عاصفة المعادن الصينية، وبداية سباق "المضادات النوعية"

إعلان بكين مؤخّراً عن تطوير "مدفع رشاش فائق السرعة"، يمكن أن يُحدث ثورة في مجال الدفاع ضدّ الصواريخ فرط الصوتية، مُشكّلاً بذلك تحدّياً جدّياً لأنظمة الدفاع الصاروخي التقليدية.

  • الصين.. المنظومة الجديدة في الميزان الميداني.
    الصين.. المنظومة الجديدة في الميزان الميداني.

تطوّر مفصلي هام طرأ على تقنيات التسلّح الحديثة، بعد إعلان بكين مؤخّراً عن تطوير "مدفع رشاش فائق السرعة"، يعتمد بشكل أساسي على أحد تطبيقات تقنية "العاصفة المعدنية"، وهو ما يمكن أن يُحدث ثورة في مجال الدفاع ضدّ الصواريخ فرط الصوتية، مُشكّلاً بذلك تحدّياً جدّياً لأنظمة الدفاع الصاروخي التقليدية.

المدفع الصيني الجديد، المكوّن من خمس سبطانات متوازية، يُطلق عليه بشكل مؤقت لقب "العاصفة المعدنية"، وهو اسم لا يعبّر فقط عن معدل إطلاق النيران الكبير الذي يتمتع به هذا المدفع، والذي يقدّر بنحو 450 ألف طلقة في الدقيقة للسبطانة الواحدة، حيث يتمّ إطلاق طلقة واحدة كلّ 17.5 ميكرو ثانية، ما يجعله عملياً أقوى مدفع رشاش على الإطلاق، بل يعبّر عن هذا الاسم أيضاً عن التقنية التي يعتمد عليها هذا المدفع، والتي لا تعتبر في حدّ ذاتها تقنية جديدة ـــــ حيث سبق وطرحها للمرة الأولى أحد المخترعين الأستراليّين في تسعينيات القرن الماضي ـــــ وتقتضي أن يتمّ إطلاق وابل كثيف جداً من المقذوفات، بحيث يتمّ تحييد الأهداف الجوية ذات السرعات فرط الصوتية، والتي قد تصل سرعتها إلى 5 - 7 أضعاف سرعة الصوت.

معالجة التهديدات فرط الصوتية وأسراب المسيّرات

تعاني أسلحة الدفاع الجوي المتاحة حالياً على المستوى الدولي، من نقائص أساسية مرتبطة بقدرتها المحدودة على مواجهة أسراب الطائرات المسيّرة، إذ تفتقر إلى القدرة الكافية على التعامل مع الهجمات المكثّفة، وتعاني من انخفاض كفاءتها من حيث التكلفة، وهو الأمر الذي أظهرته بشكل أكثر وضوحاً الفعّاليات القتالية الحالية في أوكرانيا، وبالتالي يمكن النظر للجهد الصيني الحالي على مستوى التصنيع العسكري، من زاوية العمل على إيجاد حلول عملية للتعامل مع هذه النقائص، وفي الوقت نفسه تقديم تقنيات أكثر تطوّراً للتعامل مع الأجسام الجوية بمختلف أنواعها.

المنظومة الصينية الجديدة، تتسم بعدة سمات أساسية، من بينها إمكانية تموضعها في نقاط دفاع ثابتة، أو تحميلها على عربات مدولبة أو مجنزرة، وكذا اعتمادها بشكل أساسي على استراتيجية "الاعتراض المساحي"، بحيث يتمّ توفير التغطية النارية لكامل النطاق الجوي الذي يتحرّك فيه الهدف المعادي، عوضاً عن استهداف الأجسام الجوية المعادية بشكل انتقائي أو فردي، وبالتالي ترتفع بذلك احتمالات إسقاط الأجسام المعادية، خاصة تلك التي تهاجم على شكل أسراب أو تلك المحلّقة بسرعات فرط صوتية.

