التضليل المُوجّه في الإعلام الإسرائيلي.. الحيلة (4-5)
يثبت التاريخ العسكري الحديث أنّ التضليل الإعلامي قبيل الحروب كان في كثير من الأحيان عاملاً حاسماً في تحقيق عنصر المفاجأة الاستراتيجية.
-
الحيلة في العقيدة الإسرائيلية.
تقدير نيّات العدو وما يضمره، يؤدّي في أيّ حرب، دوراً في تشديد الاستعدادات واتخاذ الإجراءات الكفيلة بتقليص الخسائر في الحدّ الأدنى، ومحاولة إفشال خطّته العسكرية في الحدّ الأقصى. هنا تحديداً، يؤدّي التضليل الإعلامي دوره في خدمة الأهداف العسكرية المُبيّتة.
ما حدث مع إيران في الأيام الأخيرة يُمكن إضافته إلى مجموعة من النماذج والأمثلة التاريخية المعروضة في هذا الجزء. وعلى اعتبار أنّ هذه السلسلة كُتبت وأُعدّت للنشر قبل العدوان على إيران بأيام، فإنّ التعديل الوحيد الذي سيطالها هو الجزء الأخير الذي يأتي تالياً ويُخصّص للخديعة الاستراتيجية التي شاركت فيها الولايات المتحدة بغرض مباغتة إيران. يضيء هذا الجزء على التضليل الإعلامي العسكري في تاريخ الحروب عموماً، وفي تاريخ الصراع العربي ـــــ الإسرائيلي على وجه التحديد، وعلاقة التضليل بعنصرَي المباغتة والحيلة في العقلية الإسرائيلية.
تسريبات مقصودة
يُعدّ التضليل الإعلامي أداة مركزية في إدارة الصراعات والحروب. تستثمر الأطراف المتحاربة وسائل الإعلام لنشر معلومات مضلّلة تهدف إلى خداع الخصم والتأثير في تقديراته الاستراتيجية. يُعرّف التضليل الإعلامي العسكري بأنه بثّ متعمّد لمعلومات كاذبة أو منقوصة أو مشوّهة عبر قنوات إعلامية مختلفة، بهدف خداع الطرف الآخر، وزرع الثقة أو الخوف لديه، ودفعه لاتخاذ قرارات خاطئة أو تأخير ردّ فعله قبيل اندلاع العمليات القتالية.
تؤدّي التسريبات والمصادر، دوراً محورياً ضمن هذا السياق، حيث تقوم الأطراف الفاعلة بتسريب معلومات مختارة وموجّهة حول نيّاتها المزعومة أو قدراتها أو خططها، بينما تخفي أهدافها الحقيقية، ما يساهم في بناء صورة مضلّلة للواقع العملياتي. وقد أثبت التاريخ العسكري الحديث، من الحرب العالمية الثانية إلى النزاعات الإقليمية المعاصرة، أنّ التضليل الإعلامي قبيل الحروب كان في كثير من الأحيان عاملاً حاسماً في تحقيق عنصر المفاجأة الاستراتيجية، وضمان التفوّق في الساعات الأولى للمعارك.
التضليل الإعلامي العسكري من واقع التاريخ الحديث
من المؤلفات التي تعتبر مرجعاً كلاسيكياً في دراسات التضليل الإعلامي العسكري كتاب "Bodyguard of Lies"
الذي يناقش بالتفصيل كيف استخدم الحلفاء حملات تضليل ممنهجة لخداع الألمان بشأن توقيت ومكان إنزال النورماندي خلال الحرب العالمية الثانية.
لكن في عملية بربروسا التي شهدت غزو ألمانيا للاتحاد السوفياتي عام 1941 كان الطرف الألماني هو من يقوم بالخداع هذه المرة، إذ رغم الحشد الألماني الضخم على الحدود، وُقِّعت معاهدة عدم اعتداء، واستُخدم الإعلام الألماني للحديث عن "السلام والاستقرار في أوروبا الشرقية"، بحيث لم يتوقّع ستالين الهجوم، فكان الغزو مفاجئاً وحقّق تقدّماً سريعاً في البداية.
يمكن العثور على دراسة أكاديمية معمّقة تشرح تقنيات وأساليب الخداع الاستراتيجي، بما في ذلك التضليل الإعلامي قبل الهجوم المفاجئ في كتاب "Military Deception and Strategic Surprise".
