نقطة تحوّل: الجنرال سليماني وميزان المواجهة في سوريا والإقليم

 مثَّلَ الجنرال سليماني ظاهرة إقليمية ودولية، وكما كانت حياته مساراً مستمراً من العمل في "خط المقاومة" والصراع مع أميركا و"إسرائيل" وحلفائهما في المنطقة، فإن استشهاده يمثل –من هذا المنظور-" نقطة تحوّل"

  • نقطة تحوّل؟.. الجنرال سليماني وميزان المواجهة في سوريا والإقليم
    الجنرال سليماني وميزان المواجهة في سوريا والإقليم

كانت إيران البلد الوحيد تقريباً الذي أمكن لسوريا ونظام الرئيس بشار الأسد الركون إليه بقدر كبير من الثقة والاطمئنان، في أكثر لحظات الحدث السوري صعوبة ولا يقينية. ومثّلت إيران وحزب الله عاملَي الدعم الرئيسين للنظام السياسي في البلاد بعد حدث 2011 والحرب التي تلته. ولا يمكن قراءة ذلك بمعزل عن دور الجنرال قاسم سليماني الذي تولى قيادة الجهد الإيراني في سوريا، منذئذ وربما قبله.

ولا يزال التحالف مع إيران رهاناً رئيساً لدى الرئيس بشار الأسد، الذي قال لمحاوريه في اجتماع (تشرين الثاني/نوفمبر 2022) إن التحالف مع إيران استراتيجي، وأنه لن يقبل أن يكون أي انفتاح على بلاده مشروطاً بتغيير نمط التحالف بينها وبين إيران. 

حضر الجنرال قاسم سليماني إلى سوريا في لحظة حرجة وصادمة وغير مسبوقة في تاريخها الحديث، وفي ذروة احتدام إقليمي بالغ القسوة والخطورة. وكشفت الحرب السورية عن حجم التداخلات والرهانات في الصراع على الإقليم، ومثلت لبعض الوقت -وربما لا تزال-"خط الصدع" الرئيس في السياسة الإقليمية والدولية.

ويمثل قاسم سليماني أحد رموز التحالف بين سوريا وإيران، وأحد عوامل القوة والثبات فيه، ويعد وجوده في ميادين الحرب السورية دليلاً على أولوية سورية في مدارك الأمن والاستراتيجية، ليس بالنسبة إلى سياسات إيران في الإقليم فحسب، وإنما بالنسبة إلى أمنها هي نفسها. وقيادته المباشرة لـ"عمليات حلفاء سوريا" في حلب وريف حماه ودير الزور وحمص وغيرها، ودوره في "احتواء" العقبات التي تظهر أمام التحالف بين البلدين، مؤشران على أن الحرب في سوريا هي حرب إيران بالقدر نفسه، ولذلك كانت مهمته الرئيسة هي القيام بكل شيء ممكن للحيلولة دون كسر "واسطة العقد" في حلف المقاومة: سوريا.

تتألف الورقة من ثمانية محاور: أولاً-في الرؤية والمقاربة، ثانياً-حدث كاشف، ثالثاً-في انتظار سليماني! رابعاً-أسُّ الجهاد، خامساً-في استشهاد سليماني، سادساً-في خطط سليماني، سابعاً-خط سليماني، ثامناً-الإشارات والتنبيهات.

أولاً- في الرؤية والمقاربة

تنطلق الورقة من أن استهداف/استشهاد الجنرال سليماني كان حدثاً كاشفاً، وذلك بعدة معانٍ: أولاً هو كاشف لدور الرجل في سياسة إيران واستراتيجيتها في الإقليم والعالم، وخاصة في ما يُعرف بـ"حلف المقاومة". والثاني هو الأهمية والأولوية التي كانت للأزمة السورية في تفكير الرجل وعمله، بدءاً من حدث 2011 والحرب التي تلته.

ثانياً هو كاشف لحجم الرهانات والتعقيدات في الحدث السوري، ودور سليماني في ترجيح عوامل الانخراط النشط لروسيا في الأزمة السورية، بعد تردد دام عدة سنوات. ثالثاً، هو أن استهداف سليماني كان متمماً ومصداقاً لسرديته وسيرته في العمل الجهادي، العسكري والسياسي. ورابعاً هو كاشف ليس لما كان من سيرته، وإنما لما سوف يأتي، باعتبار استمرار ديناميات الصراع، واستمرار إيران في سياساتها واستراتيجياتها في خط المعنى والقوة نفسه. 

