في ظلال "المالديف".. خلفيات القاعدة البحرية الهندية الجديدة

سيفرض الوضع الجغرافي على المالديف استمرارية علاقاتها مع الهند، وخصوصاً أن الطرف الأقرب الذي تلجأ إليه المالديف في حالات الطوارئ الأمنية أو المعيشية كان دوماً الهند.

  • توسع هندي متزايد في إنشاء القواعد العسكرية الخارجية.
    توسع هندي متزايد في إنشاء القواعد العسكرية الخارجية.

افتتحت البحرية الهندية في السادس من آذار/مارس الجاري قاعدة بحرية جديدة في جزيرة مينيكوي جنوب غربي البلاد كبديل لوجودها العسكري الذي استمر سنوات في جزر المالديف التي دعت قيادتها المنتخبة حديثاً نيودلهي إلى سحب كل عناصرها من هناك.

 حقيقة الأمر أن هذه الخطوة -وإن لم تكن مفاجئة بالنظر إلى سياقات الصراع المكتوم بين الهند والصين على النفوذ في جزر المالديف- ألقت الضوء بشكل أكبر على استراتيجية هندية متبعة منذ سنوات ترتكز على انتشار بحري "بطيء" عبر عدة قواعد بحرية خارج حدودها.

هذه الاستراتيجية تمثل رداً هندياً على النشاط المتصاعد للبحرية الصينية، وخصوصاً الغواصات، في مياه المحيط الهندي، وهو النشاط الذي يمثل قلقاً مستمراً لنيودلهي، ولا سيما أن البحرية الصينية باتت تمتلك حالياً أكبر أسطول غواصات في منطقة جنوب آسيا.

وعلى الرغم من أن التركيز الصيني في هذا الصدد ما زال حتى الآن منصباً على بحر الصين الجنوبي الذي تكون موجودة فيه بصورة مستمرة مع الوجود البحري الأميركي، لكن رغم ذلك، أثارت زيارات الغواصات الصينية للموانئ الباكستانية والسريلانكية خلال السنوات الأخيرة حفيظة نيودلهي ومخاوفها، فدخول الغواصات الصينية إلى المحيط الهندي عبر مضيق ملقا، وإن كان معلناً وواضحاً للعيان، لكنه لا ينفي امتلاك الغواصات الصينية إمكانية دخول هذا المحيط من خلال ممرات بحرية بعيدة عن المراقبة الهندية، مثل مضيق "سوندا" الذي يقع غربي العاصمة الإندونيسية جاكرتا أو مضيق "لومبوك" قرب جزيرة بالي الإندونيسية.

تضاف إلى ذلك الإمكانيات اللوجستية التي تمتلكها الصين حالياً، والتي تستطيع الاستفادة منها في حالة عبور قطعها البحرية إلى المحيط الهندي، إذ تمتلك القدرة على إعادة تسليح وتموين قطعها البحرية باستخدام الموانئ والمرتكزات البحرية التابعة لها في نطاق المحيط الهندي وبحر العرب، وهو ما تسبب في مجمله في إثارة مخاوف أمنية واقتصادية هندية جدية خلال السنوات الأخيرة.

الخلافات الهندية -الصينية متعددة الاتجاهات

يعدّ الملف الحدودي العنصر الأساسي في توتر العلاقات بين نيودلهي وبكين، وهو عنصر يرتبط بشكل أساسي بملف القواعد البحرية الهندية في الخارج. وقد تضررت العلاقات بين الجانبين بشدة منذ ما يقارب 7 عقود على خلفية النزاعات الحدودية بين البلدين، والتي تتركز على نقطتين أساسيتين تقعان قبالة سلسلة جبال الهيمالايا التي تفصل بين التبت في جنوبي غرب الصين والهند؛ الأولى هي إقليم "لاداخ" الصحراوي الذي تسيطر الصين حالياً على أغلب مناطقه، عدا وادي "غالوان" الذي يقع في منتصفه، والذي تسيطر الهند عليه، والنقطة الثانية هي إقليم أروناجل برديش الذي تسيطر الهند على معظمه، في حين تطالب الصين بملكيته.

ظل الملف الحدودي بمنزلة السبب الأساسي وراء عدم تقدم العلاقات المشتركة بين البلدين خلال العقود الماضية، وخصوصاً أنه كان سبباً في اندلاع نزاع عسكري بينهما مطلع ستينيات القرن الماضي. وقد كانت إفرازات هذا الملف واضحة بشكل أكبر بعد الاشتباك الدامي الذي حدث في حزيران/يونيو 2020، وفيه اشتبك عشرات الجنود من كلا الجانبين في إقليم لاداخ، ما أدى إلى مقتل نحو 20 جندياً هندياً، وهو ما تم اعتباره حينها تطوراً خطيراً، بالنظر إلى حالة السكون النسبي التي عاشتها النقاط الحدودية بين الجانبين لمدة 40 عاماً مضت.

