هل تخدم الفوضى الشاملة أميركا أم تهدد مصالحها في لبنان؟ (3-3)

تفجير الساحة الداخلية يمكن أن يهدّد بعض مكتسبات واشنطن ويقلّص من فعالية أدوات تعتمدها للضغط على لبنان، كما يشرّع احتمال دخول قوى منافسة على الخط.

  • احتمال الفوضى؟
    احتمال الفوضى؟

تتسم بعض جوانب الدبلوماسية الأميركية بالخداع، خصوصاً في ظل إدارة ترامب. لكن المكر الأميركي 

وسيلة تستحضر غالباً في مواجهة الأطراف الممانعة والعصية على الإذعان، ولا تستدعيها المواجهة مع طرف مستسلم ومذعن مسبقاً.

في الشكل، تترافق الضغوط الأميركية على لبنان بهدف نزع سلاح المقاومة، مع إغراءات لا يوحي فعل الإيحاء بها بأن صاحبها يقدّم الفوضى على الاستقرار، وإلا لكان قفز مباشرة إلى تفعيل خطة الفوضى.

يتماسك هذا الانطباع على وجه الخصوص، في ضوء وجود أدوات ضغط متعددة ومؤثرة تمارسها الولايات المتحدة فعلياً ويمكن أن تتصاعد في وقت لاحق. لكن هل يتبدّد الاستقرار في الشهور المقبلة من خلال إجراءات كفيلة بكسر حالة المساكنة الظرفية التي أرستها تفاهمات أفضت إلى ما تمخّضت عنه جلسة مجلس الوزراء في 5 أيلول/سبتمبر الماضي؟

هامش المناورة

استبق السيناتور الأميركي ليندسي غراهام، ذو الميول الصهيونية، زيارته الأخيرة للبنان بتصريح ترغيبي قال فيه إن "تفكيك حزب الله يعني مساعدات اقتصادية للبنان"، مضيفاً أن "دول الخليج أوضحت للبنان أنها لن تساعد في إعادة إعمار الجنوب من دون تفكيك حزب الله".

منطق المبعوث الأميركي توم براك وهو يحاول تقويض حجج حزب الله حول المخاطر الوجودية (وهو مسعى أميركي سيستمر غالباً)، يدلّ بدوره على استدراك يستبطن مقاربات ناعمة.

إذ بعدما هدّد بإعادة لبنان إلى بلاد الشام، عاد وأوضح أن الرئيس السوري الانتقالي، أحمد الشرع، "ليس لديه أيّ مصلحة في وجود علاقة عدائية مع لبنان، ويتطلع إلى علاقة تاريخية وتعاون مشترك"، كما أوضح في السياق نفسه أن "إسرائيل لا تريد احتلال لبنان".

هل يمثّل ما سبق دليلاً على استبعاد احتمال الفوضى؟

لا يمكن بأي حال الركون إلى الوعود والإغراءات الأميركية، إلا أن مجرد وجودها يدلّ على أن هامش المناورة أمام الحكم في لبنان في مواجهة الإملاءات الأميركية ليس مقفلاً تماماً، هذا على افتراض أن هناك في السلطة من يعمل لمصلحة الدولة لا لمصلحة الأجندة الأميركية لقاء وجوده في السلطة. 

يستمد هذا التوجه زخمه بشكل خاص عندما تكون خيارات الانصياع أشدّ سوءاً من خيار المناورة والرفض والمساومة. 

هل تضحّي واشنطن بمكتسباتها؟

منذ نهاية العدوان الإسرائيلي الموسّع على لبنان في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي جرى إغراق المنصات اللبنانية وقنوات الإعلام التقليدي وحتى اللوحات الإعلانية بسردية فحواها أن هناك صفحة طويت في تاريخ لبنان وأن عهداً جديداً بزغ لا مكان فيه للمقاومة.

ترافق الحديث عن تطبيع آت لا محالة وانكسار التوازن وانعدام الخيارات، مع حملة تهويل بخطوات قد تقدم عليها واشنطن، لا طاقة للبنان الهش والمهشّم على تحمّلها، لذا لا مهرب وفق هذه السردية من الانصياع التام.

رغم أن موازين القوى اختلّت فعلاً بعد الحرب وضاقت الخيارات، إلى أنها لم تبلغ حد انعدام التوازن الكامل، وإلا لكان التعامل الأميركي مختلفاً.

حتى الساعة ما زالت الاحتمالات كلّها مفتوحة على مستقبل غامض بما في ذلك عدوان إسرائيلي موسّع، إلا أن الحديث في إطار هذه السلسلة لا يتمحور حول عدوان لا يمكن استبعاده، إنما عن احتمال فوضى داخلية شاملة تزجّ فيها الولايات المتحدة البلد عبر وسائل وأدوات شتى ومتزامنة، أو تأتي نتيجة الدفع بإجراءات معيّنة.