وتخلص الورقة، إلى أن حدث الاستهداف/الاستشهاد، هو "نقطة تحوّل" في قراءة السياسات والرهانات في الإقليم، وإلى حدّ ما في العالم وتقديرها، باعتبار أن الصراع في المنطقة العربية والشرق الأوسط "يتمفصل" مع الصراع على المعنى والقوة في النظام العالمي. وهذا يتطلب مراجعة لمصادر التهديد-الفرصة، وتكييف الاستجابات القائمة وتعديلها، وتدبير المواقف والسياسات، من أجل "احتواء" مصادر التهديد، و"تعظيم" مصادر الفرصة. 

بهذا المعنى، تبدو استعادة لحظة الاستهداف/الاستشهاد ضرورية، ليس لـ"استذكار" ما كان و"تبيُّن" دلالاته الماضية فحسب، وإنما لـ"وعي" عوامل الاستمرار-التغيير في الصراع الإقليمي، و"تدبُّر" الاستجابات الموائمة له. وهنا، تبدو لحظة سليماني في الصراع الإقليمي، "حدثاً مؤسساً"، "يظهر فيه التاريخ مُركَّزاً، كما في نقطة محورية"، بتعبير فالتر بنيامين، وبمعنى أن حدث الاستهداف/الاستشهاد، لا ينير الماضي فحسب، بل ينير المستقبل أيضاً. 

ثانياً- حَدَثٌ كاشفٌ

قام الجنرال سليماني بدور رئيس في الأزمة السورية، ليس بتولي إيران وحزب الله وفصائل المقاومة الأخرى في الحرب وتدبيرها فحسب، وإنما بتدبير السياسات والتأثير في مواقف فواعل أخرى مثل روسيا، بِحَثِّهَا على حسم التردد في الموقف حيال الأزمة السورية، واتخاذ سياسات أكثر إقداماً. 

ومَثَّلَ استشهاد سليماني "حدثاً كاشفاً" بأكثر من معنى، فقد كان استهدافه محاولة لإنهاء أو إشغال الخط الذي عمل عليه، وهو "خط المقاومة". وما حدث له لم يكن خارج التوقع، بل كان في أفق مداركه عن الشهادة، وأفق مقاصده هو نفسه. ووقَّعَ سليماني على سيرته ومسيرته بالدم. وهل هناك ما هو أبلغ من التوقيع بالدم؟

والاستشهاد هو "حدث كاشف" بالنسبة إلى الأزمة السورية نفسها، وفي تداخلات ورهانات الأطراف المتصارعة فيها، وخاصة إيران والولايات المتحدة، التي تمثل سوريا "نقطة احتكاك" أو "خط مواجهة" رئيساً بينهما، وثمة إلى ذلك نقاط وخطوط أخرى في: أفغانستان والعراق واليمن والخليج وفلسطين وآسيا الوسطى وغيرها. ووصل "التدافع" بين إيران وأميركا إلى درجة كان من الصعب على أميركا معها أن "تتكيف" مع وجود قائد يدير المواجهة بكفاءة، ويحقق نجاحات كبيرة.

وهو "حدث كاشف" بمعنى أن الإيمان بالأفكار والأوطان يخلق قوة واندفاعاً لدى الفاعل "يعَدِّلان" ميزان القوى المختل بين مجتمعات المنطقة ودولها من جهة، وبين قوى الهيمنة العالمية من جهة أخرى. ومع الفارق الكبير في إمكانات القوة المادية والرمزية، فإن إرادة المقاومة والتمسك بالحقوق يعطيان الفاعل قدرة تأثير قد تفوق قوة العدو، وقد تحقق الانتصار عليه. وهو ما حدث مثلاً في جنوب لبنان بدءاً من التحرير في العام 2000 إلى حرب تموز/يوليو 2006، وفي فلسطين المحتلة، والعراق خلال المعارك ضد تنظيم "داعش".

