الرؤية اليهودية للمشيح وعلاقتها بالمشروع الصهيوني
التصوّرات اليهودية التقليدية المستندة إلى نصوص التوراة بشأن "المشيح"وصفاته ودوره في إعادة اليهود إلى فلسطين تختلف جوهرياً عن الممارسات الصهيونية المعاصرة.
-
ما هي صفات المشيح بحسب النصوص اليهودية؟ وما الذي سيفعله؟
إنّ التصوّرات اليهودية المستقاة من نصوص التوراة حول المشيح وصفاته وممارساته بعد إعادة اليهود إلى فلسطين لا تلتقي مع الممارسات الصهيونية الحالية على الإطلاق، وربما كان هذا هو السبب الذي دفع هذه الحركة لمحاولة تجاوز الواقع التاريخي الذي ظهرت فيه هذه النصوص.
ثمّة ملاحظات يمكننا أن نلتفت إليها حول التساؤل السابق:
فالملاحظة الأولى هي حلول روح الرب على المشيح: "وَيَحُلُّ عَلَيْهِ رُوحُ الرَّبِّ، رُوحُ الْحِكْمَةِ وَالْفَهْمِ، رُوحُ الْمَشُورَةِ وَالْقُوَّةِ، رُوحُ الْمَعْرِفَةِ وَمَخَافَةِ الرَّبِّ "(إشعيا 11: 2)، وبناء على هذا الحلول فإنه يقضي بالعدل للمساكين وبائسي الأرض، وبالتالي فإن أحكامه ليست نابعه من بشريّته: "فَلاَ يَقْضِي بِحَسَبِ نَظَرِ عَيْنَيْهِ، وَلاَ يَحْكُمُ بِحَسَبِ سَمْعِ أُذُنَيْهِ، بَلْ يَقْضِي بِالْعَدْلِ لِلْمَسَاكِينِ، وَيَحْكُمُ بِالإِنْصَافِ لِبَائِسِي الأَرْضِ "(إشعيا 11: 3، 4).
الملاحظة الثانية هي تجميعه لشتات اليهود من أطراف الأرض الأربعة: "وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ أَنَّ السَّيِّدَ يُعِيدُ يَدَهُ ثَانِيَةً لِيَقْتَنِيَ بَقِيَّةَ شَعْبِهِ، الَّتِي بَقِيَتْ، مِنْ أَشُّورَ، وَمِنْ مِصْرَ، وَمِنْ فَتْرُوسَ، وَمِنْ كُوشَ، وَمِنْ عِيلاَمَ، وَمِنْ شِنْعَارَ، وَمِنْ حَمَاةَ، وَمِنْ جَزَائِرِ الْبَحْرِ. وَيَرْفَعُ رَايَةً لِلأُمَمِ، وَيَجْمَعُ مَنْفِيِّي إِسْرَائِيلَ، وَيَضُمُّ مُشَتَّتِي يَهُوذَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَطْرَافِ الأَرْضِ" (إشعيا 11: 11، 12).
وفيما يتعلّق بصدامه مع أعداء اليهود فثمّة إشارتان متناقضتان، حيث تقول الأولى: "يَضْرِبُ الأَرْضَ بِقَضِيبِ فَمِهِ، وَيُمِيتُ الْمُنَافِقَ بِنَفْخَةِ شَفَتَيْهِ" (إشعيا 11: 4)، وهي دليل على سلمية طريقة، بل يشير سفر إشعياء إلى حالة سلمية أكبر: "فَيَسْكُنُ الذِّئْبُ مَعَ الْخَرُوفِ، وَيَرْبُضُ النَّمِرُ مَعَ الْجَدْيِ، وَالْعِجْلُ وَالشِّبْلُ وَالْمُسَمَّنُ مَعًا، وَصَبِيٌّ صَغِيرٌ يَسُوقُهَا. وَالْبَقَرَةُ وَالدُّبَّةُ تَرْعَيَانِ. تَرْبُضُ أَوْلاَدُهُمَا مَعًا، وَالأَسَدُ كَالْبَقَرِ يَأْكُلُ تِبْنًا. وَيَلْعَبُ الرَّضِيعُ عَلَى سَرَبِ الصِّلِّ، وَيَمُدُّ الْفَطِيمُ يَدَهُ عَلَى جُحْرِ الأُفْعُوَانِ. لاَ يَسُوؤُونَ وَلاَ يُفْسِدُونَ فِي كُلِّ جَبَلِ قُدْسِي، لأَنَّ الأَرْضَ تَمْتَلِئُ مِنْ مَعْرِفَةِ الرَّبِّ كَمَا تُغَطِّي الْمِيَاهُ الْبَحْرَ" (إشعياء 11: 6-9).