ما زال رأس المقاومة مطلوباً وهدفاً مركزياً في المساعي الأميركية، إلا أنه يمكن القول بشيء من الحذر، إن تفجير الساحة الداخلية يهدّد مكتساب أميركية نتجت عن تحولات ما بعد عدوان أيلول/سبتمبر الماضي، ويقلّص فعالية بعض أهم أدوات الضغط الأميركية في البلد، كما يشرّع احتمال دخول قوى منافسة على الخط، عدا عن احتمال انخراط قوى إقليمية بزخم أقوى عندما تبلغ الحرب الوجودية ذروتها، وتفعيل أدوات لم تفعّل حتى الآن.

في إطار هذه المعادلة التي تتموضع فيها المقاومة في إطار الصبر والصمود والعمل بصمت، لا تأتي الخطوات والمواقف المناوئة بمعزل عن أضرار جانبية تصبّ أحياناً في خدمة المقاومة. من ذلك تهديد برّاك الشهير حول ضم لبنان إلى سوريا الذي أحدث صدمة في أوساط الرأي العام اللبناني، كذلك الأحداث الدموية المنفلتة من عقالها التي شهدتها محافظة السويداء، وما شهده الساحل السوري قبل ذلك.

جانب من استطلاعات الرأي عكس تحسساً لبنانياً عابراً للطوائف إزاء ما سبق، واقترب بعضه من تفهّم منطق حزب الله وأهمية سلاحه إزاء المخاطر. إلى جانب المزاج العام اعترف براك نفسه بذلك أيضاً، في المقابلة إياها مع البودكاستر الأميركي. 

قال إن أحداث السويداء جعلت إقناع حزب الله بالتخلي عن سلاحه أكثر صعوبة، لأن "حزب الله يقول إننا محطتكم الأخيرة ضد إسرائيل وربما سوريا". وأضاف: "بعد السويداء، أصبحت هذه الحجة أكثر تأثيراً لأن المجتمع اللبناني يقول يا إلهي، لقد تجاوزت إسرائيل الحدود...".

المصلحة الأميركية في غاز المتوسط 

من جملة المصالح التي تتطلب استقراراً على المدى البعيد، وليس بالضرورة في المدى المنظور، مقدّرات لبنان من النفط والغاز. تقدر مصادر رسمية في لبنان أن بحره يحتوي على نحو 96 تريليون قدم مكعب من احتياطيات الغاز الطبيعي، و865 مليون برميل من النفط.

للولايات المتحدة مصلحة أكيدة في غاز البحر الأبيض المتوسط، ما يشكل فرصة للبنان إذا أحسن استخدامها لتعزيز صموده في وجه الإملاءات. لكن ذلك يصحّ في دولة تدرك مكامن قوتها وأهمية مقدراتها، أما الواقع فهو بعيد من هذا التصور الوردي، خصوصاً إذا عاينّا مقارباتها في ضوء ملفات أقل أهمية بكثير من ملف الغاز جرى التفريط فيها بسيادة الدولة ومصالحها، ثم تكرّر هذا السلوك في محطات مفصلية تتعلق بملف الغاز.

لا يلغي ذلك جملة التعقيدات التي تحيط بهذا الملف، فالغاز مصلحة لبنانية أيضاً ومطلب وطني يبشّر استثماره بآفاق واعدة وانفراجات في الوضعين المالي والاقتصادي، ولبنان واحد من دول عدة واعدة بالغاز في البحر المتوسط، ما يجعله من هذه الزاوية عرضة للابتزاز والمساومة وليس صاحب يد مطلقة في فرض الشروط.

لكن الغاز، ليس مجرد سلعة اقتصادية، وخطوط نقله تشكّل أحد أهم أسباب النزاع بين الدول الكبرى. وبسبب طبيعته الحيوية والاستراتيجية فإن قرار استخراجه وطريقة نقله وأسواق بيعه، عدا عن موعد هذا الاستثمار وهو عامل شديد الأهمية، يجعله يخضع لتوازنات وتجاذبات خارجية.

من هذا المنطلق تكمن مصلحة الولايات المتحدة في كسر الاعتماد الأوروبي على الغاز الروسي، لكن سياستها الحالية تدفع بأن يكون البديل هو الغاز الأميركي، أو على الأقل بلد تتمتع فيه بنفوذ كبير، وهذا ينطبق على دول مثل لبنان ويشكّل فرصة له.

في الأيام الماضية صرح وزير الطاقة الأميركي أنه يجب إبدال الغاز الطبيعي المسال ومصادر الطاقة الروسية في أوروبا بالصادرات الأميركية، بعدما كانت المفوضية الأوروبية تعهدت بحظر أي أنواع من واردات موارد الطاقة الروسية إلى الاتحاد الأوروبي بشكل كامل، وشراء النفط والغاز والمعدات النووية والوقود الأميركية.

