الرؤية اليهودية للمشيح وعلاقتها بالمشروع الصهيوني (1/2)

رفض اليهود لفكرة إعادة التجمّع في فلسطين ربما كانت له أسباب دينية مستقاة من النصوص التوراتية والتي تربط العودة لفلسطين بظهور الماشيح أو المسيا. 

  •  رفض اليهود لفكرة إعادة التجمّع في فلسطين له أسباب دينية!
    رفض اليهود لفكرة إعادة التجمّع في فلسطين له أسباب دينية!

كثيراً ما يتمّ الربط بين الحركة الصهيونية، وبين الحركات اليهودية المشيحانية، بدعوى أنّ كليهما كانتا تطالبان بعودة اليهود إلى فلسطين، ومن الواضح أنّ هذا الربط أتى بالأساس من الحركة الصهيونية ذاتها، التي سعت لحالة من المصالحة مع المتديّنين اليهود، مما أدى لنشأة الصهيونية الدينية بداية من عشرينيات القرن الماضي على يد الحاخام الأشكينازي إبراهام كوك، وذلك على الرغم من أنّ هذه الحركات كانت في جوهرها تطالب بالوجود اليهودي في فلسطين وليس بدولة لليهود، ومن الناحية التاريخية فهناك فارق كبير بين التصوّرين عند اليهود .

من المعروف في التاريخ الإسلامي أنّ اليهود أطلقوا لقب الفاروق على الخليفة الثاني عمر بن الخطاب عقب الفتح الإسلامي لفلسطين كونه رفع عنهم السيطرة المسيحية وسمح لهم بأن يكونوا موجودين في فلسطين، وهو لقب ذو طبيعة مشيحانية، حيث يشير نص يهودي بعنوان "رؤيا الحبر شمعون بن يوحاي" إلى اعتقاد بعض اليهود في هذه الفترة بدور مسياني (يلتقي مع لقب الفاروق) للخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فصاحب النص حين رأى أنّ مملكة إسماعيل كانت آتية، شرع يقول: "ألم يكفِ ما فعلته بنا مملكة أدوم الشريرة، حتى تأتينا مملكة إسمعيل أيضاً"؛ وللفور أجابه متاترون أمير التشجيع بقوله: "لا تخف، يا ابن الإنسان، فالقدوس المبارك لا يأتي بمملكة إسمعيل إلا لتخلّصكم من هذا الشر".

إنه بحسب إرادته يقيم عليهم نبياً وسوف يفتح لهم الأرض وسوف يأتون ويحيونها بعظمة، وسيكون هنالك خوف مريع بينهم وبين أبناء عيسو. أجاب الحبر شمعون قائلاً: "كيف نعرف أنهم خلاصنا؟" أجاب: "ألم يقل النبي اشعيا": "فيرى ركباً، أزواج فرسان" إلخ؟ لماذا جعل ركّاب الحمير قبل ركّاب الجمال، في حين أنه لا يحتاج إلا لأن يقول: "ركّاب جمال وركّاب حمير"؟ لكن حين يأتي راكب الجمل أولاً فالمملكة سوف تقوم عبر راكب على أحد الحمير". 

يعبّر هذا النص، المكتوب في القرن الثامن الميلادي، عن التصوّرات التي تمّ وضعها لاحقاً بواسطة اليهود لفكرة الفتوحات الإسلامية التي تمّت في عهد الخليفة الثاني والتي اعتبرته، بغرابة، خلاصاً لبني إسرائيل، ولا يبدو مثيراً للاستغراب إذاً أنه، أي كعب الأحبار، كان برفقة الخليفة أثناء دخوله للمدينة المقدّسة راكباً بعيراً بحيث تنطبق عليه الآية الواردة في سفر النبي إشعياء التي ذكرها النص.   

لقد أشار البطريرك مار أغناطيوس إفرام الأول، في دراسته المعنونة "الألفاظ السيريانية في المعاجم العربية"، إلى المعنى المسياني للقب "الفاروق"، فهو يعني المخلّص والمنقذ ويشير لدى المسيحيين إلى السيد المسيح (ع)، ويقول "جاء في مصحف الناموس للروم في فصل (حقوق الله)" [هكذا يقول سيدنا المسيح ووسيطنا وفاروقنا]"، وإذا كان أهل الكتاب (أو اليهود خصوصاً) من المقيمين في الشام والمتأثّرين بالثقافة السريانية السائدة في هذه الفترة، فمن الطبيعي أن يكون وصفهم للخليفة المسلم عبر استخدامهم للقب "الفاروق"، مخالفاً للاستخدام العربي لهذه الكلمة والذي يعني المفرّق بين الحق والباطل، بالرغم من إمكانية الجمع بين المعنيين من ناحية المضمون، فمن يمكنه التفريق بوضوح بين الحق والباطل يمكنه أن يكون مخلّصاً ومنقذاً بكلّ تأكيد .