وفي سفر إشعياء إشارة أخرى إلى وقت ظهور المشيح وسلميّة حركته، كما يحدّد بوضوح المخاطب بهذه الآيات وهو بيت يعقوب: "ويكون في آخر الأيام أن جبل بيت الرب يكون ثابتًا في رأس الجبال، ويرتفع فوق التلال، وتجري إليه كل الأمم. وتسير شعوب كثيرة، ويقولون: هلم نصعد إلى جبل الرب، إلى بيت إله يعقوب، فيعلمنا من طرقه ونسلك في سبله. لأنه من صهيون تخرج الشريعة، ومن أورشليم كلمة الرب.
فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين، فيطبعون سيوفهم سككًا ورماحهم مناجل. لا ترفع أمة على أمة سيفًا، ولا يتعلمون الحرب في ما بعد. يا بيت يعقوب، هلم فنسلك في نور الرب" (إشعياء 2: 2-5).
في سفر حجي يشير إلى طبيعة المشيح والذي يوصف بمشتهى كلّ الأمم بما يعني أنه سيمثّل الخلاص لكلّ الأمم حتى من غير العبرانيين: "لأنه هكذا قال رب الجنود هي مرة بعد قليل فأزلزل السماوات والأرض والبحر واليابسة وأزلزل كلّ الأمم ويأتي مشتهى كلّ الأمم فأملأ هذا البيت مجدًا قال رب الجنود" (حجي 2: 6،7).
لكنّ كيفيّة النجاح في تجميع شتات اليهود وأمن أورشليم وخلاص يهودا والتخلّص من جميع الأعداء غير واضحة في النصوص التوراتية، بل هناك آيات تنصّ على اللجوء للعنف: "وَيَنْقَضَّانِ عَلَى أَكْتَافِ الْفِلِسْطِينِيِّينَ غَرْبًا، وَيَنْهَبُونَ بَنِي الْمَشْرِقِ مَعًا. يَكُونُ عَلَى أَدُومَ وَمُوآبَ امْتِدَادُ يَدِهِمَا، وَبَنُو عَمُّونَ فِي طَاعَتِهِمَا "(إشعيا 11: 14).
وتشير التوراة إلى أنّ هذا المخلّص سوف يوحّد جميع الأمم، ويجعله الرب نوراً لها: "أَنَا الرَّبَّ قَدْ دَعَوْتُكَ بِالْبِرِّ، فَأُمْسِكُ بِيَدِكَ وَأَحْفَظُكَ وَأَجْعَلُكَ عَهْدًا لِلشَّعْبِ وَنُورًا لِلأُمَمِ، لِتَفْتَحَ عُيُونَ الْعُمْيِ، لِتُخْرِجَ مِنَ الْحَبْسِ الْمَأْسُورِينَ، مِنْ بَيْتِ السِّجْنِ الْجَالِسِينَ فِي الظُّلْمَةِ" (إشعيا 42: 6، 7)، وهو ما يتعارض كذلك مع التوجّه العنيف في مواجهة الأقوام التي كانت محيطة بالعبرانيين كالفلسطينيين، الأدوميين، الموآبيين والعمونيين.
وبغضّ النظر عن التفسير اليهودي أو المسيحي لهذا التعارض، والذي من المحتمل أن يكون مؤقتاً، خاصة أنّ بعض هذه الأقوام دخل في فترات لاحقة ضمن نطاق أتباع الدين اليهودي، فقد أدخل يوحنا هركانوس المكابي الأدوميّين لاحقاً في جماعة اليهود، أما العنصر الفليساتي (الفلسطينيون) فبالرغم من صداماتهم المتعدّدة مع العبرانيين، فقد اندمجوا بين سكان المنطقة بصورة عامّة، بل أنّ مؤلفي قاموس الكتاب المقدّس يرون أنهم صاروا ضمن الأمة اليهودية في وقت سابق على العهد الجديد، على أننا يجب أن ننتبه لأمرين؛ الأول: أنّ النبي إشعياء عاش في مرحلة ما قبل السبي الأول، وبالتالي فإنّ نبوءاته في غالبيتها وفي تهديدها لبعض الأمم المجاورة تشير إلى اقتراب هذا الحدث والعودة منه وانتقام الرب من هذه الأمم الشامتة فيما حلّ بالمملكتين العبرانيتين الشمالية والجنوبية.
