بين التحرّش وحوادث الطرق.. واقع مؤلم لعاملات الزراعة في مصر

تكشف شهادات العاملات الزراعيات في مصر عن واقع قاسٍ يجمع بين الفقر، وغياب الحماية القانونية، والمخاطر اليومية من حوادث الطرق والتحرّش، في ظل أجور زهيدة ومسؤوليات أسرية ثقيلة.

  • بين التحرّش وحوادث الطرق.. واقع مؤلم لعاملات الزراعة في مصر
    بين التحرّش وحوادث الطرق.. واقع مؤلم لعاملات الزراعة في مصر

في الخامسة فجر كل يوم، تستيقظ غادة محمود، إحدى العاملات في مزارع حصاد العنب، لتبدأ رحلة شاقة عنوانها المعاناة والألم. تستقلّ عربة نقل متهالكة مع رفيقاتها من فتيات ونساء قريتها، لتقطع مسافة تقارب 20 كيلومتراً، وتعود أدراجها قبيل غروب الشمس لتكمل أعمالها المنزلية وإعالة زوجها المريض.   

حكايات الصبر والألم

غادة محمود، أم لخمسة أطفال، تسكن إحدى قرى محافظة البحيرة شمال مصر، وهي المعيل الوحيد لأسرتها بعد إصابة زوجها بمرض الكبد الذي أقعده عن العمل منذ سنوات. تقول لـلميادين نت: "نستيقظ قبل الفجر، ونركب مع العاملات سيارة مكتظة بالنساء والفتيات والشبان لنصل إلى المزارع التي نعمل بها تحت أشعة الشمس الحارقة لمدة عشر ساعات، لنحصل على 120 جنيهاً (نحو 2.5 دولار). هذا المبلغ بالكاد يكفي لشراء الخبز والأساسيات لأسرتي".

زينب سيد، امرأة في الأربعينيات من عمرها، تعمل في مزارع الفاكهة منذ أكثر من 15 عاماً. لتحسين الظروف الاجتماعية والاقتصادية لأسرتها، لجأت بعد إصابتها بأمراض الكلى إلى اصطحاب ابنتها فاطمة، ذات العشرة أعوام، للعمل ومساعدتها في إعالة الأسرة.

تتعرض هي وزميلاتها لمخاطر جسدية ونفسية وصحية جسيمة، تتمثل في حوادث الطرق بسبب نقلهن بشاحنات متهالكة، وبعض حالات التحرش والعنف، مقابل أجر يومي زهيد وبدون أي تأمين أو حماية قانونية، وفق حديثها.

وبعد يوم شاق، تعود زينب إلى منزلها لتحضير الطعام لزوجها وأولادها والقيام بأعمالها المنزلية، بينما تحاول سرقة بضع ساعات من النوم، لتستيقظ مرة أخرى لرحلتها اليومية فجر كل يوم.

وبحسب تقرير الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في القاهرة لعام 2023، هناك 4.4 مليون أسرة تعولها امرأة، بينما تشكل النساء 45% من القوى العاملة في الزراعة، وفقاً للبنك الدولي 2022.

وتعاني النساء العاملات في الزراعة في مصر من مخاطر الانتقال إلى مكان العمل، وغياب التأمين، وحوادث الطرق. ففي حادث أليم هز الطريق الإقليمي في دلتا مصر، شيع أهالي إحدى قرى محافظة المنوفية، في 28 حزيران/يونيو الماضي، 19 فتاة وشاباً من أبناء البلدة، بعد أن لقوا مصرعهم في حادث مروري مروع أثناء توجههم للعمل في جني العنب لمساعدة أسرهم. وسجل الفترة من تموز/يوليو 2024 حتى حزيران/يونيو 2025 نحو 248 ضحية من العاملات والعمال، وفق المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية.

