مخاطر "التعاون" المصري-الإسرائيلي على الأمن القومي العربي (1-4)

مسؤولية أمن مصر القومي تتطلّب سياسة نشطة، تقوم على حفظ توازن المصالح والقوى في الإقليم العربي وليس على دفعه دفعاً إلى الحضن الأميركي الإسرائيلي.

  • مخاطر
    مخاطر "التعاون" المصري-الإسرائيلي على الأمن القومي العربي (1-4)

تابعت منذ فترة ليست بالقصيرة بعض الكتابات والمقالات التي تتناول حجم العلاقات الاقتصادية والاستراتيجية بين نظام الحكم والإدارة في مصر والكيان الإسرائيلي، وقد استوقفني بعض التهوين والتقليل من حجم هذه العلاقات والمخاطر، كما ركّز البعض على حجم التجارة السلعية المعلنة باعتباره مؤشراً على تواضع هذه العلاقات. 

ووفقاً لأحد الدارسين المرموقين فإن عام 2011 قد سجّل أعلى مستوى للتبادل التجاري بين البلدين خلال العقد الأخير، إذ بلغ حجم التصدير من "إسرائيل" إلى مصر 236 مليون دولار مقابل 178 مليون دولار قيمة استيراد "إسرائيل" من مصر. وفي عام 2015 بلغ حجم التصدير الإسرائيلي إلى مصر نحو113.1 مليون دولار، مقابل 147.1 مليون دولار عام 2014 أي بانخفاض عن العام السابق.

ويصل الكاتب إلى القول (أمّا مصرياً، فيمكن القول إن الاختراق التطبيعي اقتصادياً بالنسبة إلى حجم الاقتصاد المصري أو بنيته ظل أكثر محدوديةً وأقلّ تفشياً من تفشّيه في جنوبي بلاد الشام حتى عام 2020. وإذا وضعنا الغاز جانباً، فإن التجارة بين مصر و"إسرائيل" بلغت 200 مليون دولار فحسب عام 2020، ووصلت إلى "رقم قياسي" هو 330 مليون دولار عام 2021 بزيادة قدرها 63% عن عام 2020، وذلك بعد 42 عاماً من معاهدة السلام. قارن ذلك-على سبيل المثال -بحجم التبادل التجاري بين تركيا والكيان الصهيوني، والذي بلغ 4.67 مليارات دولار عام 2020، و6.36 مليارات دولار عام 2021.

والحقيقة أن هذه الأرقام (والتي استند إليها الكاتب للوصول إلى أن نتيجة التطبيع الاقتصادي بين الحكومة المصرية وقطاعات الأعمال من جهة و"إسرائيل" من جهة أخرى ما زال دون المستوى الخطير) لم تكن دقيقة على الإطلاق، حيث إنها لم تكن تشمل أبداً التجارة المتبادلة بين البلدين في مجال البترول والغاز الطبيعي الذي قفز قفزة هائلة بعد عام 2018، كما لم تشمل نتائج المعاملات بين البلدين وفقاً لاتفاقية المناطق الصناعية المؤهّلة (الكويز).

ولم تشمل كذلك التدفقات السياحية التي تقدّر بمئات الآلاف سنوياً وتختال في سيناء ليل نهار، ولا حجم وعمق التعاون العسكري والاستخباري بين البلدين. والمؤكد أن العلاقات بين الحكم في مصر والكيان الإسرائيلي هي أعمق وأخطر وأوسع مما يتصوّر البعض من أصدقائنا العرب، وقد اتخذت أبعاداً متعددة وعلى أكثر من مستوى، سواء على المستوى الاقتصادي أو المستوى السياحي وتبادل زيارات الوفود الرسمية وغير الرسمية من رجال الأعمال في البلدين، أو على المستوى العسكري والتعاون فيما يسمى الحرب على الإرهاب.

في هذه الدراسة سوف نتوقّف عند التعاون بين الجانبين على المستويات كافة؛ لنرى ما تشكّله من مخاطر حقيقية على ما بقي من الأمن القومي العربي بمضمونه الشامل: 

الأول: التعاون في المجال الزراعي والتبادل التجاري.

الثاني: اتفاقية المناطق الصناعية المؤهّلة، أو ما أطلق عليها الكويز(Qiz).