الثاني: أنّ مصطلح اليهود، كما أشرت سابقاً، في هذه الفترة لم يكن يتجاوز العبرانيين، وبالتالي فإنّ نبوءاته تمثّل حدثاً خاصاً بهذه القبيلة وليس عامّاً على كلّ الذين انتموا للديانة اليهودية من شعوب أخرى.
وبالتالي يمكننا أن نفهم أسباب عدم حماس اليهود لفكرة التجمّع في فلسطين خلال الفترات التي تلت فشل الثورة اليهودية بقيادة شمعون باركوخبا (132 –135)، فخلال هذه الفترة انتشر اليهود بمناطق الشتات وتمكّنوا من نشر ديانتهم بين شعوب أخرى ومن بينها بعض القبائل العربية حيث كانوا موجودين عبر هذه القبائل على طول خطوط التجارة من اليمن إلى الشام، وبالرغم من أنّ عودتهم لفلسطين ارتبطت من الناحية الدينية بظهور المشيح، وهو ما لم يتحقّق حتى الآن، إلّا أنّ هذا السبب لم يكن هو الأساس في تفضيلهم البقاء بالشتات بقدر ما كان ازدهار أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية وحتى العلمية، هو السبب الأساسي كما أشار إيلي ليفي أبو عسل، ومن المحتمل أنّ هذه النبوءات لم تثر الحماس الكافي لدى المتهوّدين من الشعوب الأخرى، والذين احتفظوا إلى حدّ كبير بلغاتهم الأصلية وانتماءاتهم وعاداتهم وتقاليدهم بالرغم من اعتناقهم للدين اليهودي.
المنفى (رؤية شلومو ساند)
إنّ المنفى المقصود هنا هو المنفى الثاني والذي يفترض أنّه تمّ في سنة 70م بواسطة الرومان. حيث يرى الكاتب الصهيوني شلومو ساند أنه: "كان هناك حاجة لنموذج منفوي سام من أجل بناء ذاكرة ذات مدى بعيد، صور فيها شعب عرقي متخيّل ومنفي على أنه استمرار مباشر لـ (شعب التناخ) السابق له.
وبما أنّ ميثة الاقتلاع والطرد ضخمت على ما يبدو من قبل التراث المسيحي ثم انتقلت منه لتتغلغل أيضاً في التراث والتقاليد اليهودية، فقد تحوّلت هذه الميثة فيما بعد إلى حقيقة منقوشة في التاريخ العام والتاريخ القومي على حد سواء".
يؤكّد الكاتب الصهيوني في كتابه أنّ الرومان لم يقوموا قط بنفي (شعوب). كما أنّ الآشوريين والبابليين لم يلجأوا في تاريخهم أبداً إلى إبعاد السكان الخاضعين لهم قاطبة. مشيراً إلى أنّ مثل هذه السياسة لم تكن مجدية بالنسبة لشعب منتج لمحصول زراعي ودافع للضرائب. وفي المقابل يعترف الكاتب بأنّ حكّام روما اتّبعوا سياسة متشدّدة في قمع السكان الثائرين، حيث قاموا بإعدام محاربين، وبيع الأسرى كعبيد، وأحياناً نفوا ملوكاً وأمراء، لكنهم قطعاً لم يلجأوا إلى نفي جمهور كامل من السكان في مناطق احتلالهم.
ويحمّل الكاتب المؤرّخ اليهودي يوسيفوس فلافيوس مسؤولية انتشار هذه الشائعة، كونه المصدر الوحيد لها، لكنه يشير إلى أنّ أضرار تمرّد الزيلوت الذي بدأ سنة 66م، لم تلحق بكلّ مملكة يهوذا وإنما بأورشليم وبعض المدن المحصّنة، ولكن في المقابل فإننا لا نجد في الوثائق الرومانية أيّ إشارة لحدوث نفي من أرض فلسطين.