تؤمن إرادة المقاومة بأن العالم رهانات متفاضلة ومتقابلة، وأن ميزان المعنى والقوة متغير ومتحرك، وأن المقاومة هي قوة ترجيح وتقرير في ذلك. و"كم من فئة قليلة غلبت فئة كبيرة"، وكم من حزب صغير العدد والعدة غلب قوة كبيرة في العدد والعدة؟ وهكذا، فإن الحدث السوري، بكل تداخلاته وأحواله وأهواله، ولا يمكن قراءة استهداف سليماني بمعزل عن دوره في سوريا، يكشف أن قوة الفكرة والانتماء والمقاومة يمكن –من هذا المنظور-أن تخلق واقعاً سياسياً وعسكرياً يتجاوز موازين القوة العسكرية والسياسية المعروفة. وهذا ما حدث بالفعل.

وهو "حدث كاشف" بمعنى أنه كشف عن حجم الرهانات الأميركية في سوريا، وأن أميركا تَعدُّ لوجود مديد، وتهيئ لكيانية في منطقة الجزيرة السورية، وأن السبيل لـ"إخراجها" وتفكيك خططها ورهاناتها، لا يكون بالمساومة والمهادنة، بل بالمقاومة والتمسك بالحقوق وببداهة أن شعوب المنطقة على حق، وأن قوة أميركا وتحالفاتها، لن تجعل وجودها في سوريا والمنطقة شرعياً أو مقبولاً. 

ثالثاً- في انتظار سليماني!

 قام الجنرال قاسم سليماني بزيارة روسيا في 24 تموز/يوليو 2015، والتقى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وفتح أمامه خرائط سوريا والمنطقة، شارحاً مصادر التهديد الماثلة والثقيلة عليها، وانطلاقاً منها على مصالح إيران وروسيا في النظام العالمي، وعارضاً البدائل الممكنة، وأنماط الشراكة الممكنة أو التعاون الأمني والاستراتيجي بين إيران وروسيا في الأزمة السورية وضرورة الاستجابة الفعالة حيالها. بعدها بأيام بدأ الروس عملاً عسكرياً مباشراً في الحرب السورية.

 ثمة ما يجب التدقيق فيه، ذلك أن لقاء الجنرال سليماني الرئيس بوتين، والذي مثل "نقطة تَحَوُّل" في مسار الحرب في سوريا والإقليم، لم يكن أول ما قام به، فقد كان –كما تتكرر الإشارة-أحد أهم فواعل العلاقات بين سوريا وإيران ودعائمها، بل العلاقات على مستوى "خط المقاومة". وتحدث السيد حسن نصر الله عن دور مباشر لسليماني خلال حرب تموز/يوليو 2006 بين حزب الله وإسرائيل. وكان يُنظر إلى سليماني بوصفه القائد العسكري، العملياتي والاستراتيجي، لـ"حلف المقاومة" ولـ "غرفة عمليات حلفاء سوريا"، حسب التعبير الدارج في الخطاب السياسي والإعلامي. 

 ومما يجب التدقيق فيه أيضاً، هو أن دعم إيران وحزب الله لدمشق، كان من العوامل الرئيسة لصمودها في الحرب، في وقت احتدام الرهانات الإقليمية والدولية ضدها. ومثَّلَ ذلك دافعية قوية لـ"ترجيح" كفة التقديرات الروسية القائلة بضرورة التدخل وإلحاحه وأولويته لمصالح روسيا، والتراجع النسبي للتقديرات القائلة بعدم الدخول في مواجهة "خطرة" مع الغرب في سوريا، كما لو أن روسيا، كانت "بانتظار سليماني"، حتى تحسم "ترددها" بشأن الدعم العسكري المباشر لسوريا في الحرب.

 وهكذا، كان من الصعب تصور "الكيفية" أو "الدرجة الممكنة" للتدخل العسكري الروسي في الأزمة السورية، بمعزل عن دور إيران وحزب الله. وحدث نوع من التقسيم العملياتي والاستراتيجي للجهد العسكري، إذ بدت القوات الروسية كما لو أنها "قوات جوية" لـ إيران وحزب الله وسوريا، وبدت القوات الإيرانية وقوات الحزب هي قوات السيطرة على الأرض. 

