هل تخدم الفوضى الشاملة أميركا أم تهدّد مصالحها في لبنان؟ (1-2)
صحيح أنّ مصلحة واشنطن الأولى في لبنان أمن "إسرائيل" لكن ثمّة مصالح أخرى يجوز اختبار إذا كانت تستقيم مع حالة الفوضى التي توحي تصرّفات واشنطن أنها تدفع البلاد إليها.
-
لماذا الاستعجال وتحديد المهل الزمنية؟
لم يكن لبنان يوماً خارج دائرة النفوذ الأميركي. على امتداد عقود تفاوت مستوى هذا النفوذ، لكنه بقي مضبوطاً بتوازنات نسبية مع قوى أخرى، خارجية وداخلية. اختلّ التوازن بعد الحرب الإسرائيلية الأخيرة والمستمرة على البلد، وما تبعها من تغيّرات في سوريا والإقليم. بات لبنان خاضعاً بدرجة كبيرة إلى سطوة أميركية، ربما تكون غير مسبوقة، شاع معها إسباغ صفة الوصاية الأميركية والسعودية على العهد الحالي.
يتجلّى النفوذ الأميركي في لبنان اليوم من خلال مجموعة من الوسائل والأدوات. لا تخرج هذه الأدوات عمّا درجت عليه السياسة الأميركية في غير منطقة في العالم وفي لبنان خلال المرحلة السابقة، مثل سلاح العقوبات والتغلغل في مفاصل الدولة والسيطرة المالية وتكوين علاقات عابرة للأوساط السياسية والأمنية والإعلامية وخلافه.
منها أيضاً ما يرتبط بنتائج الحرب الإسرائيلية ومفاعيلها المستمرة. من ذلك منع إعادة الإعمار وعرقلة المساعدات وفرض إجراءات تشريعية تحت عنوان الإصلاح، إضافة إلى التلميح بترك لبنان لمصيره تارة والتلويح بالعصا الإسرائيلية وتوثّب سوريا الجديدة تجاهه تارة أخرى.
الاستقرار أم الفوضى؟
الإطباق الأميركي على لبنان، في إثر التطوّرات التي تداعت بعد العدوان الإسرائيلي في أيلول/سبتمبر الماضي، تدلّ عليه أيضاً طبيعة السلطة التي تشكّلت في إثر الحرب، وطريقة تشكّلها.
ومن دون الاضطرار إلى تعداد كلّ أوجه النفوذ الأميركي في لبنان، يتصرّف موفدو الإدارة الأميركية في البلد وكأنّ الفرصة باتت سانحة من أجل نزع سلاح المقاومة وإقفال هذا الملف نهائياً.
إلّا أنّ حركة هؤلاء، المتسقة مع "إسرائيل" والسعودية من أجل تحقيق هذا الهدف، تبدو كأنها في عجلة من أمرها، خصوصاً لجهة تحديد سقوف زمنية لإتمام هذه المهمة، الأمر الذي يطرح سؤالاً حول سبب هذا التشدّد الزمني، طالما أنّ الوقت في نظر البعض ليس لصالح المقاومة، وطالما أنّ سلاح المقاومة في نظر البعض من خصومها وأصدقائها السابقين بات عبئاً ناتجاً من اختلال موازين القوى.
هل لهذا الأمر علاقة بسعي حزب الله إلى ترميم قدراته؟ علماً أنه في هذه الحالة تسقط نظرية أنّ السلاح فقد فعّاليته بدليل الإصرار الأميركي على إتمام المهمة خلال وقت محدود. إذا كان السلاح غير مجد لماذا هذا الإصرار على نزعه؟
هل يرتبط الأمر بعدم استقرار الوضع في سوريا والخشية من تحوّلات مفاجئة فيها؟ أم أنّ للأمر علاقة بالترتيبات التي تعدّها واشنطن لمستقبل المنطقة، وفي صلبها المشاريع الاقتصادية التي لا يتواءم الاستثمار فيها مع احتفاظ القوى الممانعة بأسلحة فتّاكة يمكن أن تتحوّل إلى تهديد لتلك المشاريع؟
لماذا الاستعجال وتحديد المهل الزمنية؟
من نافل القول إنّ أكبر مصالح الولايات المتحدة في لبنان هي "إسرائيل". لهذا السبب يخيّم الغموض وعدم اليقين على ما قد تحمله الأيام والشهور المقبلة من تطوّرات على الساحة اللبنانية، خصوصاً أنّ مشاريع التقسيم والتفتيت بدأت تتلمّس خطواتها في سوريا.
على امتداد الشهور المنصرمة حملت المواقف الأميركية تجاه لبنان إشارات متضاربة. في تموز/يوليو الماضي تحدّث الموفد الأميركي إلى لبنان توماس برّاك صراحة عن احتمال ضمّ لبنان أو أجزاء منه إلى سوريا. في أواخر آب/أغسطس الماضي أعلن أنّ لبنان سيقدّم خطة تهدف "إلى إقناع" حزب الله بالتخلّي عن سلاحه. في معرض آخر ذكر أنّ المقترح اللبناني "لن يكون بالضرورة ذا طابع عسكري"، مشيراً إلى أن "لا أحد يريد الدخول في حرب أهلية في لبنان".
