرب في اللحظة، ورسم حدود صراع الحضارات انطلاقاً من مبدأ الهوية الثقافية الإرهابية (الشرقية/الجنوبية) في مواجهة الهوية الثقافية الحضارية (الغربية) (وقد خصّص الغرب مصطلح الإرهاب لهذه الهوية بالتحديد، ولا يُذكر أن مصطلح Terrorism استخدم في الأدبيات السياسية في محطات أخرى في العالم، في الحرب في فيتنام مثلاً)، وكان إدوارد سعيد في تعليقاته الأخيرة، قبل وفاته، قد كتب عن استحالة خلق هذه الحدود الفاصلة بين الحضارات، فمن نلوم على لحظة الحادي عشر من سبتمبر، من سلّح العالم وأغرقه بالسلاح (الغرب) أو من استخدمه (القاعدة)؟
استثمرت السياسة الإعلامية الغربية في لحظة الحادي عشر من سبتمبر استثماراً طويل الأجل، وعملت على تحويل اللحظة إلى غريزة وجدانية تطال الشرق بأكمله. ومع أن الغرب وظّف الحركات الإرهابية لخدمة مصالحه في المنطقة، فقد حاول سحب صورتها على الأطراف التي قاتلته بجدّية، وخلّصت المنطقة من مخاطره، أعني هنا أطراف محور المقاومة. وكما عمل الغرب على صناعة هوية غير تاريخية للشرق عبر الحادي عشر من سبتمبر، حاول مع "إسرائيل" في الحروب الأخيرة على المنطقة صناعة هوية غير تاريخية للأحداث، بنزعها جميعاً من سياقاتها.
يقول البروفيسور وليد عبدالحي في دراسته بعنوان "تحولات الرأي العام الدولي وطوفان الأقصى": " استراتيجية "إسرائيل" وحلفائها الغربيين على المستوى الإعلامي، تحديداً في الأيام الأولى من طوفان الأقصى، ولخصّها بمجموعة من النقاط:
1. "المقاومة هي التي بدأت بالهجوم، لذلك لا بد من إدانتها".
2. "الهدف المركزي للهجوم الإسرائيلي هو مواجهة "الإرهاب"، وتقصد المقاومة وليس المدنيين".
3. "التوجه إلى الغرب بخطاب عن فارق ثقافي عن الفلسطينيين، مركزه اعتبار المقاومة الفلسطينية امتداداً للتطرف والإرهاب. واعتبار الحرب على غزة هي امتداد للمعركة في أوكرانيا كدفاع عن القيم الليبرالية الغربية"
ولكن، من جانب آخر؛ ما يدعو إلى التفاؤل أن هذه الآلية تواجه إخفاقات يُراهن عليها؛ فشعار "فلسطين من النهر إلى البحر" عمّ الشوارع الأوروبية، وتقول الدراسات أن مكانة "إسرائيل" الدولية في تراجع، فتراجعت 10 مراتب في الصورة الذهنية العامة، وزاد عدد الدول التي تصوّت ضد سياساتها في الأمم المتحدة 35 دولة. لقد اضطرت "إسرائيل" بتكليف كوخافي في بداية الحرب ( حسب الوثائق التي كشفها موقع ديكلاسفايد)؛ باللقاء مع مسؤولين من كبرى وسائل الإعلام العالمية، لتنظيف صورة "إسرائيل" في الرأي العام العالمي.
في استطلاع للرأي صدر مؤخراً عن مركز بيو للدراسات 79% من اليابانيين ينظرون إلى "إسرائيل" بطريقة سلبية، ولكن، لماذا في اليابان؟ ذات النموذج الاقتصادي المشابه للغرب، وذات العلاقة الوطيدة به، باعتبارها ربما الشريك الأقرب للناتو من خارج القارة الأوروبية؟
في اليابان، لم يتم بناء صورة تاريخية شاملة عن منطقتنا، وعندما كان يتدفق المستشرقون من الغرب، كان أول من وصل إلينا من اليابان في القرن التاسع عشر، لقد حاكم اليابانيون صورة العربي بعيداً عن الإرث الغربي المثقل بصور التوحش. ولكن الهند، وفي الاستطلاع نفسه، لم تتجاوز النسبة 29% ممن ينظرون إلى "إسرائيل" بصورة سلبية، ويعود ذلك إلى النظر إلى صورة العربي عبر مرآة الصراع مع باكستان المسلمة.
