خلفيات وآفاق الاشتباك الحدودي بين تايلند وكمبوديا

فرص دخول كل من تايلاند وكمبوديا في مواجهة عسكرية شاملة، تبدو محدودة بالنظر إلى اقتناع كمبوديا بأن ميزان القوى العسكرية يميل بشكل حاد في اتجاه تايلند.

  • خلافات ما بعد الاستقلال تشتعل.
     تايلند وكمبوديا.. خلافات ما بعد الاستقلال تشتعل.

أعاد التوتر والاشتباكات الحدودية التي يشهدها النطاق الرابط بين تايلند وكمبوديا، إلى الواجهة مرة أخرى الخلافات التاريخية التي شابت العلاقة بينهما منذ أوائل القرن العشرين، وهي خلافات تعتبر نموذجاً آخر من نماذج الخلافات التي وضعت القوى الاستعمارية التي سيطرت على قطاعات واسعة من أفريقيا وآسيا، بذورها بشكل فعال، ما جعل إمكانية تجدد هذه الخلافات مستمراً بشكل شبه دائم، رغم مرور عقود طويلة على انتهاء الحقبة الاستعمارية.

جوهر الخلاف بين كلا البلدين، يدور حول تبعية مناطق غير محددة على طول حدودهما البرية المشتركة، والتي تمتد لأكثر من 800 كيلومتر، وبشكل خاص المعبدين الهندوسيين القديمين الرئيسيين وهما "براسات تا موين ثوم" وبرياه فيهير"، الواقعين في نطاق سلسلة جبال "دانغريك"، التي تشكل في حد ذاتها حدودًا طبيعية بين كلا البلدين. أدت بنود المعاهدة التي جرى توقيعها عام 1907، بين مملكة "سيام" - التي كانت تقع في أراضي تايلند - والسلطات الفرنسية التي كانت تستعمر مناطق كانت تُعرف بـ "الهند الصينية" - بما في ذلك لاوس وفيتنام وكمبوديا - إلى وضع هذه النقاط الحدودية، في إطار يسمح لاحقاً بأن تكون غير محددة التبعية بشكل قطعي.

خلافات ما بعد الاستقلال تشتعل

بعد استقلال كمبوديا، منحت محكمة العدل الدولية عام 1962، السيادة على معبد "برياه فيهير" لكمبوديا، وكررت المحكمة مرة أخرى هذا القرار عام 2013، بعد أن قدمت كمبوديا طلباً لتوضيح الاختصاص القضائي للأرض المحيطة بالمعبد، لكن ظلت تايلند تطالب من جهتها بالسيادة على هذا المعبد، الذي تمر عملياً الحدود المشتركة بين البلدين عبره، وهو ما أدى إلى نشوب اشتباكات حدودية محدودة بين الجانبين خلال فترة العقدين الأخيرين، أخطرها شهده محيط معبد "برياه فيهير" عام ٢٠١١، ما دفع مجلس الأمن حينذاك، إلى عقد جلسة خاصة لبحث هذا الملف، الذي لم تتوقف حالة التوتر في ثناياه، رغم تدخلات إقليمية ودولية عدة، من بينها إحالة محكمة العدل الدولية عام 2011، هذا النزاع إلى رابطة دول جنوب شرق آسيا.

استمر التوتر بين الجانبين حيال هذا الملف، وتصاعد بشكل ملحوظ منذ أوائل العام الجاري، بعد أن منع الجيش التايلندي في شهر شباط/ فبراير، السياح الكمبوديين من غناء النشيد الوطني الكمبودي في معبد "براسات تا موين ثوم"، ومن ثم شهدت الحدود المشتركة بين البلدين في أيار/ مايو الماضي، مناوشات محدودة، تركزت على طول الحدود بين مقاطعة "برياه فيهير" الكمبودية و"أوبون راتشاثاني" التايلندية، دفعت كمبوديا لتقديم طلب إلى محكمة العدل الدولية، لإبداء الرأي القانوني حيال النزاع بين البلدين، من دون أن يؤدي ذلك إلى نتيجة إيجابية.

وقد بدأ كلا البلدين منذ اشتباك أيار/مايو، باتخاذ إجراءات تصعيدية تدريجية على الحدود بينهما، شملت تعديل أوقات فتح وإغلاق النقاط الحدودية، وإعطاء حرية أكبر للقادة الميدانيين لاتخاذ قرارات إطلاق النار والاشتباك مع الطرف الآخر، وكذلك تبادل إغلاق بعض نقاط العبور الرئيسية بين البلدين بشكل غير مبرر ولفترات طويلة، لكن لم تخرج هذه الإجراءات عن النطاق المعتاد بين الجانبين، إلا أواخر حزيران/ يونيو الماضي، حين أعلنت قيادة البحرية التايلندية، إسقاط عدة طائرات مسيرة، عبرت الحدود نحو مقاطعة "تشانثابوري"، وهو ما مثل جرس إنذار عن قرب انتقال حالة التوتر بين البلدين، إلى مستوى جديد.