خلال حرب الخليج الثانية عام 1991 استخدم التحالف الذي قادته الولايات المتحدة حملة إعلامية ضخمة زعمت وجود حشود كبيرة لاجتياح مُعدّ من البحر، بينما كان الهجوم الفعلي يجري عبر الصحراء، ما أربك الدفاعات العراقية.
وقد سبق غزو الكويت من قبل صدام حسين عام 1990 أن صرّح الرئيس العراقي الراحل مراراً أنّ الحشود العسكرية العراقية على الحدود موجّهة "لأغراض دفاعية فقط" أو لـ "مناورات". وفي النتيجة غزا العراق الكويت بشكل مباغت من دون إنذار فعلي مسبق.
أما في العصر الحديث الذي تبرز فيه جبهات وسائل التواصل الاجتماعي فيعالج كتاب "Propaganda and Information Warfare in the Twenty-First Century" تطوّر استخدام الإعلام الحديث والمنصات الرقمية في بثّ التضليل قبيل العمليات العسكرية.
حدث ذلك قبل الغزو الروسي لأوكرانيا عام 2022، إذ واظبت موسكو لفترة طويلة قبل الغزو على نفي نيّتها الهجوم، ووصفت الحشود على الحدود بأنّ غرضها إجراء تدريبات عسكرية فقط. بدأ الهجوم بشكل مفاجئ فجر 24 شباط/فبراير، رغم ورود إشارات رسمية روسية بعدم وجود نيّة للاجتياح.
أما في منطقتنا العربية فتشير التجارب التاريخية إلى أنّ عملية التضليل بواسطة الإعلام مورست من قبل طرفي الصراع العربي والإسرائيلي. يعالج كتاب "The Yom Kippur War: The Epic Encounter That Transformed the Middle East" خلال حرب أكتوبر 1973 كيف أخفى الجيشان المصري والسوري نيّاتهما عبر سلسلة من المناورات الإعلامية والعسكرية، ما أدّى إلى مفاجأة "إسرائيل" بهجوم منسّق في "يوم الغفران" وهو يوم عطلة يهودي.
سوّق الجانب المصري إعلامياً حينها أنّ تحرّكات جيشه قرب قناة السويس كانت تجري لأغراض تدريبية روتينية، بينما كانت في الواقع استعداداً للهجوم المفاجئ على خط بارليف.
يبقى المثال الأبرز والأحدث والأكثر سطوعاً حول التضليل في الصراع العربي الإسرائيلي هو التضليل الاستراتيجي الذي نفّذته حركة حماس عشية "طوفان الأقصى"، ليشكّل دليلاً تاريخياً على أنّ التفوّق الإسرائيلي الحاسم، أو تفوّق العقل الإسرائيلي بالأحرى، ليس أكثر من مبالغة وعملية أسطرة.
الحيلة في العقيدة الإسرائيلية
يُعدّ التضليل الإعلامي الذي يسبق هجوماً مباغتاً أو حرباً خاطفة من أبرز أدوات التمويه والخداع الاستراتيجي لدى الجيوش. الهدف منه هو طمأنة العدو، وتشتيت انتباهه، وإخفاء النيّات الحقيقية حتى اللحظة الأخيرة، ما يمنح المهاجم ميزة المبادأة والمفاجأة.
الكيان الإسرائيلي لديه باع طويل في هذا المجال يمكن تتبّعه انطلاقاً من شواهد تاريخية، لكن في مسار البحث عن منشئه يمكن العثور على ما يؤكّد أنّ التضليل في الفكر الصهيوني يتقاطع بشكل وثيق مع الخداع، فالحيلة في الفكر الصهيوني ليست مجرّد تكتيك ظرفي، بل تمثّل عنصراً متأصّلاً وأساسياً في العقيدة العسكرية والأمنية الإسرائيلية. في هذا السياق يمكن الملاحظة أنّ شعار الموساد يحمل عبارة مقتبسة من سفر الأمثال تقول: "بالحيل تصنع لك حرباً".