والواقع أنّ الأوصاف الماشيحانية (المسيانية) لم يطلقها اليهود فقط على التابعين لديانتهم، وإنما حتى على من ساهم في عودتهم إلى فلسطين حتى لو لم يكن من اليهود، ولا يقتصر الأمر هنا على الخليفة المسلم، فقد سبق وأن أطلقت كذلك على الإمبراطور الفارسي قورش.

ويشير الدكتور عبد الوهاب المسيري في موسوعته إلى أن هذا الوصف تطوّر مدلوله حتى وصل إلى مرحلته الأخيرة التي تصف شخصاً مرسلاً من عند الله ويتمتع بقداسة خاصة، كإنسان سماوي وكائن معجز، بما يعني أنّ الفكرة الماشيحانية تطوّرت عند اليهود نتيجة للأحداث اللاحقة والتقلّبات السياسية التي شهدها تاريخهم، حتى وصلت إلى الشكل الأخير لها، وربما يفسّر حالة السيولة في إطلاق الألقاب المشيحانية على بعض الشخصيات حتى لو لم تكن يهودية، لكن فيما يتعلّق بالخليفة الثاني عمر بن الخطاب، فيبدو أن الألقاب المشيحانية لم تعد قاصرة على المخلّص المرسل من عند الله، وإنما كذلك على من يقومون بدور قد يعدّ تمهيدياً لدوره النهائي كما يبدو من الرؤية اليهودية السابقة.

ومن الغريب أنّ الخليفة الثاني عمر بن الخطاب كان له دور في عودة اليهود إلى فلسطين مرة أخرى بعد أن قام بإجلائهم في سنة 20 هجرية من خيبر والحجاز إلى تيماء وأريحا، وبالرغم من أنّ هذه الحادثة كانت عقوبة لليهود، إلا أنها في النهاية تلتقي مع اللقب المسياني الذي منحوه للخليفة كونه يدعم عودتهم لفلسطين مرة أخرى.

إذاً فالمهمة المشيحانية (المسيانية) بالنسبة لليهود هي في عودتهم لفلسطين، وليس إقامة دولة يهودية بأي نوع دينية أو علمانية، وهو ما قد يلتقي أكثر مع النصوص الدينية اليهودية، خاصة أنه بعد العودة من السبي لم يؤسس اليهود أي كيانات سياسية مستقلة.

بشكل عام تؤكد أسفار التوراة عودة بني إسرائيل إلى فلسطين، ولكن علينا هنا أن نوضح أولاً العلاقة بين مصطلحي (إسرائيل) و(اليهود)، فقد أصبح مصطلح اليهود اسماً عامّاً لكلّ بني إسرائيل فيما قبل السبي بفترة قصيرة، بعد أن كان اسماً خاصاً بسبط يهوذا ومملكتهم، تمييزاً لهم عن الأسباط العشرة الذين سمّوا إسرائيل، وفي عهد النبي إرميا المعاصر لفترة السبي استخدمت كمرادف لمصطلح العبرانيين، حيث اتسع مدلول الكلمة ليشمل كل أتباع الديانة العبرانية، ولاحقاً أصبحت تطلق على كلّ العائدين من السبي، قبل أن تتسع أكثر لتشمل العبرانيين والدخلاء (المتهوّدين). 

من الناحية التاريخية، هناك شعوب أخرى اعتنقت الدين اليهودي من غير بني إسرائيل، كبعض القبائل والأسر العربية مثل الأيطوريين والحميريين، وشعب الخزر التركي، كما اعتنق حكّام دولة حدياب في العراق، وهي دولة ذاتية الحكم تابعة للفارثيين وتنتمي للعرق الآري، الديانة اليهودية في القرن الأول الميلادي، الأمر الذي ينفي تماماً فكرة الخلط بين مصطلحي بني إسرائيل واليهود، ومن هذا التوضيح يمكننا الإشارة إلى أنّ غالبية النصوص التوراتية لا تقصد اليهود بالمعنى الحالي وإنما تشير إلى العبرانيين منهم.