هذا الانتقال جرى بالفعل خلال الشهر الجاري، حيث كانت البداية عبر عملية طعن نفذها سائح تايلندي ضد جندي كمبودي في معبد "براسات تا موين ثوم"، وصولاً إلى الحدث الذي أطلق شرارة التراشق المدفعي والجوي الحالي بين البلدين، حين أصيب خمسة جنود تايلنديين، من جراء انفجار لغم أرضي في منطقة "نام يون" الحدودية، الواقعة جنوبي مقاطعة "أوبون راتشاثاني"، وقد كان من المفترض أن يؤدي هذا الحادث إلى تداعيات محدودة، نظراً لانتشار ألغام أرضية مختلفة الأنواع على جانبي الحدود بين البلدين، تعود إلى حقب سابقة، لكن، اكتشف الجيش التايلندي أن اللغم المنفجر وألغاماً اخرى جرى إبطالها، هي في الواقع ألغام مضادة للأفراد من نوع "PMN-2" حديثة التصنيع، وهو ما دفع الحكومة التايلندية إلى اتهام كمبوديا بشكل مباشر، بالضلوع في هذه المسألة، وانتهاك بنود معاهدة أوتاوا لحظر الألغام المضادة للأفراد.

مواجهة أخرى بين السلاح الشرقي والغربي

إذا ما وضعنا الجانب الحدودي والتاريخي بين البلدين، يمكن القول إن المواجهة - المحدودة حتى الآن - بين الجانبين، ربما تمثل في جوانب عدة، اشتباكاً آخر بين التسليح الشرقي والغربي، وكذلك مواجهة بين قوتين عسكريتين إحداهما تمثل دولة مستقرة منذ عقود، وهي تايلند، والأخرى تمثل دولة عصفت بها المواجهات الداخلية والتدخلات الإقليمية، وكلا القوتين توجد فوارق عسكرية شاسعة بينهما على المستوى الكمي والنوعي.

فعلى مستوى الموازنات الدفاعية، تبلغ ميزانية الدفاع في تايلند لهذا العام، ما يقرب من 5.7 مليارات دولار، في حين تبلغ الميزانية الدفاعية في كمبوديا، نحو 1.3 مليار دولار فقط، ويبلغ عدد أفراده الجيش الكمبودي نحو 124,300 جندي في الخدمة الفعلية، ولديه نحو 200 دبابة، قسم كبير منها نسخ سوفياتية وصينية من دبابات "تي-54" و"تي-55"، ونحو 50 ناقلة جند مدرعة، وعدد من راجمات الصواريخ التشيكية والسوفياتية. في حين يبلغ تعداد جيش تايلند، نحو 360 ألف فرد، بما في ذلك ما يُقدر بنحو 115 ألف مجند، ونحو 400 دبابة قتالية، وأكثر من 1200 ناقلة جند مدرعة، ونحو 2600 قطعة مدفعية أميركية وإسرائيلية المنشأ.

الجانب الأكثر أهمية في التسليح بين الجانبين، يرتبط بالتسليح الجوي والبحري، فالقوات الجوية التايلندية، تُعد من بين الأفضل تجهيزًا وتدريبًا في جنوب شرق آسيا، وتضم 112 طائرة متنوعة، بما في ذلك ما يقرب من 50 مقاتلة من نوع "أف-16" من نسخ مختلفة، وعدد محدود من مقاتلات "جريبين" السويدية، دخلت الخدمة في سلاح الجو التايلندي منذ بضعة أشهر فقط. كما تمتلك تايلند، ضمن قوتها الجوية التي يبلغ قوامها 46 ألف فرد، طائرتي إنذار مبكر من نوع "Erieye"، في حين لا تمتلك كمبوديا في سلاحها الجوي من مقاتلات صالحة للتشغيل، سوى نحو ثلاث مقاتلات من نوع "ميج-21"، من أصل نحو ثلاث عشرة مقاتلة، معظمها لم يحلق منذ أكثر من عشرة أعوام. يبلغ قوام القوة الجوية لكمبوديا 1500 فرد، وتمتلك عشر طائرات نقل و36 مروحية من أنواع مختلفة.