يستدل الكاتب على رفضه لعملية النفي الجماعي لليهود، بأنّ بعض المدن في فلسطين شهدت ازدهاراً عمرانياً في نهاية القرن الأول الميلادي، فضلاً عن ذلك فقد بلغت الثقافة الدينية اليهودية في غضون وقت قصير إحدى أكثر فتراتها ازدهاراً. كما يستدل بالإحصائيات التي قدّمها المؤرّخ الروماني ديو كاسيوس حول خسائر المنطقة عقب تمرّد باركوخبا سنة 132م، والتي تشير إلى بقاء المجتمع اليهوديّ في هذه المقاطعة الرومانية، كما لا تشير على الإطلاق، رغم المبالغة إلى أيّ عملية نفي، لقد تحوّل اسم مقاطعة يودايا (اليهودية) إلى فلسطين، ومنع اليهود من دخول أورشليم التي تحوّل اسمها إلى (إيليا كابيتولينا)، وبيع اليهود الأسرى كعبيد في أسواق النخاسة بحسب الوثاق الرومانية: "إنّ اليهود قد بيعوا جزاء ثمن بخس، حيث يساوي الفرد اليهودي طعام وجبة واحدة لحصان واحد"، كما اتخذت إجراءات قاسية ضدّ السكان، ولا سيما حول العاصمة، تطوّرت لاحقاً إلى القمع الديني، فقد منعت إقامة طقوس يوم السبت والختان، أكل الفطير، تعليم التوراة، إضافة إلى تعليم المدراس والجلسات الدينية، تعليق المزوزا على الأبواب، وكذلك طقوس الأعياد اليهودية مثل المظال، إشعال الشموع، النفخ بالأبواق، ارتداء التفلين، الصلاة بالكنيس. لكنّ كلّاً من اليهود والسامريين استمروا في فلسطين، وعادت بعض المدن اليهودية للنمو والازدهار بعد جيل أو اثنين من انتهاء التمرّد، وفي سنة 220م انتهت كذلك عملية جمع وتحرير وختم فصول المشناه الستة.
وينقل شلومو ساند، عن الباحث في جامعة بار إيلان الصهيونية حاييم ميلكوفسكي، أنّ هناك شهادات وردت في العديد من مصادر التنائيم (الفقهاء)، أنّ مصطلح جلوت (المنفى) وصَف في القرن الثاني والثالث للميلاد عملية استبعاد سياسية وليس عملية اقتلاع من البلد.
وينقل عن كاتب صهيوني آخر وهو يسرائيل يعكوف بوفال، المؤرّخ في الجامعة العبرية الصهيونية، أنّ ظهور الميثولوجيا المسيحية التي تحدّثت عن نفي اليهود كعقاب لهم على صلب المسيح ورفض دعوته، أدّى إلى قيام اليهود بتصميم أسطورة النفي في فترة متأخّرة نسبياً.
ومن الواضح أنه كان لكتاب التلمود البابلي (شُرع في تأليفه من القرن الرابع الميلادي إلى القرن السادس) تأثير في ترسيخ هذه الأسطورة، بحسب الكاتب الصهيوني، إلّا أنّ نصوص التلمود كذلك تصطدم بوضوح مع ممارسات الحركة الصهيونية، وكيانها في فلسطين، فقد جاء في التلمود البابلي: "ما هي النذور الثلاثة؟ أولاً، أن لا يكون الصعود إلى إسرائيل بالجدار (الهجرة الجماعية إلى الديار المقدّسة)؛ ثانياً، أخذ القدوس المبارك العهد على إسرائيل أن لا يتمرّد على أمم العالم؛ ثالثاً، أخذ القدوس المبارك العهد على عبدة النجوم أن لا يستعبدوا إسرائيل بصورة مبالغة".
ومن هنا كان الرحيل إلى أورشليم بالنسبة لليهود الربانيين يتمّ في حالات نادرة للدفن أو للحج، لكن بصورة عامّة فإنّ الذين طرحوا فكرة هجرة جماعية من أجل الإقامة في المدينة المقدّسة كانوا ينعتون بأنهم شواذ أو مهووسون.