وعلى الرغم من عودة الهدوء، ولو بشكل نسبي، إلى النقاط الحدودية بين البلدين، فقد بات من الواضح أن الصين شرعت منذ مواجهة عام 2017 في الاستعداد لاحتمالية تجدد الصراع بينها وبين نيودلهي فيما يخص المناطق الحدودية المتنازع عليها، وخصوصاً أنها تابعت خلال السنوات الأخيرة ما قام الجيش الهندي به في هذه المناطق خلال السنوات الماضية من تشييد لنقاط مراقبة ومهابط للمروحيات وطرق طويلة للربط بين هذه النقاط، وكذلك عمليات دعم هذه النقاط تسليحياً.

تبقى وتيرة العلاقات الصينية - الباكستانية من أهم الأسباب لتوتر العلاقات بين نيودلهي وبكين، فقد انصب التركيز الصيني الأكبر خلال السنوات الأخيرة على ترسيخ العلاقات مع باكستان، وخصوصاً على المستوى العسكري، وقد تعاظمت هذه العلاقات بشكل واضح خلال السنوات الأخيرة، وهذا يتمثل في عدة مؤشرات، أهمها التدريبات المشتركة بين كراتشي وبكين، وعلى رأسها التدريب البحري المشترك "حارس البحر 2020"، الذي يعقد منذ عام 2007 بشكل سنوي، علماً أن أحدث تدريب بحري بين الجانبين جرى في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي في بحر العرب، وتضمن التدريب على عمليات مكافحة الغواصات.

يضاف إلى ذلك انخراط بكين بشكل واضح في تحسين القدرات العسكرية الباكستانية -وخصوصاً القدرات البحرية- إذ تزودت باكستان بغواصات وفرقاطات حديثة من تصنيع الصين، ووجود احتمالية قوية لإنشاء قاعدة بحرية صينية داخل ميناء "جوادار" الباكستاني الذي أشرفت بكين على تشييده، والذي يعد النقطة الأخيرة في الممر الاقتصادي المشترك بين البلدين، الذي يبدأ من مدينة "كاشي" الصينية.

توسع هندي متزايد في إنشاء القواعد العسكرية الخارجية

مما سبق، يمكن اعتبار أن الأنشطة الاقتصادية والعسكرية الصينية في نطاق المحيط الهندي من أهم الأسباب التي دعت الهند إلى الشروع في استراتيجية "التوجه شرقاً" لمحاصرة هذه الأنشطة المرتكزة بشكل أساسي على الجانب البحري. ولعل الأمر الأكثر إثارة للقلق بالنسبة إلى البحرية الهندية هو قاعدة "يولين" البحرية الصينية في خليج يالونج، التي تعد مخصصة، على الرغم من أنها تقع ضمن الأراضي الصينية، لأسطول الغواصات الحاملة للصواريخ البالستية، إلا أنها تمتلك القاعدة اللوجستية اللازمة لاستضافة جميع أنواع السفن الحربية، بما في ذلك حاملات الطائرات والغواصات الهجومية التي تعمل بالطاقة النووية، إذ يمكن لهذه الأخيرة أن تبحر في المحيط الهندي بشكل صامت من دون أن تطفو على السطح أو تحتاج إلى قطع بحرية مرافقة.

لذا، شرعت الهند منذ بداية العقد الماضي في تعزيز علاقاتها مع إندونيسيا والفلبين وفيتنام، وهي البلدان التي تهيمن على الطرق التي يتعين على السفن الحربية الصينية المرور عبرها للوصول إلى المحيط الهندي. وفي الوقت نفسه، سعت إلى تحسين وتطوير قدراتها البحرية على المستوى التسليحي وبناء قواعد بحرية جديدة، سواء في الجزر التابعة لها أو في جزر وموانئ تابعة لدول أخرى. 

وقد عملت نيودلهي على استحداث وإعادة تأهيل عدة قواعد بحرية في الجزر القريبة من المضائق الأساسية المؤدية إلى المحيط الهندي؛ ففي عام 2019، أنشأت محطة "كوهاسا" الجوية البحرية في شمال جزيرة أندامان قرب موقع تجسس وتنصت تابع للجيش الصيني في جزيرة كوكو في ميانمار، وقامت بتوسيع المدرج الخاص بهذه المحطة ليتمكن من استيعاب طائرات الدورية البحرية. 