الجانب البحري تبدو فيه أيضاً فروقات عميقة بين الجانبين، فتايلند تمتلك قوة بحرية يبلغ قوامها نحو 70 ألف فرد، تشمل حاملة طائرات وسبع فرقاطات، و68 قطعة بحرية متنوعة، وجناحاً للطيران البحري، وقوة لمشاة البحرية يبلغ تعدادها ما يقرب من 23 ألف جندي، في حين يبلغ عدد أفراد البحرية الكمبودية، نحو 2800 فرد فقط، منهم 1500 من مشاة البحرية، وتتسلح البحرية الكمبودية بنحو 13 سفينة دورية وسفينة قتال ساحلية، بجانب زورق إنزال برمائي واحد.

المجريات الميدانية بين الجانبين، والتي باتت تشمل وقت كتابة هذه السطور، عدة نقاط في كل من "سورين" و"أوبون راتشاثانب" و"سيرساكيات" ومنطقة "ترات"، شملت استخداماً لافتاً من جانب سلاح الجو التايلندي، لمقاتلاته أميركية الصنع من نوع "إف-16"، بجانب استخدام قتالي يعتبر الأول من نوعه، لمقاتلات "جريبين" السويدية، التي لم تدخل منذ بدء عمليات تصنيعها منتصف تسعينات القرن الماضي، في أي عمليات جوية هجومية. كما استخدم سلاح الجو التايلندي أيضأ، طائراتٍ مُسيّرة مُسلحةً محلية الصنع، مسلحة بقذائف هاون، قامت بإلقائها على المواقع العسكرية الكمبودية القريبة من خط الحدود المشتركة، بما في ذلك مراكز المراقبة والسيطرة، ومستودعات تخزين الأسلحة، ومناطق تمركز المدفعية الصاروخية.

بطبيعة الحال كانت ردود الفعل من جانب الجيش الكمبودي، أقل في مستواها الكمي والنوعي من مستوى العمليات التايلندية، وتركزت بشكل كبير في عمليات القصف المساحي براجمات المدفعية الصاروخية، التي نالها قسم أساسي من عمليات الاستهداف التي نفذتها المقاتلات التايلندية، لكن اللافت في هذه المواجهة - بجانب أنها تعتبر ثاني مواجهة بين الأسلحة الشرقية والغربية خلال المدى المنظور، بعد المواجهة الجوية بين باكستان والهند مؤخراً - أنها أظهرت أن تايلاند استثمرت بشكل فعال وواسع النطاق في أنظمة القتال الجوية المسيرة، بما يتماشى مع الاتجاهات العالمية في حرب الطائرات من دون طيار التي لوحظت في النزاعات العسكرية الأخيرة، وهو أمر يشي بتحول في العقيدة العسكرية التايلندية، نحو تبنّي تكتيكات قتالية تركز على الدقة والاستهداف النقطي، لتحقيق هيمنة سريعة على ساحة المعركة.

يُضاف إلى ما سبق، مفارقة أن الصين تعتبر من الموردين الأساسيين لكلا البلدين فيما يتعلق بالأنظمة العسكرية المتنوعة، خاصة الدفاعات الجوية، وإن كانت تايلند قد دمجت الأنظمة الصينية مع العديد من الأنظمة الغربية الصنع. كما يجب ملاحظة أن "إسرائيل"، تعتبر من الموردين الرئيسيين لكلا البلدين أيضاً، ولعلها مفارقة أخرى أن تكون شركات إسرائيلية هي المسؤولة عن تحديث بعض مقاتلات "ميج-21" الكمبودية، في حين كانت مقاتلات "إف-16" التايلندية، التي نفذت عمليات القصف خلال الأيام الماضية على المواقع الكمبودية، مزودة بحواضن لتوجيه القنابل، من نوع "ليزارد"، تنتجها شركة "إلبيت" الإسرائيلية.

في الخلاصة، يمكن القول إن فرص دخول كل من تايلاند وكمبوديا في مواجهة عسكرية شاملة، تبدو محدودة بالنظر إلى اقتناع كمبوديا بأن ميزان القوى العسكرية يميل بشكل حاد في اتجاه تايلند، لكن ربما تحفّز المواجهة المحدودة الحالية، كمبوديا على إعادة التسلح وتطوير قوتها العسكرية، في ظل استمرار مباعث التوتر والنزاع بينها وبين تايلند، وعدم نجاعة أي محاولات لإيجاد حلول وسط، خاصة المحاولات المتكررة لرابطة دول جنوب شرق آسيا.