تحرش وأجور زهيدة

تقاسيم التعب والإرهاق التي صبغت وجه فاطمة زهران، كخيوط سوداء على وجهها المستدير ناصع البياض، كافية لتُخفي وراءها كارثة من الصعوبات التي تعيشها هذه السيدة وهي بسن الثلاثين، التي تعمل في إحدى مزارع المانجو. دفعتها ظروفها الاجتماعية الصعبة إلى الزواج مبكراً لتنجب طفلاً يبلغ 12 عاماً وابنة تبلغ 9 أعوام، قبل أن يتوفى زوجها قبل عشر سنوات.

تركت فاطمة التعليم في المرحلة الإعدادية، ثم تزوّجت، وبعد سنوات أصيب زوجها، الذي كان يعمل أيضاً في الفلاحة، بحادث سير أثناء رحلة عمل في المزارع أدى إلى وفاته. وبرغم غياب فرص العمل، كانت الزراعة خيارها الوحيد لإعالة طفليها والإنفاق على تعليمهما.

رحلة فاطمة وزميلاتها في العمل مليئة بالصعاب، سواء الأجر الزهيد، أو التعرض لضربات الشمس، أو المبيدات القاتلة، فضلاً عن إجبارهن على العمل لساعات طويلة بدون استراحة، والتحرش الذي تتعرض له وبعض زميلاتها من مقاولي الأنفار أو أصحاب المزارع. تقول لـلميادين نت: "تعرضت للتحرّش من أحد المشرفين على العمال، ولم أستطع الشكوى خشية فقدان عملي، فأنا أحتاج إلى المال لإعالة ابنتي".

تقول منى عزت، رئيسة مجلس أمناء مؤسسة "النون"، لـلميادين نت: "نقل العاملات في شاحنات غير آمنة يعود إلى غياب الرقابة الحكومية على وسائل النقل الخاصة بالعمال الزراعيين". وتشدد على ضرورة إنشاء مكاتب محلية لتسجيل العمال الموسميين ومراقبة وسائل نقلهم لضمان السلامة.

وتشير دراسة أجراها المجلس القومي للمرأة في مصر إلى أن العاملات في الزراعة يتعرضن لأشكال مختلفة من العنف، بدءاً من التوبيخ بألفاظ نابية وصولاً إلى التحرش والاعتداءات الجنسية، حيث تفتقر العاملات إلى الحماية القانونية والاجتماعية.

حقوق ضائعة وخطر الموت

خديجة الفاوي، فتاة في الثامنة عشرة من عمرها، كانت إحدى ضحايا حادث مروع في حزيران/يونيو 2022 في ترعة النوبارية بمحافظة البحيرة شمال مصر. استقلّت سيارة متهالكة مع 15 عاملة زراعية، وبسبب خلل في عجلة القيادة، وقع حادث سير انقلبت فيه العربة بالترعة، ما أدى إلى وفاة فتاتين وإصابة البقية، بينهن خديجة التي ارتطم عمودها الفقري بحجر إثر التصادم. نجت بأعجوبة من الموت، لكن الحادث تسبب في إصابة بليغة في ظهرها أقعدها عن العمل لفترة طويلة.

ولقساوة الحياة، تضطر خديجة للعمل في إحدى شركات تجفيف الفاكهة. تقول لـلميادين نت: "أحاول مساعدة أهلي والإنفاق على علاجي. تحسنت حالتي بعض الشيء، فعدت إلى العمل، وأحاول بالاتفاق مع وسيط الأنفار وبمساعدة زملائي القيام بأعمال خفيفة، فأنا مجبرة على العمل برغم ظروفي الصحية لمساعدة والدي، في وقت نشاهد الموت كل يوم بسبب وسائل النقل غير الآدمية والطرق غير الآمنة".

وتعليقاً على القضية، يقول أحمد عبد الله، أستاذ علم الاجتماع بجامعة المنصورة إنّ "العاملات الزراعيات غالباً ما يكنّ معيلات لأسرهن، مما يجبرهن على قبول العمل في ظروف غير إنسانية".

