الهدهد والتهديد و"حرب الحضارة"

حرب الحضارة التي يتحدث عنها نتنياهو ستكون قد حسمت من خلال المعركة العسكرية أولاً التي تخوضها المقاومات ببسالةٍ وإصرار، ثم بمعركة الوعي التي سترافقها وتبني عليها..

  • لا وسطاء فعليون الآن، بل وسطاء مشاركون بالحرب الحضارية التي يشنّها نتنياهو.
    لا وسطاء فعليون الآن، بل وسطاء مشاركون بالحرب الحضارية التي يشنّها نتنياهو.

أعلنها أخيراً بنيامين نتنياهو، رئيس وزراء الكيان الذي يستمر في شنّ حرب إبادة مستمرة على الشعب الفلسطيني منذ السابع من أكتوبر من العام الماضي، بأنها "حرب حضارة".

لم يعلن الغرب قبل ذلك بصورةٍ صريحة أن الكيان الإسرائيلي يمثّل رأس حربةٍ له في حربٍ حضارية على الحضارات الأخرى، وعلى احتمالات بزوغ قوى حضارية منافسة في المستقبل، لكن الدلائل كلّها كانت تشير إلى حضور هذا البعد في استراتيجيات القوى الغربية الداعمة للكيان، وخصوصاً مع تبلور المخاطر الكبرى على مستقبله، واعتبار المواجهة الحالية تهديداً وجودياً له.

الأمر ليس محصوراً في الحرب على غزة أو في المواجهة مع محور المقاومة في المساحة الأكثر اتساعاً، لكنها أيضاً ممتدةٌ إلى أزمات أخرى يخوض فيها الغرب بوضوح حرباً حضارية على الحضارات الأخرى، كما في أوكرانيا على سبيل المثال، إذ تدفع القوى الغربية بقواها التسليحية والاقتصادية والأمنية والقيمية لمحاولة خلق هزيمةٍ روسية مدويّة تعيد الحضارات الأخرى إلى التفكير في مساعيها لمواجهة الغرب مرةً أخرى.

أما ما يعلنه نتنياهو اليوم، والذي ورد في مقابلةٍ مع صحيفة "لوفيغارو" الفرنسية، فإنه يذهب أبعد من الدعم الغربي للكيان على أساسٍ دينيٍ، وعلى أساس مطالباتٍ توراتية ووجودٍ تاريخي يعاد فرضه بعد ما تعرض له اليهود في الحرب العالمية الثانية، إنما يتجاوز ذلك إلى الدلالة على حقيقة أن تأسيس "إسرائيل" كان استباقاً مبكراً للحرب الحضارية وللصراع على الموارد الدافعة إلى بزوغ قوى حضارية أخرى قادرة على المنافسة في النظام الدولي.

بعد اكتشاف المخزونات النفطية الأولى في مطلع القرن العشرين، ومع وضع الحرب العالمية الأولى أوزارها، وتفكك السلطنة العثمانية التي كانت تسيطر على أجزاء واسعة من المنطقة العربية، وتوزّع هذه المنطقة بين القوى الاستعمارية في اتفاقية سايكس-بيكو، وتالياً في مؤتمر سان ريمو، كانت الحرب العالمية الثانية محطة لزرع الأداة الوظيفية الغربية التي سوف تحافظ على دينامية التفكك في قلب الحضارتين العربية والإسلامية، وتمنع تشكّل قوة حضارية لديها مقومات القوة الإمبراطورية كلّها، من كتلة بشرية تمتلك تاريخاً مشتركاً ولغةً واحدة وديانةً غالبية يثريها تنوعٌ ديني ينشط في داخلها، إضافة إلى مقوماتٍ اقتصادية وقيمية وثقافية، وواجهة بحرية دافئة هي الأكبر في العام، وموقع جيوسياسي مثالي... وغيرها من المقومات التي لا تتسع السطور لتعدادها.

الآن، وبعد ثمانية أشهرٍ من جريمته المستمرة في حرب الإبادة، يخرج نتنياهو ليقول إنه محطةٌ غربية متقدمة في الحرب على الحضارات الأخرى، ما يفسّر الدعم الغربي، ومن الدول العلمانية هناك خصوصاً، للفكرة الدينية التي لطالما رفعت كذريعةٍ لاستيراد اليهود إلى فلسطين واحتلالها وطرد أهلها، وقتل من بقي منهم، أو من يفكر في العودة، أو من يتمسك بهويته وأرضه وبحق عودته إليها.

هنا تكمن المشكلة الأساس: أن تخرج فرنسا العلمانية لتساند مطالب توراتية تعود إلى آلاف السنوات، في مقابل حقيقة دامغة لشعبٍ طُرد من أرضه قبل 70 عاماً، ويُطرد يومياً، معناه أن لا علمانية ولا دين في الأمر، بل حرب حضارة وسياسة.