إنّ ما ذكره الكاتب الصهيوني شلومو ساند، بالرغم من اعتماده على حقائق تاريخية، فإنه في تحليله يسعى إلى تجاهل حقيقة أنّ الواقع الاقتصادي والاجتماعي الذي تمتع به اليهود في الشتات المزعوم، كان له دوره في تجاهل الهجرة إلى فلسطين، قبل القرن التاسع عشر، ومن المؤكّد أنه لولا سقوط الأندلس وما تبعها من هجرة يهودية إلى أراضي الدولة العثمانية، ثم الهجرات الأشكينازية اللاحقة نتيجة الاضطهاد في شرق أوروبا، ربما كانت الطائفة اليهودية في فلسطين ستظل قاصرة على بعض اليهود القرّائين لا أكثر.
لا يمكن إنكار تأثير المعتقدات على الأفراد، لكنّ الاستسلام إلى ما يقال حول أنّ تحريم الهجرة الجماعية إلى فلسطين هو نتيجة الالتزام بعقيدة انتظار التدخّل الإلهي عبر المشيح من نسل داود، ليس منهجياً طالما لم يتعرّض الكاتب إلى الظروف الاقتصادية والاجتماعية التي دفعت اليهود إلى الالتزام بهذه النصوص التلمودية في ظروف رخائهم الاقتصادي وأمنهم، مقابل تجاهلهم لها عندما فرضت الظروف السياسية عليهم الهجرة.
إنّ الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية يكون لها تأثير واضح على سيادة معتقد ما وانتشاره وانحسار معتقد آخر، ويمكننا التأكيد أنّ معتقد العودة إلى فلسطين تحت سيادة المشيح، لم يكن ليسود أو يكون له هذا التأثير على الجماهير اليهودية، لولا تحسّن أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية في المنفى المزعوم، كما أنّ انتشار اليهودية كديانة بين شعوب أخرى لا علاقة لها بفلسطين، إلّا من الناحية الروحية فقط، بل واعتناق ممالك كحدياب في العراق وحمير في اليمن والخزر في القفقاس كان له تأثير في تحوّل الهجرة إلى هذه الممالك الحامية لليهود، ولم تكن الهجرة لفلسطين إلّا الحلّ الأخير لليهود في حالة سوء الأوضاع، وربما كان الدليل الأبرز على هذا التصوّر أنّ هذه الهجرات لفلسطين اقترنت دائماً باضطراب الأوضاع الاقتصادية والسياسية وعدم القدرة على الهجرة إلى مناطق أفضل من الناحية الاقتصادية والاجتماعية، وفي العصر الحديث توجّهت الهجرة بالأساس إلى أوروبا والولايات المتحدة الأميركية وليس لفلسطين، وحتى في هذه المرحلة كانت الهجرة تحت دعوى غير دينية بالأساس وإنما تعتبر اليهود عرقاً وقومية.
ومن الممكن التصوّر أنّ هذه الشعوب والممالك المتهوّدة، قد أدركت حقيقة أنّ النبوءة الخاصة بالمشيح بن داود خاصة ببني إسرائيل من بين اليهود، ولا تشملهم بأية حال، ومن هنا كان من الطبيعي أنّ تفكير هذه الشعوب في فلسطين ارتبط بالحج والزيارة وربما الإقامة أحياناً في المناطق التي تعتبرها ديانتهم مقدّسة، وليس الهجرة الجماعية، أو حتى الهجرة الفردية المكثّفة.
على أنني أتفق (من الناحية التاريخية فقط) مع الكاتب الصهيوني شلومو ساند، في أنّ النفي لم يحدث بالصورة التي تصوّرها الكتابات المسيحية واليهودية، والتي نشأت في إطار الصراع بين الديانتين، سواء في المرة الأولى أو الثانية، ومع قسوة العقوبات الرومانية فإنها تدل بوضوح على أنّ اليهود استمر وجودهم في فلسطين، وإن كان من المؤكّد أنّ بعضهم نتيجة لهذه العقوبات قد فضّل الرحيل عن فلسطين إلى أماكن أخرى، حيث يمكننا ملاحظة أنه في هذه الفترة بدأت محاولات نشر الديانة اليهودية لدى الشعوب المجاورة ومن بينها الشعوب العربية.