ووفق دراسة بعنوان "العاملات الزراعيات، حقوق ضائعة" للباحثة منى عزت، تتعرض العاملات الزراعيات لأنواع مختلفة من العنف والمخاطر أثناء عملهن، إذ لا تتوفر لهن وسائل نقل آمنة، ما يعرضهن لخطر الموت أو الإصابة التي تسبب العجز أو الوفاة، كما تتعرض الكثيرات للتحرش.

الفقر واستغلال مقاولي الأنفار

يدفع الفقر والظروف الاقتصادية الصعبة الريفيات إلى العمل في الزراعة برغم استغلال مقاولي الأنفار، مما يؤدي إلى تعرض الفئات الأضعف، سواء النساء أو الأطفال، للاستغلال والقبول بأجور متدنية مقارنة بالرجال.

يتضح ذلك في حكاية نبوية إسماعيل، السيدة الخمسينية التي تعمل في حصاد القمح والذرة أو مزارع الفاكهة منذ كانت في العشرين من عمرها، لمدة 8 إلى 10 ساعات يومياً تحت الشمس الحارقة، وتتقاضى 130 جنيهاً (أقل من 3 دولارات).

نبوية، من إحدى قرى محافظة المنيا بصعيد مصر، تقول لـلميادين نت: "إصابة زوجي بمرض مزمن جعلتني المعيلة الوحيدة لأسرتي المكوّنة من خمسة أفراد. لا يوجد أعمال أخرى في القرية، ورفض العمل يعني أنني لن أجد قوت أولادي الخمسة. ما يجبرني على مواصلة العمل برغم الأجر الضئيل هو غياب الفرص الأخرى ومسؤولياتي الأسرية".

تعاني نبوية من تحديات صحية بسبب العمل الشاق، مثل آلام الظهر والمفاصل، بدون أي تأمين صحي أو علاج، لكنها مجبرة على العمل لعدم وجود معيل آخر لأسرتها، فأطفالها صغار ولا يوجد من يساعدها، وهي لا تجيد مهنة أخرى.

أما شيماء طه (28 عاماً)، من القرية نفسها، فقد أجبرتها الظروف على العمل في الفلاحة ومزارع الفاكهة، مثل جني العنب والبرتقال. تقول لـلميادين نت: "والدي توفي منذ أربعة أعوام، وبعد طلاقي، أصبحت أنا من ينفق على إخوتي. لو لم أعمل، لن نجد من ينفق على أسرتي، فالفقر المدقع يجبرني على العمل".

برغم المخاطر الصحية التي تعاني منها في إثر إصابتها بمرض الغضروف العنقي بسبب حمل الأشياء الثقيلة، تعمل شيماء في مزارع الفاكهة، سواء في جني الثمار أو حمل أقفاص وكراتين الفاكهة لتحميلها على شاحنات النقل. وتشير إلى أنها، بعد طلاقها، أصبحت المعيلة الوحيدة لنجلها البالغ من العمر 10 سنوات وإخوتها الأربعة الصغار وأمها.

وتجاهل قانون العمل المصري رقم 12 لسنة 2003 النساء العاملات في الزراعة من فصله المتعلق بتشغيل النساء، إذ تنصّ المادة رقم 97 منه على أنّ "العاملات في الزراعة البحتة يستثنين من تطبيق أحكام هذا الفصل".

ورأت نهال السيد، الباحثة في دراسات النوع الاجتماعي، أنّ استثناء العاملات الزراعيات من قانون العمل يعكس ظلماً صريحاً، حيث يتم استغلالهن من قبل الأزواج أو الوسطاء، مما يعزّز الفجوة في الأجور بين الجنسين. ويعتبر أن طبيعة عمل المرأة في الريف تأتي على سبيل المساعدة للرجل في الزراعة، وهو ما يعد إجحافاً بحق الريفيات.

اخترنا لك