اتفاقيات تصدير الغاز المصري إلى "إسرائيل" من عام 2008 حتى توقّف عام 2012، ثم اتفاقيات استيراد الغاز من "إسرائيل" إلى مصر بعد عام 2018.

الثالث: التعاون في المجال السياحي.

الرابع: التعاون في المجال العسكري والاستخباري.

ولكن دعونا بداية نتوقّف عند التعريف العلمي الدقيق لمفهوم الأمن القومي عموماً، والأمن القومي العربي على وجه الخصوص.

أولاً: في مفهوم الأمن القومي للدول أو الإقليم وقبل أن يبرز مفهوم الأمن القومي بمعناه الحديث بعد الحرب العالمية الثانية على يد الكاتب الأميركي جورج كينان، كانت الإمبراطوريات الاستعمارية القديمة (بريطانيا–البرتغال-روسيا القيصرية– فرنسا– بلجيكا– إسبانيا– إيطاليا– النمسا– هنغاريا) تنظر إلى مفهومها للأمن من منظور دائم يرتبط بفكرة المصلحة القومية. 

وهذه المصلحة تركّزت على تأمينها للأسواق وتأمين مصادر المواد الخام، ومن ثم التوسّع في المستعمرات، ومع ذلك فقد حافظت كل دولة استعمارية أوروبية على مجموعة من السياسات والإجراءات التي من شأنها إضعاف خصومها في القارة، وذهبت بريطانيا – وما زالت – إلى صياغة رؤية استراتيجية ثابتة منذ ذلك التاريخ تقوم على مناهضة أي محاولات لتوحيد دول القارة الأوربية أو هيمنة إحدى دولها على ربوع القارة؛ لما في ذلك من مخاطر على النفوذ البريطاني داخل القارة: هكذا فعلت ضد الهيمنة "النمساوية – الهنغارية"، وضد محاولات فرنسا تحت قيادة نابليون بونابرت، وضد محاولات ألمانيا تحت حكم هتلر والحزب النازي.

على أي حال (ودون أن نستغرق في نظريات الأمن القومي وأدبياتها) نود أن نلخّص ما انتهت إليه تلك النظريات جميعاً من أسس ومرتكزات لا تتغيّر عناصرها بتغيّر الظروف، ولا تتبدّل أسسها بتغيّرات الزمن وتبدّلات الأصدقاء أو الأعداء. لقد استقرّت نظريات الأمن القومي لدولة ما من الدول في ضوء تحديد عنصريين أساسيين يتفرّع عنهما عشرات العناصر، وهذان العنصران الرئيسيان هما: 

 المحدّد الأول: تحديد طبيعة ومناط المصالح الحيوية للدولة.

المحدّد الثاني: تحديد مصادر الخطر والتهديدات القائمة والمحتملة بمختلف مستوياتها وأنواعها.

إذاً، ما الذي يعنيه مصطلح المصالح الحيوية أو القومية لأي دولة، ولمصر على وجه الخصوص؟

    الحقيقة أن هذا المصطلح يتحدّد في 3 مستويات من الأهمية، بحيث قد تتداخل أحياناً، أو تتقاطع أحياناً أخرى، أو تتراتب من حيث الأهمية أحياناً كثيرة وهي: 

-المصالح الحيوية، سواء أكانت اقتصادية أم سياسية أو عسكرية أو حتى ثقافية أو علمية.

-المصالح الحسّاسة، وهي درجة أدنى من الأولى، وقد تكون ذات طبيعة دائمة، أو مؤقتة، مثل اتفاقيات التعاون في مجالات الاستثمار، أو تنقل العمالة، أو منح تسهيلات تجارية أو أمنية... إلخ.

-المصالح الممكنة، وهي أقل أهمية من سابقاتها ولكنها قابلة للتطور والتفعيل، وهي هامة لمصر أو للدول عموماً، سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي، أو العسكري أو الأمني. 

لذا فإن وجود سياسة مصرية أو عربية في بعض الدوائر الجيوسياسية البعيدة عن أنظار ومشاهد الرأي العام (مثل حالة إريتريا أو الصومال أو مدغشقر أو الرأس الأخضر أو كردستان العراق) من القضايا التي تمس الأمن القومي المصري والعربي، وتؤثر على المصالح القومية، سواء على المدى البعيد أو المتوسط أو حتى القريب.