من أهم مميزات هذه المنظومة، اعتمادها على نوع متطوّر من الذخائر من عيار 35 ملم، يطلق عليه "AHEAD"، وهي ذخائر متخصصة في عمليات الدفاع الجوي، تتميّز بانفجارها ضمن مدى معيّن بعد إطلاقها، ما ينتج عن كلّ طلقة منفجرة، سحابة من المقذوفات الفرعية، التي تنتشر بشكل مخروطي في محيط الهدف، ما يرفع من إمكانية إصابة الهدف وتحييده، وهي تقنية تعتبر تطويراً للمبدأ نفسه الذي تعمل به بعض منظومات الدفاع الجوي، مثل منظومات "سام-2" السوفياتية، التي تنفجر صواريخها قرب الهدف، ما يلحق أضراراً متعددة بالهدف الجوي المراد إسقاطه. استخدام هذه الذخائر بشكل متطوّر ومحدّث، اعتماداً على ربط عمليات الإطلاق برادارات توجيه نيران حديثة، وأنظمة كهروبصرية متقدّمة، وخوارزميات إدارة نيران تستطيع التكيّف مع مختلف أنواع الأهداف الجوية، يضمن للمنظومة الصينية الجديدة فعّالية كبيرة في مواجهة التهديدات المستحدثة في مجال الدفاع الجوي.

من التحدّيات الأساسية فيما يرتبط بالأسلحة ذات المعدل الكبير لاستهلاك الذخائر في الدقيقة الواحدة، مسألة إعادة التلقيم، وهي نقطة يبدو أن جامعة شمال الصين ـــــ الجهة المطوّرة للمنظومة الجديدة ـــــ قد أوجدت حلّاً مبتكراً لها، حيث تمّ تزويد هذه المنظومة بمخزن ذخيرة قابل للاستبدال، على شكل حاوية تتضمّن عدداً من مخازن الرصاص الفرعية، بحيث يتمّ التبديل بينها في حالة نفادها، ما يساهم في تحسين سرعة التحميل، وتقليل انخفاض قوة سبطانات المدافع ودقّتها بسبب التحميل المتكرّر، وفي الوقت نفسه الحفاظ على استمرارية الاشتباك وإطلاق النار في حالات التعرّض لهجمات موسّعة.

في جانب آخر، تتميز "العاصفة المعدنية" الصينية، بميزة رئيسية مقارنة بأنظمة الدفاع الصاروخي، ألا وهي معدل الاستجابة السريع لأيّ تهديد مقترب، إذ يمكنها البدء في إطلاق النار بشكل شبه فوري في اتجاه التهديد المقبل، نظراً لتزوّدها بآلية "زناد إلكتروني"، تسمح بتخليق نفث معدني عالي الطاقة، يسمح بإطلاق القذائف ضمن مدى زمني لا يتجاوز 17.5 ميكرو ثانية، على عكس الدفاعات الجوية الصاروخية، التي تحتاج إلى وقت أطول لكشف الأهداف وتحديدها وتتبّعها والاشتباك معها.

المنظومة الجديدة في الميزان الميداني

رغم الميزات النوعية التي تروّج من خلالها بكين لمنظومتها الجديدة، إلا أنها على المستوى العملي تتسم أيضاً ببعض نقاط الضعف، منها مسألة المدى المؤثّر، حيث يرجّح أن يتراوح مدى مدافع المنظومة الجديدة، بين 5 و10 كيلومترات فقط، في حين يتجاوز المدى المؤثّر لأنظمة الدفاع الجوي الصاروخية هذا الحدّ بعدة أضعاف. يضاف إلى ذلك ما يرتبط بحقيقة أنّ المنظومة الجديدة ـــــ رغم قدراتها المتفوّقة على التعامل مع الأهداف الجوية فرط الصوتية ـــــ

إلا أنها مخصصة للتعامل مع هذه الأهداف خلال مرحلة اقترابها النهائية، على عكس منظومات الدفاع الجوي الصاروخية، التي تتعامل مع هذه الأهداف في المراحل ما قبل النهائية.

بالتالي لا يتوفّر للمنظومة الجديدة إلا مدى زمني ضئيل جداً للاعتراض في مرحلة الاقتراب النهائي للهدف، وبالتالي ستظلّ عملية اعتراض الأهداف فرط الصوتية تشكّل تحدّياً لهذه المنظومة، خاصة إن كان الصاروخ المعادي يمتاز بقدرات جيدة على المناورة، ناهيك عن أنّ سرعته الفائقة ستمكّنه من الوصول إلى الهدف حتى لو تمّ اعتراضه من جانب المنظومة الجديدة، نظراً للطاقة الحركية الهائلة التي تولّدها السرعات فرط الصوتية.