من ناحية النصوص التوراتية فإنّ الأنسيكلوبيديا الصهيونية تستند إلى العديد من النصوص التي تحاول عبرها إثبات علاقة ما بالعقيدة المشيحانية، إلا أنها تتجاهل عمداً خلفيّاتها التاريخية، بحيث لا تهتم بالتفريق بين النصوص التي تتنبّأ بالعودة من السبي البابلي، وبين النصوص التي تربط العودة لفلسطين بواسطة الماشيح، والتي بدورها تختلف بصورة ظاهرة عن ممارسات الحركة الصهيونية وقادتها، وعن التصوّرات التي سعوا لنشرها بين الجماهير اليهودية.

ففي سفر إرميا (30: 7-22): "7 آهِ! لأَنَّ ذلِكَ الْيَوْمَ عَظِيمٌ وَلَيْسَ مِثْلُهُ. وَهُوَ وَقْتُ ضِيق عَلَى يَعْقُوبَ، وَلكِنَّهُ سَيُخَلَّصُ مِنْهُ. 8 وَيَكُونُ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، يَقُولُ رَبُّ الْجُنُودِ، أَنِّي أَكْسِرُ نِيرَهُ عَنْ عُنُقِكَ، وَأَقْطَعُ رُبُطَكَ، وَلاَ يَسْتَعْبِدُهُ بَعْدُ الْغُرَبَاءُ، 9 بَلْ يَخْدِمُونَ الرَّبَّ إِلهَهُمْ وَدَاوُدَ مَلِكَهُمُ الَّذِي أُقِيمُهُ لَهُمْ. 10 «أَمَّا أَنْتَ يَا عَبْدِي يَعْقُوبَ فَلاَ تَخَفْ، يَقُولُ الرَّبُّ، وَلاَ تَرْتَعِبْ يَا إِسْرَائِيلُ، لأَنِّي هأَنَذَا أُخَلِّصُكَ مِنْ بَعِيدٍ، وَنَسْلَكَ مِنْ أَرْضِ سَبْيِهِ، فَيَرْجعُ يَعْقُوبُ وَيَطْمَئِنُّ وَيَسْتَرِيحُ وَلاَ مُزْعِجَ. 11 لأَنِّي أَنَا مَعَكَ، يَقُولُ الرَّبُّ، لأُخَلِّصَكَ. وَإِنْ أَفْنَيْتُ جَمِيعَ الأُمَمِ الَّذِينَ بَدَّدْتُكَ إِلَيْهِمْ، فَأَنْتَ لاَ أُفْنِيكَ، بَلْ أُؤَدِّبُكَ بِالْحَقِّ، وَلاَ أُبَرِّئُكَ تَبْرِئَةً. 12 لأَنَّهُ هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: كَسْرُكِ عَدِيمُ الْجَبْرِ وَجُرْحُكِ عُضَالٌ. 13 لَيْسَ مَنْ يَقْضِي حَاجَتَكِ لِلْعَصْرِ. لَيْسَ لَكِ عَقَاقِيرُ رِفَادَةٍ. 14 قَدْ نَسِيَكِ كُلُّ مُحِبِّيكِ. إِيَّاكِ لَمْ يَطْلُبُوا. لأَنِّي ضَرَبْتُكِ ضِرْبَةَ عَدُوٍّ، تَأْدِيبَ قَاسٍ، لأَنَّ إِثْمَكِ قَدْ كَثُرَ، وَخَطَايَاكِ تَعَاظَمَتْ. 15 مَا بَالُكِ تَصْرُخِينَ بِسَبَبِ كَسْرِكِ؟ جُرْحُكِ عَدِيمُ الْبَرْءِ، لأَنَّ إِثْمَكِ قَدْ كَثُرَ، وَخَطَايَاكِ تَعَاظَمَتْ، قَدْ صَنَعْتُ هذِهِ بِكِ. 16 لِذلِكَ يُؤْكَلُ كُلُّ آكِلِيكِ، وَيَذْهَبُ كُلُّ أَعْدَائِكِ قَاطِبَةً إِلَى السَّبْيِ، وَيَكُونُ كُلُّ سَالِبِيكِ سَلْبًا، وَأَدْفَعُ كُلَّ نَاهِبِيكِ لِلنَّهْبِ. 17 لأَنِّي أَرْفُدُكِ وَأَشْفِيكِ مِنْ جُرُوحِكِ، يَقُولُ الرَّبُّ. لأَنَّهُمْ قَدْ دَعَوْكِ مَنْفِيَّةَ صِهْيَوْنَ الَّتِي لاَ سَائِلَ عَنْهَا. 18 هكَذَا قَالَ الرَّبُّ: هأَنَذَا أَرُدُّ سَبْيَ خِيَامِ يَعْقُوبَ، وَأَرْحَمُ مَسَاكِنَهُ، وَتُبْنَى الْمَدِينَةُ عَلَى تَلِّهَا، وَالْقَصْرُ يُسْكَنُ عَلَى عَادَتِهِ. 19 وَيَخْرُجُ مِنْهُمُ الْحَمْدُ وَصَوْتُ اللاَّعِبِينَ، وَأُكَثِّرُهُمْ وَلاَ يَقِلُّونَ، وَأُعَظِّمُهُمْ وَلاَ يَصْغُرُونَ. 20 وَيَكُونُ بَنُوهُمْ كَمَا فِي الْقَدِيمِ، وَجَمَاعَتُهُمْ تَثْبُتُ أَمَامِي، وَأُعَاقِبُ كُلَّ مُضَايِقِيهِمْ. 21 وَيَكُونُ حَاكِمُهُمْ مِنْهُمْ، وَيَخْرُجُ وَالِيهِمْ مِنْ وَسْطِهِمْ، وَأُقَرِّبُهُ فَيَدْنُو إِلَيَّ، لأَنَّهُ مَنْ هُوَ هذَا الَّذِي أَرْهَنَ قَلْبَهُ لِيَدْنُوَ إِلَيَّ، يَقُولُ الرَّبُّ؟ 22 وَتَكُونُونَ لِي شَعْبًا وَأَنَا أَكُونُ لَكُمْ إِلهًا".