ولا ينحصر مجال تحديد دوائر المصالح القومية على شخص الرئيس أو الملك، أو حتى الأجهزة الأمنية ومراكز رسم السياسات، بل يتعداها في الكثير من الأحيان ليشارك بها الكتّاب والمحللون الاستراتيجيون الذين قد يتحلّون ببعد النظر ونقاء الرؤية والبصيرة الاستراتيجية، ومن هذه الزاوية فإن المصالح القومية لمصر– بمستوياتها الثلاثة – تتطلب ومنذ اللحظة الأولى توخي الأهداف الآتية: 

1-لعل أولى تلك المصالح القومية لمصر هي تحقيق التوازن في القوى والمصالح داخل الإقليم العربي وأبعاده، وبالتالي عن دوائر التأثير والاستقطاب الدولي الحاد.

صحيح أن هناك مصالح لدول كبرى ومتوسطة داخل الإقليم، وصحيح أن هناك ميولاً قد تصل إلى حد التحالف والتبعية بين بعض دول المنطقة العربية ودول كبرى مثل الولايات المتحدة أو بريطانيا أو فرنسا أو الاتحاد السوفياتي فيما مضى، ولكن تظل السياسة المصرية والمصالح القومية المصرية تقتضي دون هوادة إبعاد دول المنطقة عن حالة الاستقطاب الحاد والضارة الجارية على المسرح الدولي، والتي قد تدفع بالضرورة إلى تفتيت الجهد العربي، بل والوصول به إلى حد التناحر العربي – العربي. 

وهو ما يصبّ مباشرة ودون لحظة تردد واحدة لمصلحة "إسرائيل" التي هي العدو القومي الرئيسي، أو على الأقل لدى البعض الآخر مصدر التهديد والخطر الرئيسي في المنطقة بحكم طبيعة تكوينها العنصري والعدواني، وبالتالي فإن ضرورات المصلحة القومية المصرية هي في اتباع مجموعة من السياسات النشطة – سياسياً واقتصادياً وعلمياً وعسكرياً وأمنياً – لتحقيق هدف التوازن في الإقليم وإبعاده عن سياسات المحاور والاستقطاب وليس جذبه إلى تلك الحالة عبر سياسات الرؤساء المصريين الثلاثة (أنور السادات – حسني مبارك – عبد الفتاح السيسي). 

وهذه السياسات دفعت المنطقة دفعاً إلى مزيد من الاختلال والاستقطاب لصالح المشروع الإسرائيلي والأميركي في المنطقة عبر شدّ الدول العربية شدّاً (منذ مبادرة عام1977) إلى مسار التسوية بنهج كامب ديفيد، وتشجيع بقية الأطراف العربية على سلوك الطريق نفسه، وكأنه دور وظيفي مدفوع إليه من خلال التعاون والتحالف مع الولايات المتحدة و"إسرائيل" من ورائها.

2-يترتّب على هذا الهدف القومي والاستراتيجي لمصر محاربة محاولات التفتيت والتقسيم الجارية داخل دول المنطقة (فلسطين-السودان–العراق– الصومال–اليمن– الجزائر–المغرب) عبر اتباع سياسة نشطة وإيجابية في وأد ومحاربة هذه المحاولات، وعدم الاكتفاء بموقف المتفرّج، لتترك المنطقة ودولها وشعوبها مجالاً حراً لتحركات الدول الكبرى والإقليمية وأجهزة استخباراتها لتحقيق كل منها لمصالحها. 

ولا يجوز والأمر كذلك أن يدفع البعض بأن مسؤولية رئيس مصر تقتصر على حماية حدود بلاده الجغرافية فقط، ذلك أن بديهيات المصلحة القومية المصرية وحماية حدود مصر ذاتها يبدأ من حيث يستقر الآخرون في المنطقة العربية، ودفع دولها وحكوماتها نحو العمل التكاملي – والتوحيدي – سواء على المستوى الاقتصادي أو السياسي أو العسكري. 