طرحت الصحيفة الفرنسية على نتنياهو، المستورَدُ من بولندا إلى فلسطين لينفذ فيها جريمة إبادةٍ باسم اليهود، مجموعة أسئلةٍ من بينها موقفه من خطة الرئيس الأميركي جو بايدن لوقف إطلاق النار في غزة، إذ أكد نتنياهو أن حكومته قبلت بوقفٍ مؤقت لإطلاق النار من أجل إطلاق سراح الأسرى الإسرائيليين لدى المقاومة الفلسطينية، ما يؤكد رفضه مرةً جديدة الوقف الدائم لإطلاق النار، مع تركيزٍ أميركي من وزير الخارجية أنتوني بلينكن والمبعوث الرئاسي إلى الشرق الأوسط آموس هوكستين على أن "حماس" هي التي ترفض المشروع، وذلك في تجاهلٍ تام لنقطة رفض نتنياهو الوقف الدائم لإطلاق النار، والتركيز على مسؤولية "حماس" في المطالبة بذلك على أنه رفضٌ منها للمشروع برمته، فكيف يمكن أن توافق الحركة على تحرير ورقة القوة التي تمسكها من خلال الأسرى لديها، وتذهب إلى وقف مؤقتٍ لإطلاق النار تطلق خلاله هؤلاء، ثم يعود نتنياهو لمواصلة حرب الإبادة، متحرراً من ضغط وجود الأسرى لدى "حماس"، ومتسلحاً بالدعم الغربي الذي سيكون أكثر وقاحةً حينها.

وبذلك، يحول الضغط من الداخل الإسرائيلي والغربي إلى الداخل الفلسطيني، وتبدأ بعدها المساومة والابتزاز للفلسطينيين للتخلي عن مقاومتهم.

لا وسطاء فعليون الآن، بل وسطاء مشاركون بالحرب الحضارية التي يشنّها نتنياهو، وها هو يعترف بها الآن. يقول الرجل: نحن كغربيين حضارةٌ واحدة، ومشروعنا للحل له أهداف واحدة محددة، وعليكم أن تقبلوا بها، وإلا فأنتم من تعطلون الحل، ولتواجهوا العواقب، لكن ذلك لا يتوافق مع مجريات الحرب ومأزقه مع حلفائه في الغرب، بل هو تحايلٌ على المجريات، ومحاولة استغلال هذه النقطة لجلب الغرب إلى حربه، كشركاء في حرب الحضارة تلك.

أما بخصوص موضوع مذكرة الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية، فقد اعتبر نتنياهو في مقابلته للصحيفة الفرنسية أن رد فعله عليها هو نفسه رد فعل العديد من القادة، بما في ذلك رئيس الولايات المتحدة، الذين قالوا إنه أمر شائن وإن طلب المدعي العام خاطئ، فمذكرة التوقيف من منظوره مبنية على تماثل زائف بين قادة إسرائيل "المنتخبين ديمقراطياً"، الذين "يشنون حرباً عادلة بوسائل مشروعة"، ومنظمة إرهابية كما يقول.

والحقيقة أن فكرة التماثل الزائف حقيقية، لكنها معكوسةٌ عما قاله نتنياهو رأساً على عقب، فهو من يمارس الإبادة الجماعية، لا المقاومة، والأخيرة منتخبةٌ ديموقراطياً في قطاع غزة، وهي الديموقراطية نفسها التي رفضتها "إسرائيل" وأميركا ومعهم الكثير من دول العالم، لمجرد أنها أوصلت "حماس" إلى حكم القطاع المحاصر، ثم إن الحرب العادلة هي تلك التي تخوضها فصائل المقاومة لتحرير الأرض والإنسان، في مواجهة جريمة الإبادة التي يمارسها المجرم وأعوانه وكيانه، وهذا الأخير يؤكد للوفيغارو أن "إسرائيل" ستسعى إلى الحفاظ على سيطرتها الأمنية من نهر الأردن إلى البحر، ما يعني رفضه قيام دولةٍ فلسطينية بصورةٍ قاطعة، إذا يقول إن الفلسطينيين الذي يعيشون في الضفة الغربية سيحكمون أنفسهم من دون دولة، ولن تكون لديهم الصلاحيات لتهديد أمن الكيان. أما بخصوص موضوع حزب الله اللبناني، فإن الحل في رأي نتنياهو سيكون بطريقتين؛ إما الدبلوماسية وإما الحرب.

ومن أجل الفكرة الأخير، تتواصل التهديدات الإسرائيلية والغربية عموماً للبنان من أن عدم إيقاف نشاط جبهة جنوب لبنان-شمال فلسطين سيؤدي إلى حربٍ مدمرة على لبنان. وقد وصل هذا التهديد وفق صيغتين؛ الأولى ترغيبية تطلب من المقاومة الضغط على نظيرتها في غزة من أجل القبول بمشروع بايدن للحل، والثانية ترهيبية تهدد لبنان ومقاومته بحربٍ مدمرة في حال لم تفعل المقاومة ذلك.