كذلك، وسعت قدرات المحطات البحرية في جزر نيكوبار، وأسست محطة باز الجوية البحرية في جزيرة نيكوبار الكبرى، على بعد 450 كيلومتراً فقط من مضيق ملقا.

كذلك، أسست الهند عدة قواعد بحرية وجوية خارج أراضيها، وكانت البداية عام 2007، عبر مركز للتنصت والرصد الراداري في مدغشقر، ليكون بمنزلة أول قاعدة عسكرية هندية في الخارج، ثم أسست قاعدتين جويتين في طاجيكستان، وقاعدة للتدريب العسكري في مملكة بوتان، ومركزاً للتنصت والاتصالات في مملكة عمان، إلى جانب امتلاك حقوق للوجود البحري في أحد موانئ سنغافورة، وحقوق لاستخدام مهبط للطائرات ورادارات للمراقبة الساحلية في موريشيوس، وتمركز مفرزة عسكرية هندية تتكون من نحو 77 جندياً وتقنياً في جزر المالديف تولوا إدارة وصيانة مروحيتين للبحث والإنقاذ وطائرة دورية بحرية.

خسارة نيودلهي ورقة المالديف

تعد جزر المالديف موقعاً استراتيجياً مهماً للهند والصين والغرب، إذ تقع على طريق خطوط شحن البضائع الحيوية بين الشرق والغرب، بما في ذلك واردات الصين من نفط الخليج. إضافة إلى ذلك، فهي تعتبر نقطة طريق لمزيد من السيطرة الجيوسياسية والنفوذ على المحيط الهندي، ولا سيما بالنسبة إلى الصين التي أصبحت أكثر نشاطاً في المنطقة.

وقد وضعت نيودلهي من ضمن أهدافها البحرية ضمان وجود دائم في هذا النطاق البحري القريب من سواحلها، واتخذت عدة مقاربات في هذا الصدد، بهدف جذب جزر المالديف وتحسين العلاقات معها، إذ تعد هذه الجزر بمنزلة الجار البحري الرئيسي للهند في منطقة المحيط الهندي، وهي تحتل مكانة خاصة في السياسة الهندية "الجوار أولاً". وقد سبق أن أرسل الجيش الهندي عام 1988 مظليين وسفناً حربية بحرية هندية إلى جزر المالديف كجزء من "عملية الصبار" لإحباط محاولة انقلاب ضد حكومة الرئيس الأسبق مأمون عبد القيوم.

تطورت العلاقات بين الجانبين بشكل أكبر بعدما تواصلت المالديف مع نيودلهي طلباً للمساعدة العسكرية عام 2009 خلال فترة حكم الرئيس المالديفي السابق محمد نشيد، بعدما اندلعت اضطرابات داخلية، وتصاعدت مخاوف من احتمال سيطرة مجموعات إرهابية على إحدى الجزر، فوقع الجانبان اتفاقية للتعاون العسكري تضمنت التمركز الدائم لمروحيتين هنديتين لتعزيز قدرات جزر المالديف في المراقبة والرصد، على أن تنفذ هذه المروحيات دوريات منتظمة فوق المالديف لمراقبة أي تحركات مشبوهة، والمساعدة في تأسيس شبكة رادارات ساحلية على الجزر الـ26 كافة التي تتكون منها المالديف، على أن يتم ربط هذه الشبكة بنظام الرادار الساحلي الهندي.

وقد ظل التعاون العسكري بين الجانبين سائراً في مساره الطبيعي، إلى أن تم انتخاب عبد الله يمين عبد القيوم رئيساً للمالديف عام 2013، إذ اتخذ موقفاً معادياً للهند وموالياً للصين، واتخذ قراراً بإنهاء وجود المروحيات الهندية على أراضي المالديف، واتهم نيودلهي بأنها كانت تريد تنفيذ عمليات عسكرية على أراضي المالديف خلال الاضطرابات التي شهدتها البلاد عام 2009.

لكن هذا التيار المعادي للهند انتهى بشكل مؤقت، بعدما تولى الرئيس المالديفي الأسبق إبراهيم محمد صلح منصبه عام 2018، إذ ألغى قرار إنهاء وجود المروحيات الهندية في بلاده، ومدد بقاء العناصر العسكرية الهندية، بالتزامن مع ابتعاد المالديف عن الصين على المستوى الاقتصادي.