أما ترك العراق للحصار والغزو، بل والمشاركة النشطة في الجريمتين، وترك السودان لمصيره المجهول تتقاذفه الرغبات الأميركية أو البريطانية أو الطموحات الفرنسية، وسيطرة الأساطيل الأجنبية من كل صنف على البحر الأحمر في عملية تدويل فاضحة وظاهرة وتركها في مهب الريح تتلاعب بها القوى الكبرى وظروف التقسيم الجيوسياسي، فهو إهدار واضح وفاضح لأمن مصر القومي على المدى المتوسط والبعيد. 

ولا يحتجّ البعض بالقول: إن مصر التي لا تشارك بالرأي من جانب الحكومات العربية لا ينبغي أن تتحمّل مسؤولية ووزر تصرفات الآخرين المشبوهة والمجنونة أحياناً (القذافي في ليبيا–الترابي أو البشير أو جنرالات السودان-صدام حسين في العراق–تحالفات الملك حسين ومن بعده نجله في الأردن-سياسات الملك محمد السادس وتحالفه مع "إسرائيل" في المغرب... إلخ).

وبرغم بعض الوجاهة في هذا الرأي فإن مسؤولية أمن مصر القومي تتطلّب سياسة نشطة، غير كسولة أو مدفوعة بدورها باستقطاب دولي من نوع أكثر خطورة، مثل المحور الأميركي الإسرائيلي. سياسة تقوم على حفظ توازن المصالح والقوى في الإقليم العربي وليس على دفعه دفعاً إلى الحضن الأميركي الإسرائيلي.

3-ومن جملة المصالح الحيوية لمصر عدم التورّط في توقيع اتفاقيات ومعاهدات (سواء على المستوى الأمني أو السياسي أو الاقتصادي) ترتّب التزامات أو تضع قيوداً تؤثر سلباً على حرية صانع القرار أو قدرته على المرونة والمناورة. 

والحقيقة أن أنظمة الحكم المتتالية في مصر (منذ الرئيس أنور السادات حتى اليوم) قد أفرطوا في توقيع معاهدات واتفاقيات دولية أو إقليمية وضعت قيوداً صارمة على قدرات مصر المستقبلية، بدءاً من اتفاقيات "كامب ديفيد" في أيلول/سبتمبر عام 1978، ومعاهدة "السلام" المصرية الإسرائيلية في آذار/مارس من عام 1979، ثم اتفاقية التجارة الحرة (دورة أوروجواي عام 1994)، واتفاقية المناطق الصناعية المؤهّلة "الكويز" مع "إسرائيل" والولايات المتحدة في كانون الأول/ديسمبر عام 2004، والبروتوكول الخاص بتوريد الغاز الطبيعي لـ "إسرائيل" عام 2005، وفي غيرها من الاتفاقيات مع بعض الأطراف الخليجية التي قيّدت الخيارات المصرية الاقتصادية والسياسية.

صحيح أن العلاقات الدولية قد تتطلب إجراء بعض التنازلات أو المساومات مع بعض الأطراف لتحقيق مصالح متبادلة، بيد أن ما جرى في حالة "إسرائيل" تحديداً كان خسارة صافية لمصر من الناحيتين الاقتصادية والاستراتيجية، حتى لو تحقّقت بعض الأرباح، بالمعنى المالي المجرد لبعض رجال المال والأعمال المصريين. 

فإنّ مراجعة اتفاقيات الكويز أو الغاز الطبيعي تؤكد بما لا يدع مجالاً للشكّ تحقّق خسارة استراتيجية لمصر على أكثر من ناحية، سواء من زاوية تعزيز نفوذ وقوة "إسرائيل"، أو بدعمها من خلال منحها الغاز المصري بأقل من عشر ثمنه في السوق العالمية وقت التعاقد وبعده، أو في اتفاقيات شراء الغاز من "إسرائيل" عام 2018. وفي الوقت نفسه لقد أضرّت بمصر وسمعتها أمام كل الشعوب العربية وخاصة الشعب الفلسطيني المكتوي من الحصار الذي تفرضه "إسرائيل" من الشرق والأجهزة المصرية من الغرب، وأدى إلى موت المئات بسبب هذا الحصار. 