هذا تشبيه أقرب لواقع الحال، وخاصة في السنوات الأولى للتدخل الروسي في سوريا، لكنه لا يصلح كثيراً لإطلاق تعميمات طويلة المدى، ذلك أن الرهانات بين إيران وروسيا "غير متطابقة"، لكنها ليست منفصلة بالتمام، إذ ثمة تقاطعات وتداخلات أقوى مما تظهره التقديرات والمتابعات التي تتحدث عن "افتراق" أو "تناقض" بينهما في سوريا.

رابعاً- أُسُّ الجهاد 

رأى الجنرال سليماني أن العمل ضد الهيمنة الأميركية في المنطقة، هو "أُسّ الجهاد"، وخاصة في سياق إقليمي متوتر ومخترق، ويقع تحت تأثير سياسات ومنظومات قيم غربية أو موالية للغرب. وأن الأصل في "حلف المقاومة" هو أن يعيش أطرافُهُ أشياء معاً، وأن يرغبوا في بناء أشياء معاً. وأهم تلك "الأشياء" هو أن يكونوا في "خندق واحد" في سوريا، يعيشون ظروف الحرب، ويخوضون معارك ومواجهات، ويحققون أهدافاً، ويرغبون في تحرير البلاد من الإرهاب والتدخلات الخارجية، ويتطلعون إلى ما هو أبعد من ذلك، في أفق "تحالف مكين". 

ولم يكن سليماني –من هذا المنظور-مجرد قائد مكلف بإدارة جهد سياسي وعسكري في سوريا والإقليم، بل كان مؤمناً بما يقوم به، بوصفه جهداً رسالياً وإيمانياً، يمثل "روح المقاومة"، ويعدّ استجابة تاريخية لشعوب المنطقة حيال قوى الهيمنة العالمية، وحيال قوى التبعية والهزيمة. وأول ما يجب أن تقوم به شعوب المنطقة هو أن تتولى أمورها بأيديها، وتكسر حالة الخوف والانكسار أمام الغرب و"إسرائيل" ونظم الحكم التسلطية.

وهكذا، كان حضور الرجل في جبهات الصراع صادراً عن "وعي مكين" أيضاً بالقدرة على الفعل الهادف لتغيير الواقع السياسي في المنطقة، و"تصحيح" الاختلال أو التفاوت في ميزان المعنى والقوة مع الغرب وحلفائه في الإقليم، و"القطع" مع لحظة الانكسار والهزيمة. وقد حاول سليماني أن يجسد تلك القيم في كل المواقع التي حضر فيها.

خامساً- في استشهاد سليماني

إن الصراع بين الولايات المتحدة وإيران قديم، ومنذ انتصار الثورة الإسلامية في إيران عام 1979 بدأت سردية متواصلة أو شبه دائمة من المواجهة. وأما الحرب السورية فقد مثلت ذروة أخرى من ذروات الصراع بين الطرفين، اللذين تواجها في سوريا، وخاضا –بهذا المعنى- حرباً لا هوادة فيها. 

 تجاوزت الولايات المتحدة باستهدافها الجنرال سليماني نمط التفاعلات البينية وإيقاعها خلال عدة عقود، وهذا إيذان بالتحوّل من المواجهة غير المباشرة، وأحياناً "الاحتكاك المنضبط"، إلى "مواجهة حادة وعميقة"، سوف تكون لها تداعيات كبيرة على الصعيد الثنائي والإقليمي والدولي.

 يقوم الاستهداف على تقدير أميركي بأن ديناميات الحصار والتفكيك والاختراق، وما يُعرف بـ"الحرب الهجينة"، حيال إيران لم تحقق النتائج المطلوبة، بما في ذلك محاولات الاختراق الداخلي وتأليب الناس بالحصار والضغوط الاقتصادية والتغلغل السياسي والثقافي والتأثير الإعلامي، ومثل ذلك بالنسبة إلى محاولات الاختراق الإقليمي الرامية لـ "احتواء" و"تفكيك" حلف المقاومة، و"كسر حلقاته"، بدءاً من لبنان وصولاً إلى العراق وسوريا.