عاد الزخم إلى التوجهات المعادية للهند في المالديف مرة أخرى خلال الحملة الانتخابية الرئاسية عام 2023، إذ تبنى المرشح محمد مويزو –الذي فاز لاحقاً في الانتخابات– خطاباً معادياً للهند تحت شعار "الهند إلى الخارج"، ووعد بطرد العسكريين الهنود من بلاده في حالة فوزه، وتعهد أيضاً بمراجعة كل الاتفاقيات بين جزر المالديف والهند، التي تبلغ أكثر من مئة اتفاقية، بما في ذلك الاتفاقية الخاصة بتطوير ميناء حرس السواحل التي رأى أنها تمهد لتأسيس قاعدة عسكرية هندية في بلاده. وبالفعل، طلب مويزو رسمياً من الهند سحب عناصرها من المالديف، على أن يتم انسحاب كامل القوة الهندية من المالديف خلال شهرين.

بديل هندي "منطقي" وقريب للمالديف

تحتفظ القيادة البحرية الجنوبية الهندية بمرافق بحرية عسكرية في مجموعة جزر لاكشادويب. تقع هذه الجزر على بعد 400 كيلومتر جنوب غرب قاعدة "كوشي" البحرية الهندية، وتتضمن قاعدة بحرية أساسية وراداراً ساحلياً وقاعدتين للعمليات الأمامية، إلى جانب قاعدة للصيانة والدعم اللوجيستي ومهبط جوي في جزيرة أغاتي. 

وقد وقع اختيار البحرية الهندية على قاعدة العمليات الأمامية في جزيرة مينيكوي، ليتم تطويرها لتصبح قاعدة بحرية مستقلة تحت اسم "جاتايا"، لتكون بديلاً من القاعدة الهندية في المالديف، وسيتم بناء مهبط طائرات على أراضيها، إلى جانب تمركز قطع بحرية هندية بشكل دائم فيها.

وتعد جزيرة مينيكوي –البالغ طولها 10 كم، وأقصى عرض لها يبلغ نحو 6 كم - ثاني أكبر جزيرة في سلسلة جزر "لاكشادويب"، وتبعد نحو 450 كيلومتراً من عاصمة المالديف، ونحو 135 كيلومتراً عن أقرب جزيرة تابعة للمالديف، وتطل هذه الجزيرة على القناة الملاحية التاسعة التي يبلغ عرضها 200 كيلومتر، وهي ممر تجاري رئيسي يربط بين غرب آسيا وجنوب شرق آسيا، وبين أوروبا وأفريقيا، عبر مضيق "ملقا"، وكذلك يربط بين السفن المتحركة من قناة السويس والخليج العربي نحو موانئ إندونيسيا.

وجدير بالذكر أن هذه الجزيرة كانت حتى ديسمبر 1976 جزءاً من جزر المالديف، ولكن تم نقل ملكيتها بموجب معاهدة الحدود البحرية بين الهند والمالديف إلى نيودلهي. 

في الخلاصة، يمكن القول إن انتخاب الرئيس المالديفي الحالي، محمد مويزو، يعد من حيث الشكل انتكاسة كبيرة للهند في منافستها الجيوسياسية مع الصين، وخصوصاً أن الرئيس الجديد له توجهات واضحة موالية للصين، وسمح لها بإدخال سفينة للمسح البحري إلى موانئ بلاده، لكن التجارب التاريخية مع حكومات الرؤساء السابقين للمالديف (محمد نشيد وعبد الله يمين قيوم وإبراهيم صليح) تشير إلى أن الوجود الصيني في المالديف ليس قوياً جداً مقارنة بالوجود والنفوذ الهندي، فنيودلهي على المستوى الجغرافي هي الأقرب إلى المالديف، ولها وجود عسكري على تخومها، على عكس الصين التي تركز انخراطها في المالديف على الجانب الاقتصادي. 

بالتالي، سيفرض الوضع الجغرافي على المالديف استمرارية علاقاتها مع الهند، وخصوصاً أن الطرف الأقرب الذي تلجأ إليه المالديف في حالات الطوارئ الأمنية أو المعيشية كان دوماً الهند.

على المستوى العسكري، وبالنظر إلى ضآلة الوجود العسكري الهندي في المالديف، يمكن القول إن اختيار جزيرة "مينيكوي" القريبة من المالديف يمكن أن يعوض بشكل كبير فقدان الهند وجودها العسكري في المالديف، كما أنه سيتضمن توسيعاً كبيراً للوجود البحري الهندي في هذا النطاق الهام، بما يشمل قدرات بحرية وجوية كبيرة ستسمح بمراقبة أكبر للأنشطة البحرية الصينية.