4-كما أن المصلحة الحيوية لمصر تقتضي من دون تردّد المساعدة في تحرير بقية الأراضي العربية المحتلة لكل من سوريا ولبنان وفلسطين، حتى لو كانت هناك اتفاقية ومعاهدة تسوية سياسية بين "إسرائيل" ونظام الحكم في مصر. فممارسة مصر دوراً مسؤولاً من أجل مساعدة الدول العربية في تحرير أراضيها (سواء بالجهد الدبلوماسي أو القانوني أو الاقتصادي أو الإعلامي) هو من ضرورات الحفاظ على عمق استراتيجي مطلوب مع المحيط الحيوي لمصر.    

وبالتالي فإن الخصومة والعداء المستمرّين في العلن وفي الخفاء - والذي مارسته الأنظمة في مصر ضد الحكم في سوريا، أو الحركات الوطنية المقاومة في فلسطين (حماس وكل فصائل المقاومة)، وموقف مبارك وغير المسؤول أثناء العدوان الإسرائيلي الوحشي ضد لبنان وحزب الله في تموز/يوليو عام 2006 هو امتداد طبيعي لسياساته المتواطئة ضد العراق أثناء الغزو والاحتلال الأميركي والبريطاني والغربي عموماً لهذا البلد العربي المهمّ، والتي وصل فيها الحال إلى مطالبة الرئيس حسني مبارك لقوات الاحتلال الأميركي بعدم الخروج من العراق بزعم الحرص عليه.

هذا السلوك هو بمثابة تهديد خطير ونهائي للأمن القومي العربي ولأمن مصر بالتالي، وكله في النهاية مدفوع بوضوح للمهادنة والخضوع للمطالب الأميركية التي يتوارى خلفها النفوذ والمصالح الإسرائيلية.

5-من مقتضيات المصلحة القومية لمصر، تعزيز وتوسيع نطاق التعاون الاقتصادي العربي والإقليمي ليشمل إيران وتركيا، وليس الانغماس أكثر فأكثر في الاندماج بالاقتصادين الأوروبي والأميركي اللذين باتا يشكّلان نحو 65 إلى 70% من تجارة مصر الدولية (استيراداً وتصديراً)، بينما لا تتعدى نسب التعاون الاقتصادي المصري العربي 8 إلى 10% من تجارتنا الدولية طوال العقود الماضية. 

ورغم الدعوات التي أطلقها الرئيس حسني مبارك عام 2006 بشأن ضرورة إقامة منطقة تجارة حرة مع البلدان العربية، أو منطقة اتحاد جمركي، فإن سياساته العملية كانت تستسهل التعاون والتبعية لدول الغرب عموماً والولايات المتحدة على وجه الخصوص، مدفوعاً باعتبارين هما: 

الأول: أن الهيكلين الاقتصادي والاجتماعي اللذين حرصوا وشاركوا بمنتهى القوة والحماس لبنائهما منذ عام 1974 كانا قد خلقا واقعاً جديداً متمثّلاً بوجود طبقة اجتماعية رأسمالية مصرية – سواء كانت تجارية كتوكيلات، أو شبه صناعية – تعتمد وتفضّل التعامل مع الغرب دون ما عداه، بعضها لاعتبارات مرتبطة بالبنية الموضوعية التي تخلّقت منذ عام 1974، أو بسبب ممارسات الفساد وتقاضي الرشا والعمولات من الشركات والمؤسسات والأجهزة الغربية.

فإذا راجعنا بعض الدراسات الأكاديمية الجادة-والتي تناولت نشأة هذه الطبقة من رجال المال والأعمال وجمعياتهم التي يمارسون من خلفها الحكم وتوجيه سياسات الوزراء والرئاسة-نتعرف بدقة على هذه الحقيقة (انظر دراسة الدكتوراه لناهد عز الدين عبد الفتاح، ودراسة الماجستير لسامية إمام السعيد حول الأصول الاجتماعية لنخبة الانفتاح في مصر، ودراستنا حول الاقتصاد المصري من عهد التخطيط إلى عصر الامتيازات والخصخصة).