 وهكذا، رأت الولايات المتحدة ضرورة كسر حالة الجمود (بل وقف حالة التراجع) الحاصلة في سياساتها، ذلك أن الولايات المتحدة لم تنتصر في أي حرب خاضتها ضد "المقاومة"، ولا مبالغة في ذلك، وها هي الحرب السورية مثال واضح على ذلك، إذ إن دور إيران فيها واضح، كما أن الاحتجاجات في لبنان والعراق وغيرهما –وهي ليست محض مؤامرة- لم تصل إلى النهايات المأمولة أميركياً حيال وضعية إيران وحلفائها في البلدين المذكورين. 

 مَثَّلَ استهدافُ الجنرال سليماني محاولة لـ"تفكيك" ذلك "الجمود" و"الانحباس" في حالة أميركا في الإقليم، وإيقاف التراجع في وضعيتها فيه، كما سبقت الإشارة، وتحقيق مزيد من الطمأنينة لـ"إسرائيل" والحلفاء الآخرين، أمام التقدم الإيراني والروسي والصيني المتزايد في الإقليم (والعالم).

 أرادت الولايات المتحدة "ردع" إيران عن التطلع لتحالفات ذات طابع دولي. وكانت الاتفاقات الاستراتيجية والمناورات البحرية المشتركة مع روسيا والصين، مؤشراً سلبياً للولايات المتحدة. وبالتالي، فقد كان المطلوب –أميركياً- ردع حلف المقاومة عن تبني سياسات أكثر إقداماً حيالها هي نفسها في العراق وسوريا ولبنان.

 حاولت الولايات المتحدة استباق الخطط والتكتيكات التي قالت إن الجنرال سليماني كان يعدّ لها مع "الحشد الشعبي" من أجل إخراجها من العراق، وكذلك خطط وتكتيكات مماثلة مع عشائر وفواعل مقاومة لإخراج أميركا من منطقة "شرق الفرات" في سوريا. 

 وأرادت الولايات المتحدة اختبار إلى أي حد أثرت العقوبات والحصار والاضطرابات في إرادة إيران وقدرتها على حشد مزيد من الموارد المادية والمعنوية في "خط المقاومة" ومناهضة السياسات الأميركية في المنطقة، وما هي العتبة الحدية الدنيا والقصوى، إن أمكن التعبير، التي يمكن لإيران أن تتحملها في حالة استهداف أميركي مباشر ومن وزن استهداف الجنرال سليماني، وهذه مسألة تكفلت التطورات بإيضاحها. 

 هذا يعني العمل على استدراج إيران أو استفزازها، بافتراض أميركي –متعجل وغير واقعي- أنها لن تتحمل الحدث، أو أن "التكيف معه" ليس ممكناً أو مقبولاً، كما أنها –من هذا المنظور- ليست في وضع مناسب للدخول في مواجهة عسكرية مباشرة ومفتوحة، باعتبار ظروف الحصار والضغوط العالمية، وباعتبار التكلفة الكبيرة لأي مواجهة محتملة، والضغوط الداخلية والتحديات في سوريا ولبنان والعراق واليمن إلخ، وهذا افتراض أميركي غير دقيق، إذ لم يتأخر الرد، الذي تمثل بضربات صاروخية على قوات أميركية في قاعدة "عين أسد" في العراق. 

سادساً- في خطط سليماني

 وباعتبار أن سوريا وإيران، حتى وقت قريب، لم تتحدثا كثيراً في تفاصيل العمل والجهد العسكري والأمني للجنرال سليماني في الحرب، فقد أخذ الإسرائيليون والأميركيون وحلفاؤهم المهمة أو جانباً منها، وأكثر من يتقن الحديث عن دور سليماني هم الإسرائيليون! لماذا؟ 

 لأن الإسرائيليين يعرفون ماذا فعل، وكيف أنه كان –من منظورهم- القائد العسكري والجهادي لـ "حلف المقاومة"، تَنَقَّلَ بين ساحات الحرب في الإقليم، وأما الساحات التي لم يذهب إليها مباشرة، فقد كانت آثاره حاضرة فيها: فلسطين، اليمن. ويتحدث الإسرائيليون عن ساحات أخرى، أفغانستان، فضلاً عن المواجهات الاستخبارية والاستراتيجية في غير مكان من الإقليم والعالم