مواقف السيناتور ليندسي غراهام الذي يعدّ من عتاة داعمي "إسرائيل" في واشنطن ذهبت أبعد من ذلك. تحدّث الأخير عن عقد اتفاق دفاعي مع بيروت إذا مضت قدماً في خطة نزع السلاح، لكنه قال أيضاً إنه "لا يمكن مطالبة إسرائيل بأيّ التزامات قبل نزع سلاح حزب الله".
في المقابل حذّرت صحيفة "نيويورك تايمز" في تقرير لها الأسبوع الماضي، عشية جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، من "أنّ قادة لبنان يوشكون على نفاد الوقت لنزع سلاح حزب الله قبل أن يخاطروا بخسارة الدعم الماليّ الأميركيّ والخليجيّ، بل حتى مواجهة حملة عسكرية إسرائيلية متجدّدة".
يختلط هنا التهويل، بالتهديد القابل للتحقّق، بالحرب النفسية، وتصبح الأسئلة ملحّة:
إذا كان زجّ لبنان بفوضى داخلية تواكبها حرب إسرائيلية وإجراءات ضاغطة أخرى بهذه البساطة، فلماذا كلّ هذه الوفود الأميركية وزحمة الموفدين التي تحمل معها ترغيباً بقدر ما تحمل تهديداً؟
لماذا تتوانى الولايات المتحدة عن القفز مباشرة إلى تفعيل تهديداتها؟ هل لذلك علاقة بإجراءات بيروقراطية في دوائر القرار في واشنطن أم بتريّث ناتج من دقة الموقف الذي تسعى إلى السيطرة عليه؟
ليس المقصود من هذه الأسئلة التقليل من فعّالية وتأثير الإجراءات الأميركية التي يمكن أن تتخذ تجاه لبنان، ولا التقليل من قدرة القوة الأميركية الإمبراطورية على التصرّف سواء من قبلها مباشرة أو بواسطة "إسرائيل" وآخرين. القصد هو محاولة سبر إمكانات لبنان الدولة وما تبقّى من أوراق صالحة للمساومة مقابل الاعتبارات والمصالح والمشاريع الأميركية في البلد وانطلاقاً منه، من دون التقليل من صعوبة الواقع وتعقيداته.
يصحّ ذلك في حال كانت أميركا حريصة على عدم الإطاحة بالاستقرار الداخلي حرصاً على مصالح لا تفصح عنها، بطبيعة الحال، وفق مقتضى اللعبة السياسية، وإلا نُزعت صلاحية التهويل.
أما في حال كانت متواطئة مسبقاً في مجاراة مشاريع بنيامين نتنياهو المعلنة حول "إسرائيل الكبرى"، أو غير متحمّسة على أقل تقدير في معارضتها، أو غير راغبة في لجم أطماع "إسرائيل" في الاستيلاء على حقوق لبنان في الأرض والمياه العذبة والغاز البحري، فما هي ضمانات السيادة اللبنانية، عندئذ، في حفظ هذه المقدّرات غير سلاح المقاومة؟
فتيل التفجير
يمكن في أكثر من تصريح أميركي العثور على إغراءات هدفها دفع السلطات اللبنانية إلى إتمام تنفيذ قرارات 5 و7 آب/أغسطس الماضي الصادرة عن مجلس الوزراء اللبناني والقاضية بحصر السلاح، أو نزع سلاح المقاومة بتعبير أكثر وضوحاً.
وبمعزل عن النتائج المتوازنة التي تمخّضت عنها مقرّرات مجلس الوزراء اللبناني أخيراً على هذا الصعيد، فإنّ الإملاءات والضغوط الأميركية الحثيثة من أجل المضي بمشروع نزع سلاح المقاومة توحي في الشكل بأنّ مَن وراءها لا يبالي بما يمكن أن ينتج عنها من صدام داخلي قد يوصل البلد إلى حافة الفوضى الشاملة، بل توحي أحياناً أنّ هناك في واشنطن من يسعى إلى ذلك في سبيل تضييق الخناق أكثر على المقاومة وحصارها والضغط عليها لتسليم السلاح.
إذا كان هذا النمط من التفكير مفهوماً وفق العقلية الإسرائيلية ولا تحتاج خلفيّاته إلى كثير من العناء من أجل شرح مصلحة "إسرائيل" في دفع لبنان إلى الفوضى، فإنه في الحالة الأميركية، وخصوصاً في ضوء التصريحات آنفة الذكر وغيرها، يحتاج إلى مزيد من التريّث بعيداً من الإجابات السريعة.