الثاني: إنّ ارتباطات النظام المصري خلال العقود الماضية قد تعمّقت تماماً مع الولايات المتحدة، على وجه الخصوص وأجهزتها الأمنية والاستخبارية، لأسباب قد يكون بعضها غير أخلاقي ومتعارضاً مع نصوص الدستور المصري، بحيث أصبح من المستحيل فضّها من دون أن ينهار النظام السياسي الحاكم ذاته.

ومن هنا فإن عدم بذل الجهد الضروري والكافي من أجل بناء وتعزيز مساحة التعاون والتنسيق والتكامل الاقتصادي العربي يتحمّلون مسؤوليته كبقية الحكام والملوك العرب؛ مما قلص في المحصلة النهائية قدرات مصر كدولة وكمجتمع على الحفاظ على استقلاله السياسي والاقتصادي بل وحتى الغذائي، بحيث أصبحت القرارات التي يصدرها هذا الرئيس أو ذاك مرتهنة بالكامل (سواء على الصعيد الدولي أو الإقليمي أو الفلسطيني) لإرادة ورغبات وقرارات الولايات المتحدة، وبالتالي لـ "إسرائيل"، وكذا دول الخليج النفطية.

6-وفي مجال إهدار فرص مصر في التنمية (المصالح الممكنة) فإن التصرفات المحكومة بشبهات سوء التقدير، ناهيك عن شبهات فساد فجة ومكشوفة فيما يتعلق بإدارة مرفق الطاقة وخصوصاً الغاز الطبيعي المصري، والتلاعب بأساليب أقلّ ما يمكن وصفها بأنها أساليب "احتيالية" من أجل تصدير هذا الغاز إلى الكيان العنصري الصهيوني في فلسطين المحتلة عام 2005، وبأسعار ليس لها نظير ولا مثيل في العالم (دولار إلى 1.25 دولار لكل مليون وحدة حرارية، بينما متوسط سعرها في الأسواق العالمية يتراوح بين 6 إلى 9 دولارات وقت التعاقد وبدء التنفيذ عام 2008)، ولمدة زمنية طويلة جداً (20 عاماً)، بما يساعد هذا المشروع الاستعماري المعادي على المدى الطويل للسيطرة والهيمنة على مقدّرات ليس فقط الفلسطينيين بل المنطقة العربية برمتها.

وتكشف التعاقدات التي تمّت مع إسبانيا وفرنسا والنمسا فيما يتعلق بتصدير الغاز الطبيعي المصري إليها منذ عام 2001 عن المنحى نفسه المضرّ بالمصلحة الاقتصادية المصرية المجردة: من حيث تدنّي السعر، وعدم التفكير في استخدام هذا المورد الاستراتيجي الناضب في التوسع الصناعي وتطوير حياة المواطنين في مصر بمدّ هذا المصدر إلى المنازل وتخفيف العبء عن البسطاء ومحدودي الدخل.

ولم تكن هذه التصرفات والقرارات سوى تعبير عن جهل وسوء تقدير للموقف من ناحية، ومشفوعة بشبهات فساد هائلة، كما كشفت عنها تحقيقاتنا بشأن العمولات التي قدّمت في مشروع "أجريوم الكندية" في دمياط، وإلى الغاز المدعم لكبار الاحتكاريين المصريين مثل أحمد عز ومحمد أبو العينين وحسين سالم وغيرهم من المرتبطين بعلاقات شخصية برئيس الجمهورية، مما أهدر نحو 25 مليار جنيه خلال السنوات السبع من (2000- 2007) على الأقل، وهو ما زاد ضرره في السنوات اللاحقة، والتي وصلت إلى حد التعاقد على شراء الغاز من الكيان الإسرائيلي عام 2018.

7-لقد تحقّقت لمصر فرصة تاريخية نادرة لتجاوز حاجز الأزمة والتعثّر الاقتصادي والاجتماعي، حينما تدفّقت موارد لم تكن أبداً عنصراً أساسياً في الاقتصاد والموارد المصرية بمثل هذه الكثافة، وهي عوائد البترول وإيرادات قناة السويس، وعوائد السياحة، ثم أخيراً تحويلات المصريين العاملين في الخارج.   