ربما كان سليماني خطط لإخراج الأميركي من العراق، كما يقول الأميركيون[xiv]، وهذا أمر مفهوم ومتوقع منه، لكنه فعل أكثر من ذلك، والأهم دوره في جبهات المواجهة والاحتكاك مع الغرب وحلفائه في الإقليم، وخاصة المواجهة في سوريا، وأنه قاد عمليات الحرب ضد "داعش". وتحدث السيد نصر الله عن ذلك في حوار مع رئيس مجلس إدارة شبكة "الميادين" فقال: 

"جريمة إيران أن الحاج قاسم سليماني والحرس والإخوة في إيران جاؤوا إلى العراق وساعدوا العراقيين لمنع تمدّد "داعش"، التنظيم الإرهابي الذي كان على بُعد كيلومترات من بغداد، وكثير من الناس كانوا قد أصبحوا في البصرة. يوجد مشروع هائل لتدمير المنطقة والسيطرة عليها وإحداث تغييرات هائلة فيها، جاؤوا وساعدوا أصدقاءهم وحلفاءهم".

ومعلوم أن اندفاعة "داعش" السابقة في العراق كانت جزءاً من رهانات أميركية عميقة في المنطقة، كما أنها (أميركا) لم تسعد بدور سليماني و"المقاومة العراقية" في مواجهة "داعش"، ودوره في "إحباط" مشروع الانفصال الكردي في شمال العراق، و"ضبطه" مزاج التظاهرات في العراق أو على الأقل "ضبط" محاولات توجيهها ضد إيران، مُجهِضَاً ما حاولت الولايات المتحدة الدفع في اتجاهه؟ هذا سبب كاف لعداء مكين ومعضلة "غير قابلة للحل" بالنسبة إلى أميركا.

سابعاً- خط سليماني

 تعلم إيران الأسباب التي دفعت الولايات المتحدة إلى استهداف الجنرال سليماني، صحيح قول الرئيس دونالد ترامب إن "سليماني أسقط آلاف الأميركيين بين قتيل وجريح على مدى فترة طويلة"،لكن الصحيح أيضاً أنه تسبب بـ"إسقاط" أو "احتواء" رهانات أميركية كثيرة في إيران وسوريا والعراق ولبنان وغيرها، وأن استهدافه هو محاولة لاستهداف فكرتها ومنطقها وخطها وليس فقط أحد قادتها. 

 الاستجابة الرئيسة هي في استمرار الخط، أي مواصلة تلك "الأسباب" التي جعلت أميركا تستهدف الرجل. وقد تضمن كتاب تعيين خلفه الجنرال إسماعيل قاآني قائداً لـ"قوة القدس" أن "برنامج عمل تلك القوة هو البرنامج نفسه الذي كان في فترة قيادة الشهيد سليماني"، هذا عن الرد أو الاستجابة العميقة والمديدة الخاصة بـ"قوة القدس". 

 وفي خط الرد أو الاستجابة المديدة أيضاً، إعادة قراءة الموقف ومصادر التهديد-الفرصة في الإقليم (والعالم)، وإعادة قراءة مركزة ومعمقة للموقف في مجتمعات "حلف المقاومة" ودوله وفواعله، التي تشهد منذ بعض الوقت توترات واحتجاجات على الصعيد الداخلي، وتجاذبات متزايدة حول السياسة والدولة إلخ، بتأثير عوامل تأزم في الداخل، وعوامل تغلغل من الخارج وكما هي الحال في العراق، ولبنان، وسوريا، وكذلك فلسطين أو عدد من الفصائل الفلسطينية. وما يحدث غير بعيد عن ديناميات "الحرب الهجينة" التي يتبعها الغرب ضد خصومه، وخاصة في غرب آسيا ومنطقة الشرق الأوسط، مستفيداً من فجوات واختلالات تجعل تدخله وتأثيره ممكنيْن. 