روسيا على الخط

هذا الواقع دفع الشركات الروسية إلى توجيه اهتمامها باكراً نحو الاستثمار في قطاع الطاقة اللبناني. فقد تمكنت شركة "روسنفت" من إبرام اتفاق مع وزارة الطاقة والمياه في لبنان لتطوير مرافق تخزين النفط في مرفأ طرابلس، إلى جانب انخراطها في أنشطة التنقيب والإنتاج. وبذلك عززت روسيا حضورها الإقليمي في مجال الطاقة من بوابة لبنان، بما ينسجم مع تصريح رئيس الشركة، إيغور سيتشين، الذي أكد أنّ هذه الخطوة تتيح لـ"روسنفت" توسيع انتشارها في الشرق الأوسط.

وقد سبق أن سعت روسيا إلى إحباط أي مشاريع تهدد هيمنتها في سوق الغاز الأوروبية، خصوصاً تلك التي تمر عبر الأراضي السورية. ففي عام 2009 برز مشروع قطري لمدّ خط غاز باتجاه تركيا مروراً بسوريا، غير أنّ موسكو، الحريصة على حماية نفوذها الاستراتيجي في أوروبا، سارعت إلى التدخل لمحاولة إفشاله، في خطوة عكست إدراك روسيا العميق لما يشكله المشروع من تهديد مباشر لمصالحها الحيوية.

ومع بروز الاكتشافات النفطية والغازية الجديدة على السواحل الشرقية للمتوسط، بدا واضحاً أنّ هذه المشاريع تحمل في طياتها تهديداً مباشراً لإحدى أهم ركائز النفوذ الروسي، والمتمثلة في قدرتها على التحكم بتدفقات الغاز نحو أوروبا. ففقدان هذه الورقة يعني خسارة موسكو لأداة استراتيجية لطالما استخدمتها كوسيلة ضغط جيوسياسي تمكّنها من فرض حضورها في معادلات القرار الأوروبي.

في المقابل، تدرك الولايات المتحدة أنّ جوهر الصراع في شرق المتوسط لا ينفصل عن معركة الطاقة العالمية، إذ ترتكز استراتيجيتها الاقتصادية والسياسية على ضمان السيطرة على مصادر الطاقة وحمايتها، إلى جانب التحكم بممرات الملاحة البحرية والبرية التي تُعد شرايين التجارة الدولية وخطوط إمداد الطاقة. 

من هنا، فإنّ التبعية الأوروبية للغاز الروسي تمثل بالنسبة لواشنطن تحدياً استراتيجياً مزدوجاً: فمن جهة تسعى إلى حرمان موسكو من استخدام هذا الملف كورقة ضغط على الاتحاد الأوروبي لتمرير أجنداتها وتوسيع مجال نفوذها، ومن جهة أخرى تعمل على استكمال إحكام قبضتها على منظومة إنتاج وتوزيع ونقل الغاز، بما يرسخ هيمنتها على النظام الطاقوي العالمي.

التموضع في إطار التعارض الإقليمي

هناك تعارض آخر ذو طابع إقليمي حول ملف الغاز تمثّله المنافسة القائمة بين تركيا وبين "إسرائيل"، ما يشكّل أيضاً فرصة للدولة اللبنانية تتيح لها التموضع وفق مصالحها الاستراتيجية العليا، وتعزيز إمكانات المساومة انطلاقاً من هذا الواقع.

تتخذ المنافسة بين "إسرائيل" وتركيا على غاز شرق المتوسط طابعاً جيوسياسياً واضحاً، إذ تتمحور حول التحكم بخطوط النقل ومحطات تسييل الغاز كمدخل رئيسي للنفوذ الإقليمي. فـ"إسرائيل"، بعد اكتشاف حقولها البحرية الكبرى، تسعى إلى تثبيت نفسها كمصدّر رئيس للطاقة نحو أوروبا، بحيث تكون مركزاً إقليمياً يتصدر "منتدى غاز البحر المتوسط"، وهو إطار إقليمي يرفض لبنان حتى الآن الانضمام إليه بحكم وجود "إسرائيل" فيه، وتراهن "إسرائيل" في هذا الإطار على تحالف ناشئ بينها وبين مصر وقبرص واليونان.

في المقابل، تطرح تركيا نفسها باعتبارها الممر الأكثر واقعية بحكم موقعها الجغرافي وقدرتها على ربط غاز شرق المتوسط مباشرةً بشبكات الأنابيب الأوروبية القائمة. لكن هذا الطرح يتصادم مع الخلافات السياسية والبحرية بينها وبين كل من "إسرائيل"، وقبرص واليونان، ما يجعل المنافسة أشبه بصراع على من يمتلك "مفتاح العبور" نحو أوروبا.

وعليه، فإن التنافس الإسرائيلي التركي لا يُقرأ فقط كسباق تجاري، بل باعتباره جزءاً من لعبة نفوذ أوسع تتقاطع فيها مصالح الولايات المتحدة وروسيا والاتحاد الأوروبي، حيث تتحول خطوط الأنابيب ومحطات التسييل إلى أدوات لإعادة رسم توازنات القوة في شرق المتوسط، الأمر الذي يشكّل مدخلاً للدولة اللبنانية في سبيل رفع رهاناتها وتحقيق العائدات السياسية القصوى بالنظر إلى موقعها على خارطة المصالح الأميركية.