ومع طول النص الذي يعدّ النموذج الأكبر لنصوص أخرى، فمن الواضح أنّ إرميا يشير إلى عودة اليهود من السبي الأول، خاصة أنه عاصر الأيام الأخيرة لمملكة يهوذا ثم سقوطها على يد الكلدانيين، ويبدو أنهم عاملوه بتقدير أكبر وأطلقوا سراحه من سجن ملك يهوذا، ويرى القمص أنطونيوس فكري في شرحه للكتاب المقدّس أن النبي دانيال عرف موعد نهاية السبي من سفر إرميا. ومن ثم فاعتبار الحركة الصهيونية لهذا النص كدليل من النصوص التوراتية على عودة اليهود الحديثة إلى فلسطين هو مجرد مغالطة لا أكثر.

ومن الملاحظ أن النص يشير إلى بني يعقوب خاصة، وبالتالي فإن اليهود المقصودين ليسوا كل من اعتنق اليهودية، وما دلت عليه الكلمة عقب انتهاء السبي كما سبقت الإشارة، وإنما سلالة يعقوب فقط .

ثمّة نصوص أخرى في أسفار مراثي إرميا (إص 2: 14)، حزقيال (إص 39: 25 – 29)، ويوئيل (إص 3)، وبالنسبة لكلّ من إرميا وحزقيال فإنّ كليهما يتحدث عن العودة من السبي البابلي خاصة أنهما عاصراه، أما سفر يوئيل فلا يعرف أي شيء عن كاتبه سوى أنه من إقليم يهوذا، وأما ما يتعلق بفترة نبوته فهي مجهولة، وهناك آراء متعددة حول زمنها، وإن كان غالبية العلماء يعتقدون أنه تنبأ بعد السبي بالرغم من أن نصوصه ربما تشير إلى أن نبوته كانت في الفترة الأخيرة من هذا السبي وربما عاصر انتهائه: "لأَنَّهُ هُوَذَا فِي تِلْكَ الأَيَّامِ وَفِي ذلِكَ الْوَقْتِ، عِنْدَمَا أَرُدُّ سَبْيَ يَهُوذَا وَأُورُشَلِيمَ، أَجْمَعُ كُلَّ الأُمَمِ وَأُنَزِّلُهُمْ إِلَى وَادِي يَهُوشَافَاطَ، وَأُحَاكِمُهُمْ هُنَاكَ عَلَى شَعْبِي وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ بَدَّدُوهُمْ بَيْنَ الأُمَمِ وَقَسَمُوا أَرْضِي، وَأَلْقَوْا قُرْعَةً عَلَى شَعْبِي، وَأَعْطَوْا الصَّبِيَّ بِزَانِيَةٍ، وَبَاعُوا الْبِنْتَ بِخَمْرٍ لِيَشْرَبُوا" (يوئيل إص 3: 1-3).