حتى في الولايات المتحدة نفسها، يبدو الجيل الشاب في موقفه من القضية الفلسطينية أكثر تحرراً من عبء الموروث الثقافي للأجيال الأكبر، وهذا ما أكّدته الموجة العارمة للحركات الطلابية والاحتجاجات واستطلاعات الرأي المعتمدة على التقسيم العمري.
تجدر الإشارة هنا إلى أن أميركا اللاتينية، بحكوماتها اليسارية الثورية، كانت محصّنة ومنيعة بموروثها الثقافي الكبير من هذه الدعاية، وموقفها من قضايانا هو دين في أعناقنا جميعاً.
ثالثاً: الجمهور النفسي والرّمز المفرّغ من الدلالة
يعتقد غوستاف لوبون في كتابه "علم نفس الجماهير"، أن الفرد المنخرط في جمهور نفسي، يكتسب، بحكم العدد وحده، شعوراً بقوة لا تقهر، يتيح له الاستسلام لغرائز كان سيكبحها فيما لو بقي بعيداً عن هذه النفس الجماعية" ، وأن "حالة من العدوى العقلية تنتشر بين أفراده".
هل ساهم الإعلام الغربي في خلق جمهور نفسي عام معادي للمقاومة؟ أو حالة من حالات "الهستيريا الجماعية"؟
في العام 1987 صدرت وثيقة لوكالة الاستخبارات الأميركية (CIA) عن الحرب التي اندلعت بين العراق وإيران؛ وقد رأت النور عام 2011، وكانت الوثيقة بعنوان A dark and long range future for israel، وتقول الدراسة أنه من الممكن الاستفادة من نتائج هذه الحرب في إزاحة الوعي بالصراع العربي الإسرائيلي، إلى صراع عربي إيراني، وقد ساند هذا التصوّر انتشار عدد كبير من المحطات التلفزيونية ووسائل الإعلام المذهبية، التي تصور إيران كعدو، وطرف ينشر التشيّع، ولم تتردد هذه المنصّات بتصوير إيران كطرف يهدّد الرمز الديني للطائفة السنية. إن تصدير صورة التهديد تعمل أيضاً بمنطق لا تاريخي، خارج عن دراسة التاريخ الإسلامي نفسه، وبمنطق لا سياسي، لا يتأنّى في دراسة مواقف إيران السياسية، التي تعارض أذربيجان الشيعية في سياستها الخارجية، ناهيك عن عدم صدور بيان رسمي واحد من دول مثل الباكستان والهند تتحدث فيه عن أي تدخل إيراني في بلدانها التي تضم سكاناً من الشيعة !
ساهمت الدعاية في تعزيز حضور جمهور نفسي، تمثّل في الحركات التكفيرية، وساهم أيضاً في دفع جزء من الرأي العام لاتخاذ موقف مائع من هذه التيارات، تحت سطوة اللاوعي الطائفي. حدث ذلك في ظل تنصّل القوى الدولية من محاربة هذه التيارات التكفيرية، وتصدّي محور المقاومة لها، وحدث أيضاً في ظلّ رفع حزب الله للمعيار الأخلاقي أثناء مواجهة التيارات التكفيرية في سوريا، بالدفاع عن الكنائس التي يتم تفجيرها الآن.
مع أنّ النسبة الغالبة من شعوب المنطقة كانت تهتف وتصفّق للصواريخ الإيرانية التي تطلق باتجاه "إسرائيل"، خلال عمليتي الوعد الصادق1 والوعد الصادق 2، إلا أن ثمة شريحة ثانية من الناس لم تتوقف عن الترويج لاعتبار الأمر كله مسرحية، ولم تتوقف عن مطالبة حزب الله بالمزيد من التدخل في الحرب، من دون المطالبة بموقف حازم من الحكومات العربية، حتى أن عدد من وسائل الإعلام لم تصف المقاومين في لبنان الذين ضحّوا بحياتهم كشهداء !