لقد بلغت هذه الموارد مجتمعة نحو 500 مليار دولار خلال نحو ثلاثين عاماً (1974-2010)، ناهيك عن القروض والمساعدات العربية والأجنبية التي زادت على 350 مليار دولار أخرى بدّدت في: التمويل الترفي، وأنشطة التمويل العقاري، والمضاربة على الأراضي والعقارات، وفي بناء وتشجيع القرى السياحية على طول السواحل المصرية الشمالية والشرقية.

ناهيك عن الإحساس المتنامي بالحرمان لدى ملايين المصريين من جراء سرقة حقهم في البحر وفي النيل. كما أدّت سياسات النظام إلى تبديد هذه الفرصة التاريخية للتنمية؛ نظراً لافتقارها إلى منظومة وطنية للأولويات تعيد لمصر ثقلها، وترتّب للمستقبل حاجاته ومقتضياته.

8-وفي مجال التعليم والبحث العلمي: لقد تدهور مستوى الأداء التعليمي الحكومي، وجرى اعتماد سياسات وإجراءات لدفع الناس دفعاً إلى تعليم أولادهم في المدارس الخاصة (من 676 مدرسة عام 1977 إلى 4550 مدرسة عام 2005، ثم إلى أكثر من سبعة آلاف مدرسة خاصة عام 2015)، وإلى الجامعات الخاصة (من جامعة واحدة عام 1981 إلى 16 جامعة عام 2005 ثم إلى أكثر من ثلاثين جامعة خاصة عام 2020). 

وانتشرت خطيئة الدروس الخصوصية بين العاملين في النظام التعليمي بسبب سياسات الإفقار المتعمّدة التي اتبعتها هذه الحكومات المصرية ضد المدرّسين وغيرهم من العاملين بأجر ومرتب في القطاع الحكومي (5.5 ملايين مواطن)؛ فانهارت أولى خطوط الدفاع الأخلاقية والقيمية أمام النشء والشباب بسبب انتشار هذه الممارسة المجرمة قانوناً وأخلاقاً. وكان صمت الرؤساء عنها ونظامهم وأجهزتهم هو بمثابة توريط لملايين الناس في ممارسات فاسدة مسكوت عنها، طالما أن النظام كله محكوم ومنذ مطلع السبعينيات بجرائم رشا وفساد وعمولات أصبحت حديث كل بيت في مصر، وحديث كل مؤسسات الأعمال والمنظمات الدولية.

وفي ظل التحدي العلمي الإسرائيلي ذي الأبعاد العسكرية الواضحة، وقيامها بإطلاق 6 أقمار صناعية منذ عام 1988 (نظام أفق)، وتملّكها أكثر من 200 رأس نووي مؤكد، لم يتحرّك رؤساء مصر لتطوير منظومة البحث العلمي والتكنولوجي بما يناسب تطوير قدرات علمية حقيقية مصرية قادرة على مواجهة هذا التحدي العلمي الإسرائيلي حتى في أطره السلمية، فشهدنا تدهور أداء مراكز الأبحاث العلمية، وتدهور الأداء البحثي في الجامعات المصرية، وتدهور مركز المعامل العلمية في الجامعات والمدارس الحكومية.

وعبر التضييق على مكتب التنسيق وفرض التوزيع الإقليمي الإلكتروني (عام 2007)، والمبالغة الشديدة في مجاميع القبول بكليات (ما يسمى) القمة، كان الدفع يجري نحو اتجاه المواطنين المصريين وإجبارهم واقعياً نحو التوجّه لإلحاق أولادهم بالجامعات والمعاهد الخاصة في إطار فلسفة وموقف سياسي معادٍ عملياً لمبدأ مجانية التعليم الذي اكتسبه المصريون منذ عام 1942 وبتضحيات هائلة.

وتكشف الدراسات الحديثة والتي قمنا بها وقام بها آخرون حول إنفاق المصريين على التعليم (54 مليار جنيه عام 2004/2005)، والذي زاد عاماً بعد آخر حتى تجاوز 200 مليار جنيه عام 2020 مقدار العبء الضخم الذي تتحمّله الأسر المصرية من أجل تعليم أبنائها، مقابل انسحاب تدريجي واضح للدولة من حقل التعليم والصحة وغيرها من الخدمات الحيوية للمصريين، خاصة الفقراء ومحدودي الدخل منهم.