تاريخياً أقدمت "إسرائيل" أكثر من مرّة على طرح معلومات مغلوطة في الإعلام قبل مبادرتها إلى القيام بعمليات عسكرية. حدث ذلك خلال العدوان الثلاثي على مصر عام 1956، حينما أوحت عبر إعلامها أنها تقوم بتدريبات عسكرية داخلية، بينما كانت قواتها تستعدّ للتقدّم باتجاه سيناء، كما حدث ذلك خلال حرب النكسة عام 1967 في عهد جمال عبد الناصر.
خلال العدوان على غزة في كانون الأول/ديسمبر 2008، استخدمت "إسرائيل" وسائل الإعلام لبثّ معلومات مضلّلة حول نيّاتها العسكرية، فقد سحبت قواتها من الحدود وأعلنت عبر قنواتها عن "هدوء" مزعوم. وفيما روّجت أنّ التهدئة مع حماس لا تزال خياراً مطروحاً كانت في الحقيقة تنهي الاستعداد لهجوم جوي واسع النطاق فاجأ الفصائل الفلسطينية في 27 كانون الأول/ ديسمبر، إذ استهدف مئات المواقع في موجة الغارات الأولى.
ولا تزال خديعة مترو الأنفاق ماثلة في الذاكرة وهي التي تطرّق إليها السيد حسن نصر الله في أحد خطبه. حدث ذلك في أيار/مايو 2021، خلال المواجهات مع المقاومة في غزة حينما زعمت "إسرائيل" أنها ستشنّ هجوماً برياً واسعاً على غزة، وكان الغرض من وراء هذا الإعلان محاولة إجبار عناصر المقاومة على التمركز في الأنفاق الدفاعية بهدف استدراجهم وتوجيه ضربات جوية مركّزة لتدمير تلك الأنفاق وقتل المقاتلين داخلها. لكنّ المقاومة الفلسطينية، وعلى رأسها كتائب القسام، كشفت الخدعة ولم تندفع إلى الأنفاق.
على أثر ذلك تعرّضت "إسرائيل" إلى انتقادات شديدة من قبل صحافيين دوليين اتهموها باستخدام الإعلام كأداة خداع من خلال التسريب لمراسلين أجانب أخباراً كاذبة حول نيّتها بدء عملية برية.
وخلال حرب 2006 على لبنان حرصت "إسرائيل" قبل بدء الغارات المكثّفة على الترويج عبر إعلامها بأنّ الردّ سيكون "محصوراً" و"محدوداً" غداة أسر جنديين من قبل حزب الله. لكن بعد ساعات فقط، شنّت حملة جوية واسعة النطاق على البنى التحتية اللبنانية، كانت أُعدّت مسبقاً.
التضليل في خدمة المباغتة
يخدم هذا النوع من التضليل غرضاً عسكرياً واضحاً لدى الجانب الإسرائيلي: المباغتة، وهي عنصر مركزي في العقيدة القتالية الإسرائيلية.
تُوظّف المباغتة لتحقيق التفوّق العملياتي، وتقويض قدرات الخصم، وكسر توازنه النفسي والعسكري، وتُظهر الدراسات أنّ "إسرائيل" تعتمد على المباغتة كأداة استراتيجية لتقليل الخسائر وتسريع الحسم، خاصة في ظلّ افتقارها إلى العمق الجغرافي.
وفقاً لتقرير أعدّته مؤسسة RAND، تُعدّ المباغتة وسيلة لتعويض محدودية الموارد والمساحة في الجانب الإسرائيلي، من خلال تنفيذ ضربات استباقية أو وقائية تُربك العدو وتمنعه من تنظيم دفاع فعّال. تُبرز حرب الأيام الستة عام 1967 كمثال كلاسيكي على هذا النهج، حينما شنّت "إسرائيل" هجوماً جوياً مفاجئاً دمّر سلاح الجو المصري في ساعاته الأولى، الأمر الذي منحها تفوّقاً حاسماً في الحرب.
تُظهر الوثائق الإسرائيلية الحديثة، مثل وثيقة "مفهوم الأمن القومي 2030"، وهي خطة استراتيجية تمّ إعدادها بطلب من بنيامين نتنياهو بين عامي 2016 و2018 وتهدف إلى رسم إطار أمني طويل الأمد لـ "إسرائيل"، تُظهر استمرار التركيز على المباغتة كعنصر حاسم في العقيدة القتالية الإسرائيلية، مع تأكيد ضرورة الاحتفاظ بالقدرة على تنفيذ ضربات مفاجئة في غضون ساعات قليلة.