لقد حدث كل ذلك بفعل الجمهور النفسي الناشئ تحت سطوة الدعاية الغربية، التي لم تبدأ منذ إصدار وثيقة الاستخبارات الأميركية سابقة الذكر. وهنالك شريحة ثالثة، صفّقت للصواريخ، مع تجنّب الثناء على إيران أو المقاومة في لبنان، وهي بذلك تصنّف في خانة ما أسماه فرويد "التناقض الوجداني".
إن سطوة الرمز ما زالت تعمل بفعالية، ولكنه الرمز الخالي من الدلالة التاريخية، والفهم التاريخي. في المجازر التي حدثت في السويداء مؤخراً، يهتف التكفيريون ضد النصيريين، في دلالة على الخلط بين العلويين والدروز.
الجمهور النفسي الذي ساهمت الدعاية الغربية في ولادته، هو نفسه الذي يعتبر أنّ سوريا "عادت إلى حاضنتها السنية"، كما تعبّر ال نيويورك تايمز مؤخراً. إننا أمام امتداد أثر الماكينة الإعلامية التي شاءت أن تصدّر التحالف الإيراني السوري السابق؛ كمشروع تمدد مذهبي إيراني، وتعزله عن سياقات التحالف الضروري لمواجهة المشروع الأميركي في المنطقة، تحديداً في عقد التسعينيات الذي اختلّ فيه النظام الدولي بأكمله، أو في العقد الأول من الألفية بعد الاحتلال الأميركي للعراق، أو العقد الثاني الذي شهد الموجة الأعنف من عمل التنظيمات التكفيرية في المنطقة.
مجدداً، وفي النظر إلى النصف الممتلئ من الكأس؛ هل يمكن القول أن هذا الجمهور النفسي يتقلّص؟ نحن محكومون بالأمل هنا، فالنظرة إلى اليمن لم تعد كالسابق على اعتبار أنصار الله امتداد للمحور الشيعي، والنظرة إلى قتال حزب الله في سوريا ربما تتغير تحت وطأة المجازر التي تحدث، وتحسس جميع الطوائف، بما فيها السنية ، رأسها من وطأة التكفير الثقيلة. هل تستمر النظرة إلى إيران على إيقاع الدعاية الغربية، بعد أن تعرّضت هي نفسها للقصف الإسرائيلي؟لن يكون ذلك عقلانياً أبداً.
رابعاً: التصدير الفاسد للاستثناء
في التاسع عشر من حزيران، أصاب صاروخ إيراني هدفاً عسكرياً إسرائيلياً في بئر السبع، وقد أدّى الانفجار إلى تضرر مكان بالقرب منه، وهو مركز سوروكا الطبي، الذي يستقبل الجنود الجرحى من جيش الاحتلال الإسرائيلي.
لقد كان أمراً غريباً للغاية تصدير هذا المركز الطبي كاستثناء في الحرب؛ ومحاولة تصدير المظلومية الإسرائيلية، و"إسرائيل" التي تبني أهدافها العسكرية إلى جانب المستشفيات والمراكز "المدنية"، و"إسرائيل" التي تقصف بشكل مباشر ومتعمد المستشفيات في إيران، وتقتل الأطفال، وتمارس إبادة جماعية وتطهير عرقي وإبادة مكان في غزة، وتقصف الموانئ في اليمن وتجرّف البنية التحتية في جنوب لبنان.
إن الإعلام الغربي يراهن على صناعة الذاكرة الجمعية قصيرة الأمد للأحداث؛ ويعتمد على التدفق الهائل للأخبار، التي تعمل كثقب أسود يمتصّ المعنى، لقد وصلنا إلى مرحلة مع كثرة هذه الوسائل وتطور أدوات الاتصال وميزانيتها الضخمة أن تعمل تخمة الأحداث على امتصاص المعنى. عامان يفصلان بين لحظة تزييف ما جرى في سوروكا و الجريمة الكبرى في المستشفى المعمداني في غزة؛ حتى هذه الجريمة، حاول الإعلام الغربي الاستفادة من مبدأ الاستثناء فيها، ففي الوقت الذي حاولت وسائل الإعلام الصادقة التركيز على الجريمة باعتبارها مثالاً من أمثلة متعددة على الجريمة المنظمة التي تجري في غزة، كان الإعلام الغربي يحاول تصديرها كاستثناء، أو "خطأ" يجب مراجعته والتحقيق فيه؛ وكأن كل ما يحدث غيرها لا يعد أصلاً جريمة بشعة متكاملة الأركان.