على الجانب الوظيفي، تعتبر منظومة "عاصفة المعادن"،  على الجانب الوظيفي ـــــ تطبيقاً آخر من تطبيقات أنظمة "الدفاع القريب" ـــــ المعروفة اختصاراً بـ "CIWS" ـــــ وهذه الأنظمة سبق وتمّ تطوير عدة نماذج منها في التسليح السوفياتي والأميركي وحتى الصيني، على رأسها منظومات "Phalanx" الأميركية، التي تعتبر ركناً أساسياً من أركان منظومة حماية قواعد الدفاع الجوي الأميركية التي يتمّ نشرها في مناطق الصراع، إلى جانب كونها سلاحاً ميدانياً مُصمّماً لتدمير أو اعتراض التهديدات الجوية القريبة، مثل الطائرات المسيّرة والصواريخ الجوّالة، وهو قادر على إطلاق ما يصل إلى 4500 طلقة في الدقيقة في منطقة مُحدّدة، لـ"تغطية" التهديدات المقبلة بالنيران وضمان اعتراضها بنجاح. وقد تمّ تعديل هذه المنظومة وتحديثها خلال العقد السابق، لتتمكّن من التعامل مع الأهداف البحرية أيضاً.

مما سبق، يمكن القول إنّ المنظومة الصينية الجديدة ومنظومة "Phalanx" الأميركية، تتطابقان من حيث الوظائف الأساسية ومبادئ التشغيل، إلا أنّ المنظومة الصينية تتفوّق بشكل طاغٍ فيما يرتبط بمعدل إطلاق النيران، حيث يبلغ هذا المعدل في المنظومة الأميركية نحو 75 قذيفة في الثانية فقط، ناهيك عن أنّ المنظومة الأميركية أقل في عيار مدفعها، الذي يبلغ 20 ملم.

الطاقة الحركية والكهرومغناطيسية لسدّ الفجوة فرط الصوتية

رغم النقلة النوعية التي حقّقتها أسلحة الدفاع الجوي المعتمدة على "المدافع الرشاشة"، إلا أنها تبقى ـــــ بالنظر إلى العناصر سالفة الذكر ـــــ تعاني هي والأسلحة المعتمدة على الصواريخ، من نقاط ضعف في التعامل مع التهديدات الجوية ذات السرعات فرط الصوتية، وهو ما يبدو أنّ دولاً عديدة على المستوى الدولي، باتت تضعه في الحسبان خلال عمليات تطويرها لمنظومات الدفاع الجوي الجديدة، حيث باتت بعض هذه المنظومات، تعتمد على أنماط مستحدثة ونوعية من الطاقة، مثل الطاقة الكهرومغناطيسية، وطاقة الليزر الحركيّة، وغيرها.

بكين من جانبها عرضت أواخر العام الماضي، خلال معرض الصين الجوي، نموذجاً لنظام دفاع جوي ذاتي الحركة، يعتمد على الطاقة الكهرومغناطيسية، متخصص في مواجهة أسراب الطائرات من دون طيار صغيرة الحجم، المتحكّم بها من منظور الشخص الأول ـــــ

والمعروفة إعلامياً باسم "FPV" ـــــ وتعتمد هذه المنظومة الجديدة على رادار من نوع "AESA" متعدّد النطاقات، يسمح برصد الأجسام الجوية صغيرة الحجم، ومن ثمّ توجيه موجات ميكرويف مغناطيسية عالية الطاقة، في مدى يتراوح بين 7 و10 كيلومترات، بحيث يتمّ تدمير المكوّنات الإلكترونية للطائرات المسيّرة، وكذا تعطيل المعدّات الإلكترونية المحمولة على متن الصواريخ الجوّالة والباليستية، والتشويش على تردّدات الرادارات الخاصة بالطائرات المعادية، سواء كانت خاصة بالطائرات المقاتلة، أو تلك التي تتزوّد بها طائرات الإنذار المبكر.