وفي كلتا الحالتين، فإن هذا التهديد يبقى من دون رصيد، وخصوصاً مع ما كشفه تجوال هدهد المقاومة فوق فلسطين من معطياتٍ جديدة مليئة بالمعاني، منها أن قدرة المقاومة على تأمين المعلومات الكافية لعملها باتت أعلى من أي وقتٍ مضى، وهي معلوماتٌ دائمة ومحدّثة وسابقة لقدرتها على استهداف ما ظهر في فيديو الهدهد، ثم تلا السيد حسن نصر الله تلك الرسالة بدليلٍ تفسيري لمضامينها، من خلال شرح أبعاد بعض القدرة التي باتت تتوفر لدى المقاومة في مواجهة سيناريو حربٍ حقيقية مفتوحة المدى. 

الصورة على الشكل التالي

تواصل المقاومة اللبنانية مساندة جبهة غزة، طلباً لوقف الحرب عليها، وهي جاهزةٌ بالفعل والمعلومة والأهداف والأسلحة والمعنويات والبيئة المواتية والسياق العالمي المناسب لخوض أي حربٍ موسعة تفرض عليها.

والإضافة هنا جديدة تماماً، وهي أن هذه الحال لم تكن مكتملة في بداية معركة "طوفان الأقصى"، وهو ما بدا في حينه، حين رسمت المقاومة مساراً تصاعدياً لم يبدأ من القمة، بل بدأ من نقطة مشاغلة لتحفيف العبء عن غزة، ليتواصل مع الأشهر من خلال استهداف عيون وآذان العدو، تمهيداً لإعمائه. أما اليوم، فقد وصل هذا المسار إلى نقطة الجاهزية لحربٍ طويلة يكاد يكون تدمير "إسرائيل" فيها مضموناً ضماناً تاماً، مع ما يمكن أن يرافق ذلك من تطورات دراماتيكية لا تنحصر في حدود الكيان والأراضي المحتلة، بل يمكن أن تمتد انتصارات المقاومة فيها إلى استنهاض ساحاتٍ عربية كبرى كانت خاملة لعقودٍ من الزمن بسبب اتفاقيات التطبيع.

لنبقَ في الفكرة نفسها: هل يمكن تخيّل السيناريو الذي تقوم فيه المقاومة بتدمير "إسرائيل" النشطة بصورةٍ شبه تامة؟ أي المنطقة الممتدة من الحدود اللبنانية وحتى بئر السبع.

ولندع انعكاسات النتائج المباشرة لضربات المقاومة في الداخل، ونفكر فقط في كيفية انعكاس انتصارٍ كبيرٍ غير مسبوق للمقاومة، يصاحبه دمار غير قابل للتعويض في الجانب الإسرائيلي، على البيئة الجماهيرية العربية، في مصر مثلاً، ثم هل يمكن تخيّل الشعب العربي برمّته أمام انتصارٍ جليٍ متدرج على الكيان يؤدي إلى هجرةٍ قسمٍ كبير من سكانه في الأسابيع الأولى؟

ثم إذا توسعت الحرب، وسادت في المنطقة بيئةٌ جهاديةٌ لأشهر طويلة محفزةٌ بعملياتٍ نوعية يومية تسقط فيها طائرات العدو وتقصف مصانعه ومحطات الطاقة فيه، ومراكزه الحساسة ومطاراته، ومصانعه المختلفة، وقطعه البحرية... فهل تبقى الجماهير متفرجةً أم أنها ستلهب الشوارع وتتحرك لترفع آمالها وسقوف توقعاتها ولا تعود كما كانت من قبل؟ وفي نتيجة ذلك كله، هل يمكن بعد ذلك السيطرة على تلك الدول التي تشتعل فيها هذه الجماهير؟

لقد أبرز خطاب السيد نصر الله، وقبله جولة الهدهد، وبموازاته التطورات التي تشهدها الميادين المختلفة من الحدود مع فلسطين وباتجاهها، ومأزق الأميركيين المتفاقم، أنه ومع تحييد البعد العاطفي والإنساني، وبحساباتٍ رياضية باردة ومحايدة، فإن أسوأ ما يمكن لإسرائيل وواشنطن أن تفعلاه الآن هو توسعة الحرب لتشمل محور المقاومة، وبهذا لن تكون نهاية "إسرائيل" التي بدأت ترتسم في مرحلتها النهائية فحسب، بل إن النهاية ستكون مصير المشروع الأميركي-الغربي في المنطقة. 

وبالتالي فإن حرب الحضارة التي يتحدث عنها نتنياهو ستكون قد حسمت من خلال المعركة العسكرية أولاً التي تخوضها المقاومات ببسالةٍ وإصرار، ثم بمعركة الوعي التي سترافقها وتبني عليها لتكسر قيود دولها وتشعل الساحات الملحقة بالأميركيين والخائفة من غضبهم، وسوف تنقلب الكثير من الطاولات على رؤوس الحضارة التي يتبجح نتنياهو "للوفيغارو" بتمثيلها، ثم إن حضارةً يمثلها نتنياهو، وترضى بذلك، لا بد من أن يكون مفهوماً سيرها إلى الانتحار في فلسطين وأوكرانيا، وفي داخل مجتمعاتها التي تحولت دينامياتها إلى ديناميات انقراض.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.