ليست الوكالة الدولية وحدها تركز أغلب جهودها ونشاطاتها لإيران (22% من مجمل نشاطاتها أو تقاريرها) ؛الإعلام الغربي ووكلائه أيضاً يجعلون من البرنامج النووي الإيراني الاستثناء الخطر، الذي يجب تسليط الضور عليه؛ ولا أحد يتحدث عن البرامج النووية الخطرة في العالم، وعلى رأسها المفاعل النووي الإسرائيلي، ولماذا يتم ذلك، لأن وسائل الإعلام هذه تعتبر أنه لا يوجد مناسبة أو Trend تستأهل الحديث عنه. ومن قال أن هنالك حاجة لأي مناسبة أو حدث جديد أو خبر لنتحدث عن المخاطر الاستراتيجية؟ هنا يكمن الفرق بين العمل الإعلامي القائم على التحشيد مستنداً على اللحظة فقط، والعمل الإعلامي الاستراتيجي، وهنا يكمن الفرق بين الرهان على التحشيد الغرائزي والخطاب العقلاني.
اقتراحات معالجة
1. الشرق والجنوب لا يبحثان عن صك غفران من النخبة الحاكمة في الغرب، بشأن هويتهما التاريخية؛ ولكن من حق شعوب العالم على وسائل الإعلام الصادقة في دول الجنوب، أن تعرف الراوية التاريخية الصحيحة عن هذه الهوية، ومن حق شعوب منطقتنا على وسائل الإعلام أن ترفع منسوب إدراكها ووعيها بذاتها. الخبر اليومي يجب أن يكون في خدمة الرواية التاريخية، والرواية التاريخية يجب أن تكون، حتى من دون خبر ومناسبة، أجندة يومية.
2. الاختبار الطائفي في منطقتنا ليس سهلاً، بل إنه أشبه بحقل ألغام واسع، ولكننا نحاول تفكيك الجمهور النفسي الذي ساهمت في إنتاجه وسائل الإعلام الغربية ووكلائها.
3. يجب أن لا نقع في فخ الاستثناء والبحث عن الترند اليومي، مع أهمية العمل على تغطيته، ولكن يجب أن نتحدث عن عناصر التهديد والتفتيت التي تحيط بنا كأجندة يومية؛ لسنا بحاجة إلى انتظار مناسبة بحجم محاولة اغتيال رئيس فنزويلا نيكولاس مادورو أو فرض العقوبات على رئيس كوبا ميغيل دياز لكي نتحدث، فالحديث عن التهديد وبطولة المواجهين يجب أن يكون أجندة يومية.
4. التوجه في الخطاب المباشر إلى شعوب العالم التي كانت الأقل عرضة للرواية الغربية في صناعة التصورات الذهنية عن دول الجنوب، وهنا أتحدث عن الشعوب الآسيوية، في اليابان والصين وكوريا وأندونيسيا وماليزيا وغيرها، يجب أن تكون روايتنا سبّاقة في الوصول قدر الإمكان. لقد كنا في الشرق محظوظين باليسار الثوري في أميركا اللاتينية الذي نقل صوت ألمنا، وبنى الصور المتقابلة لهموم شعوبنا.
هل نستطيع مواجهة المركزية الغربية؟
نحن مع الانفتاح على الموروث الثقافي والفلسفي لكل الأمم، بما في ذلك ما أنتجته المنظومة الغربية من فلسفة وعلوم وفنون لا يمكن إنكار ، ولكننا نقف ضد عنصرين؛ المصادرة والإلغاء.