صحيح أنّ الضغوطات الأميركية تدفع البلد فعلياً لا نظرياً إلى مرحلة الانفجار، الذي نُزع فتيله مؤقتاً في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة، لكنّ التريث منشؤه مجموعة تساؤلات:
لماذا قد تسعى الولايات المتحدة إلى الفوضى الشاملة في بلد واقع تحت نفوذها؟
بمعنى آخر: ألا تهدّد الفوضى إذا وقعت، هذا النفوذ ومعه المصالح الأميركية في لبنان أو بعضها على الأقل؟
وبعبارة أخرى، إذا كانت واشنطن قادرة اليوم، من خلال مجموعة أدوات وأساليب، على ممارسة الضغوط على اللبنانيين وابتزاز بعضهم أو جلّهم أو كلّهم، وتضييق الخناق على المقاومة والضغط على بيئتها الداعمة، من دون الاضطرار إلى دفع أي كلفة مقابلة من نفوذها، فلماذا تفرّط ببعض مكتسباتها وتعرّض مصالحها للخطر في سبيل الحصول على كلّ شيء، والآن فوراً، أو خلال فترة زمنية محددة بنهاية العام الجاري؟
حسابات الحقل وحسابات البيدر
لا تستقيم التساؤلات الآنفة من دون أسئلة مقابلة: هل ترغب واشنطن في دفع البلاد إلى فوضى شاملة أساساً؟ وهل هناك ما يمكن أن تخسره إذا وقعت هذه الفوضى؟ ألا يعدّ التخلّص من سلاح المقاومة مرة واحدة وإلى الأبد هدفاً جديراً بدفع أكلافه إذا كانت النتيجة خلو التهديدات الأمنية لـ "إسرائيل" ولأيّ مشاريع اقتصادية مستقبلية ولأيّ هندسات سياسية واجتماعية؟
لكن في هذه الحالة، ألا يحتمل أن تكون الحسابات الأميركية مبنية على تصوّرات غير محكمة، فيما قد تخالف التطوّرات اللاحقة حسابات الورقة والقلم؟
سبق أن اختبرت الولايات المتحدة في لبنان هذا التعارض بين حسابات الحقل وحسابات البيدر، ومسّت التحدّيات الأمنية بمصالحها ما اضطرها إلى الانكفاء.
حصل ذلك في العام 1983، عندما استهدفت شاحنة مفخخة ثكنة تابعة لمشاة البحرية الأميركية في بيروت، ما أسفر عن مقتل 241 جندياً وغيرهم من الأفراد الأميركيين. ذلك التفجير لم يكن سوى واحد من بين ثلاث عمليات استهدفت المصالح الأميركية في لبنان خلال ثمانية عشر شهراً، بما في ذلك تفجير السفارة الأميركية في نيسان/أبريل 1983 وملحق السفارة في أيلول/سبتمبر 1984.
في عوكر.. أكبر من سفارة
ما زالت الولايات المتحدة تستكمل بناء واحدة من أكبر تجمّعاتها الدبلوماسية حول العالم شمال شرق بيروت. البناء الجديد الذي يعدّ من ناحية مساحته ثاني أكبر تجمّع دبلوماسي أميركي، وفق متابعين، لفت بضخامته مجموعة من وسائل الإعلام الأجنبية قبل المحلية، بحيث يتعذّر أن ينظر إليه باعتباره مجرّد بناء يضمّ سفارة.
يعكس البناء وفق بعض الخبراء النظرة الأميركية إلى لبنان: حجمه لا يتناسب مع مساحة البلد وعدد سكانه بقدر ما يوحي بأنه مركز عمليات متقدّم يتلاءم والمنظور الأميركي إلى لبنان باعتباره نقطة ارتكاز جيوسياسية، ومنصة استراتيجية متعدّدة الاستخدامات.
يمتدّ التجمّع على مساحة تقدّر بنحو 120 ألف متر مربّع، ما يسمح له وفق تقرير نشرته عام 2023 مجلة "إنتلجنس أونلاين" الفرنسية المعنية بالشؤون الاستخباراتية، بمراقبة المنطقة بأكملها عن كثب.
ويشير التقرير إلى أنّ لبنان يعدّ موقعاً آمناً واستراتيجياً لنشر عملاء استخبارات موجودين بالفعل في المنطقة إضافة إلى موظفين جدد جرى اختيارهم مباشرة من الوكالات التي تتخذ من واشنطن مقراً لها، بهدف إنشاء قاعدة دائمة في بيروت.
يتقاطع هذا التقرير مع تكهّنات بأنّ حجم المبنى الجديد والأقسام والتجهيزات التي ينطوي عليها يشي بنية الولايات المتحدة إنشاء وجود عسكري كبير داخل المجمّع مع كامل العتاد والتجهيزات القتالية.
والسؤال الذي يطرح نفسه في هذا الإطار: هل الفوضى الشاملة تدعم هذا المشروع؟ أم لأنّ المشروع لم يكتمل بعد، فإنّ هذا هو الوقت الملائم لإحداث فوضى تمهّد لما بعدها؟
فوضى ليس بالضرورة أن تكون وفق الحسابات الأميركية شاملة، بل مضبوطة.