ثامناً- الإشارات والتنبيهات 

ويمكن التركيز هنا –وهذا مجرد تقدير أو تحليل-على النقاط الرئيسة الآتية: 

- ستواصل إيران دورها في سوريا، وتعد أي جهد تقوم به لتعزيز سلطة الدولة ونظام الرئيس بشار الأسد فعلاً مناهضاً ومقاوماً لأميركا و"إسرائيل"، ودفاعاً عن "خط المقاومة" و"شرعية الثورة الإسلامية"، و"التزاماً برسالتها". 

- تركز استراتيجية إيران في الإقليم، على "تدبير" مصادر التهديد-الفرصة، وقراءة التحولات في ميزان المعنى والقوة في النظام العالمي، بالإضافة إلى تركيز مزيد من الجهود لـ"احتواء" مصادر تهديد متزايدة على المستوى الداخلي: القيمي والثقافي والاجتماعي والاقتصادي، ما يظهر في مجتمعات "خط المقاومة" ودوله. 

- المحافظة على "ميزان دقيق" للعلاقات والتفاعلات بين إيران وكل من سوريا والعراق ولبنان وغيرها، و"احتواء" أو "تدبير" أي عوامل اختلال قائمة أو محتملة قد تؤثر فيها. مع الأخذ بالاعتبار أن ديناميات الصراع في سوريا والإقليم مستمرة، ولا أفق لحل أو تسوية في الظروف الراهنة.

- تمثل الأزمة السورية "خط صدع" رئيساً في السياسات الإقليمية (والدولية)، وهذا يجعل الرهانات أكثر تعقيداً، وخاصة مع حالة الإجهاد السياسي والاقتصادي والاجتماعي والقيمي، والتغلغل الخارجي متعدد الأنماط والأشكال في سوريا والإقليم.

- "تدبير" الموقف بين إيران وتركيا، بكيفية تحتوي مدارك التهديد المتزايدة لدى شريحة من السوريين حيال ذلك، ولو أن العلاقات بين إيران وتركيا كان لها منعكس إيجابي في مسارات الحرب السورية، وخاصة في إطار "عملية أستانة". 

- تعميق السياسات التحالفية وتعزيزها، وخاصة مع روسيا والصين، وأي فواعل أخرى مناهضة للهيمنة الأميركية. وكانت المناورات المشتركة مع روسيا والصين رسالة ذات دلالة للأميركي، والدعم العسكري والتقني لروسيا في مواجهة الغرب، مؤشراً ذا دلالة بهذا الخصوص، ولو أن حجم التحديات ومصادر التهديد تتطلب من الأطراف المذكورة استجابة أكثر حيوية وقوة. 

- اتباع دبلوماسية نشطة حيال اتجاهات الرأي العام العالمي، صحيح أن ثمة فارقاً كبيراً في القدرات والإمكانات على هذا الصعيد، لكن لدى إيران قدرات مهمة بهذا الخصوص، مستفيدة من تزايد الأصوات والفواعل المتضررة من السياسات الأميركية حول العالم.

خاتمة

 ما يجري في سوريا والإقليم، وخاصة بين إيران والولايات المتحدة، هو حرب (قل حروباً) مركبة ومتعددة الوسائط والجبهات والأنماط، لم تهدأ لحظة واحدة خلال عدة عقود. ويعلم الإيرانيون والأميركيون أن مشروعيهما ورؤيتيهما للإقليم والعالم متناقضتان إلى حد من الصعب أن يصلا إلى "نقطة توازن" قابلة للاستقرار أو الاستمرار، وهذا ما يجعل المواجهة بينهما تسلك كل الطرق الممكنة.

 مثَّلَ الجنرال سليماني ظاهرة إقليمية ودولية، وكما كانت حياته مساراً مستمراً من العمل في "خط المقاومة" والصراع مع أميركا و"إسرائيل" وحلفائهما في المنطقة، فإن استشهاده يمثل –من هذا المنظور-" نقطة تحوّل"، ليس بمعنى التراجع أو الانقطاع، وإنما بمعنى التقدم والاستمرار. إذ إن المقاومة بداهة إنسانية وتاريخية، ومن الطبيعي أن تظهر حيث تكون الهيمنة والاستبداد، وفي مواجهتهما. وسوف تستمر حركيته واندفاعات "مدرسته الجهادية" في الإقليم وفي غير مكان من العالم.