وفي كل الأحوال فإنّ الإصحاح المشار إليه لا يتضمّن سوى توعّدات بعقاب الأمم الوثنية عقب ردّ السبي البابلي، وبالتالي فإن فكرة العودة هنا بعد خراب الهيكل سنة 70م تبدو مختلفة تماماً خاصة أن اليهود في العصور المختلفة ومنها العصور الإسلامية، كما سبقت الإشارة، لم يكونوا ممنوعين من أن يكونوا موجودين بفلسطين، ومع ذلك فإنهم لم يفكّروا في التجمّع، بل يعترف الكاتب الصهيوني إيلي ليفي أبو عسل أن: "هجر اليهود تلك المدينة وتركوها تنعى من بناها، وولوا وجوههم شطر الأندلس ثم اقتفى أثرهم جماعة من يهود مصر"، ويضيف حول حال اليهود في ضيافة العرب المسلمين: "فرفلوا في مروط المرح، وطاب عيشهم هنالك، واستمرأوا لذة الحياة، وعذوبة المعيشة، بعد طول الإحن التي ألمت بهم والكوارث التي ساورتهم. وهكا سكن ثائر روعهم. وانقشعت غياهب بؤسهم". والواقع أنّ تفضيل اليهود للبقاء في مناطق الشتات كان ملحوظاً، حتى عقب انتهاء فترة السبي، حيث فضّل الكثيرون منهم البقاء في بابل بعد سماح الملك الفارسي كورش لهم بالعودة إلى فلسطين فصار أسمهم يهود الشتات، ولا يمكن تفسير مثل هذه الحالة سوى في تحسّن أوضاعهم المالية بعد اشتغالهم المكثّف بالتجارة، فقد شجّعهم النهوض الاقتصادي لبابل على المشاركة فيه، ونجحت بعض أسر هؤلاء المنفيين في عقد صفقات مصرفية، وإقامة صلات تجارية شملت البلاد بأسرها ومناطق خارج حدودها.

ويشير ديتر تسمرلينغ إلى أنّ اليهود الذين فضّلوا البقاء في بابل كانوا في غالبيتهم من جيل الأحفاد الذين بلغوا طور الشباب في بابل، وهذا الجيل اعتبر أنّ بابل هي وطنه، وبالنسبة لهم كانت وعود الخلاص تعني شيئاً للشيوخ من الأجداد، لكن بالنسبة لهم فلم يكن لديهم رغبة في الرحيل عن موطنهم الجديد، ولا الرغبة في إعادة بناء يهوذا، التي ستحتاج الكثير من المال والقوى.

بل إنّ العائدين إلى فلسطين لم يتمّ استقبالهم بأذرع مفتوحة، فالتباين الواضح بينهم وبين اليهود الذين سمح لهم بالبقاء كان واضحاً، فبينما تفاخر العائدون بإخلاصهم التامّ ليهوه وشريعته، كان الباقون أكثر تساهلاً، إلى درجة المشاركة بين يهوه وغيره من آلهة الشعوب المحيطة في العبادة، ونشبت الكثير من الخلافات بين الطرفين وكان أكثرها حدة عندما رفض المتديّنون مشاركتهم في إعادة بناء الهيكل في أورشليم.

إنّ رفض اليهود لفكرة إعادة التجمّع في فلسطين ربما كانت له أسباب دينية مستقاة من النصوص التوراتية والتي تربط العودة لفلسطين بظهور الماشيح أو المسيا، وتربط بين هذا الظهور وبين عدد من الممارسات والتي تتعارض بكلّ تأكيد مع ممارسات الحركة الصهيونية، لكن هذا السبب الديني ليس كلّ شيء وربما ليس العامل الأهم، فثمة أسباب أخرى ارتبطت بأوضاعهم الاقتصادية المزدهرة، وبعضها ارتبط بتغيّرات في انتماءاتهم الوطنية وتحوّل الولاء من الماضي إلى الحاضر المعيش في الأوطان الجديدة.