ظهر المفكّر الهندي كوتيليا 375 قبل الميلاد، وبعد 18 قرناً كتب ميكافيللي كتابه "الأمير"، الذي يستقي فيها أفكار كوتيليا، ولكن هناك في الغرب من يصف كوتيليا بميكافيللي الشرق، ولكن الحقيقة التاريخية تقول أن ميكافيللي هو كوتيليا الغرب.
إننا ضد الإلغاء الذي مارسته المنظومة الغربية ، على اعتبار جميع الأنظمة التي لا تتبنى نسختها في الحكم والإدارة أنظمة ديكتاتورية وضد الإلغاء الذي تسلل إلى الذائقة الفنية وثقافة المطبخ عبر سلاح العولمة الإلغائي، الذي رفض نماء الهويات الخاصة للأمم في العالم، ورفض تفاعلها على قاعدة التبادل البنّاء.
هل نستطيع مواجهة هذا الإرث الثقيل من المصادرة والإلغاء؟
صحيح أن عملية الإلغاء كانت متعددة الأبعاد، عسكرية ومالية واقتصادية وثقافية وإعلامية، لكن هذا كلّه بدأ يتصدّع:
1. كانت الولايات المتحدة تنتج عام 1928 45% من مجمل الإنتاج الصناعي العالمي، اليوم لا يتخطى هذا الرقم حاجز ال 15%، وإذا قارنّا بين ما تقدمه الولايات المتحدة لاقتصاد العالم، ومستوى تحكمها فيه، تكون النسبة غير عادلة.
2. لقد كان عالم الورق والمال والبورصات أداة قاسية على اقتصادات دول العالم لعقود، ولكن مسارعة البنوك المركزية على طلب الذهب بدلاً من الدولار، بنسبة غير مسبوقة منذ 50 عاماً، يشي بتغير النظام المالي القائم، ناهيك عن انخفاض حصة الدولار من الاحتياطي العالمي إلى 56% بعد أن ضربت أرقاماً تجاوزت ال 70% قبل 10 سنوات، وانخفاض نسبة استخدامه في المدفوعات العابرة للحدود، وصولاً إلى 48% في شهر أيار العام الجاري 2025. كل ذلك يتزامن مع تأسيس أنظمة دفع بديلة في الصين وروسيا والهند.
3. يعتبر المفكر الفرنسي إيمانويل تود أن أوروبا تمارس انتحاراً ذاتياً بمؤازرة أميركية؛ يكفي أن تعتبر ألمانيا تدمير أنابيب نورد ستريم التي تمدّها بالطاقة أمراً عادياً.
ويتساءل تود عمّا تبقى من مفهوم الدولة-الأمة في الغرب أصلاً، في أوروبا وفي الولايات المتحدة، ويعتبر أن المنظومة القيمية انتقلت من المرحلة النشطة إلى الزومبي إلى الحالة صفر. في الوقت الذي تتكرّس فيه الدولة-الأمة في روسيا والصين وإيران ودول أميركا اللاتينية، وتنتعش منظومتها القيمية، هل يمكن القول أن الغرب هو أول من سيدفع الثمن المؤجل لتذويب الهويات الخاصة؟
جلال أمين؛ مفكر اقتصادي مصري، صدر له كتاب قبل عقود بعنوان خرافة التقدم والتخلف، وتقوم أطروحته على فكرة التخلص من قيود الرغبة في اللحاق بالنموذج الغربي، واعتبار ذلك هو السبب الأساسي في الشعور بالتخلف، كل ما هو مطلوب أن تبني مسارك الخاص، الذي يتحرك بمنطقه الخاص، عندها لن ترهقك مطاردة الآخر، الذي صدّقت دائماً أنه يركض أمامك.
لنا في تجربة كوبا وفنزويلا وإيران أمثلة واضحة؛ في بداية التسعينيات استغرب مفكرو الغرب من سرعة انهيار المنظومة الاشتراكية في الاتحاد السوفياتي، ولكنهم استغربوا أكثر من صمود كوبا، وبعد فرض وابل العقوبات على إيران وفنزويلا، ما زال العقل الغربي محتاراً في سبب صمودهما... إبحثوا عن الشعب!