على مستوى تقنيات الليزر، باتت العديد من الدول تطبّق استخدام هذه التقنيات في مجال الدفاع الجوي، فمثلاً أعلن الجيش البريطاني خلال الأسابيع الأخيرة، عن ابتكاره ـــــ للمرة الأولى ـــــ منظومة قتالية ذاتية الحركة، تستخدم طاقة الليزر الموجّهة، بهدف التصدّي لأسراب الطائرات من دون طيار، سمّيت "RF DEW"، تستطيع تحييد أهداف متعدّدة في وقت واحد بتأثير شبه فوري، على مسافات تصل إلى كيلومتر واحد، وتبلغ تكلفة "الطلقة الواحدة" لهذا النظام نحو 13 سنتاً أميركياً، وهي تكلفة زهيدة مقارنة بأنظمة مماثلة في ترسانات عسكرية لدول أخرى.

كذلك أعلنت الهند خلال الشهر الجاري، عن دخولها مجال أسلحة الطاقة الموجّهة، عبر نجاح التجربة الشاملة لنظام أسلحة الليزر الخاص بها "MK-11A"، الذي طوّرته منظمة البحث والتطوير الدفاعي الهندية "DRDO"، ويعتمد هذا النظام على بثّ موجات ليزرية، تبلغ قوتها 2 كيلوواط، قادرة على تحييد الطائرات المسيّرة في نطاق 1 كيلومتر.

كلا التجربتين السالف ذكرهما، تضمّنتا تأكيداً بريطانياً وهندياً لفعّالية أنظمة الطاقة الحركيّة من حيث التكلفة، حيث يستهلك إطلاق الليزر لبضع ثوانٍ، ما يعادل بضعة ليترات فقط من الوقود. وهذا يضع هذه التقنية كحلّ عملي طويل الأمد للتهديدات منخفضة التكلفة وعالية التردّد. كما يعكس تحوّلاً في تكنولوجيا الدفاع، حيث تتطلّب الأنظمة الحركيّة التقليدية لوجستيات معقّدة واستثمارات مالية كبيرة، بينما توفّر أسلحة الليزر اشتباكاً شبه فوري بتكلفة هامشية ضئيلة.

في الخلاصة، يمكن القول إنه مع استمرار تطوّر تكنولوجيا الطائرات من دون طيار، ودخول الأنظمة الصاروخية فرط الصوتية في أطوار أكثر تطوّراً وتعقيداً، باتت القوى العسكرية الكبرى فعلياً في خضمّ سباق لتطوير مضادات جوية نوعية قادرة على التعامل مع هذه التهديدات المستحدثة. وحقيقة الأمر أنه لا ينبغي قياس فعّالية أي نظام للدفاع الجوي، بقدرته على تحييد التهديدات فحسب، بل أيضاً بفعّاليته من حيث التكلفة وقابليته للتوسّع والانتشار الميداني.

وعلى الرغم من أنّ أنظمة الدفاع الجوي التقليدية لا تزال قيّمة، إلا أن التكلفة العالية للصواريخ الاعتراضية تجعلها غير مستدامة لمواجهة أعداد هائلة من الطائرات المسيّرة منخفضة التكلفة، وبالتالي تُقدّم الحلول الناشئة، مثل الصواريخ الموجّهة المُعاد استخدامها أو المنظومات المعتمدة على الكثافة النارية غير المسبوقة، وكذلك أسلحة الطاقة الحركية، بدائل تُوازن بين التكلفة والقدرات.

ومع ذلك، وكما هو الحال مع أسلحة الليزر، تتطلّب الأسلحة الحركيّة الكهرومغناطيسية متطلّبات مادية ووزناً وقوةً ومساحة تبريد كبيرة. علاوةً على ذلك، لا تسمح تقنية المدافع الكهرومغناطيسية الحالية، إلا بإطلاق بضع طلقات لكلّ سبطانة، حيث تُشوّه الحرارة الشديدة الناتجة عن إطلاق النار القضبان التي تنقل الطاقة الكهرومغناطيسية لدفع المقذوف، وبالتالي ستبقى أهمية التكامل بين أسلحة الدفاع الجوي التقليدية وغير التقليدية، أمراً واقعاً وضرورة ملحة، في ظلّ ميل الكفّة نحو تطوير أسلحة الدفاع الجوي التقليدية في المدى المنظور، وهو ما يمكن النظر إليه في ضوء تطوير "عاصفة المعادن" الصينية.