لماذا يعمل بعض الموظفين كأنّ المؤسسة ملكهم؟

ما الذي يدفع الموظف لأخذ زمام المبادرة من تلقاء نفسه؟ وما الذي يجعل فرداً في شركة ناشئة يبقى ساعات إضافية بعد دوامه، لا لأنّ أحدًا طلب منه ذلك أو محاباةً لمديره، بل لأنه يرى في أفكاره وأعماله امتدادًا لقيمه الشخصية وطموحه المهني؟

0:00
  • لماذا يعمل بعض الموظفين كأنّ المؤسسة ملكهم؟
    لماذا يعمل بعض الموظفين كأنّ المؤسسة ملكهم؟

في عام 2001، كان المهندس بول بوكيه يعمل داخل شركة "غوغل"، كموظفٍ عادي، لا كمدير ولا كشريك. ومن تلقاء نفسه، بدأ بتطوير نموذج أوّلي لخدمة بريد إلكتروني جديدة، مستغلًا ما كانت تقدمه "غوغل" من سياسة 20% من وقتك لأفكارك الخاصة، وهي مساحة مرنة تتيح للموظفين العمل على أفكار خلاّقة ومشاريع إبداعية.

برغم تشكيك بعض زملائه، لاقت فكرته اهتمامًا إدارياً، وتحوّلت تدريجيًا إلى مشروع رسمي. وبعد سنوات قليلة، وُلد منتج "Gmail" أحد أنجح خدمات البريد الإلكتروني في العالم.

هذه القصة ليست فقط عن فكرة ناجحة أو تجربة فريدة عابرة، بل عن ثقافة مؤسساتية تنظيمية تجعل الموظف يشعر أن صوته مسموع، وأن فكرته لها قيمة، وأنه شريك حقيقي في بناء مستقبل المؤسسة.

فما الذي يدفع الموظف لأخذ زمام المبادرة من تلقاء نفسه؟ وما الذي يجعل فرداً في شركة ناشئة يبقى ساعات إضافية بعد دوامه، لا لأنّ أحدًا طلب منه ذلك أو محاباةً لمديره، بل لأنه يرى في أفكاره وأعماله امتدادًا لقيمه الشخصية وطموحه المهني؟

الجواب ليس في الرواتب، ولا في المسميات، بل في ذلك الإحساس الداخلي العميق: "أنا مُقدَّر. أنا مسموع. أنا مُهمّ". 

في كتابه الشهير "Drive: The Surprising Truth About What Motivates Us"، يؤكد الكاتب دانيال بينك أن ما يحفّز البشر في العمل ليس المال وحده، بل ثلاثة عناصر: 

- الاستقلالية: أن يملك حرية القرار نسبياً.

- الإتقان: أن يطوّر من نفسه ويشعر بالتقدم.

- الهدف: أن يكون لما يفعله معنى يتجاوز حدود الراتب.

كلما شعر الموظف بأنّه يتحكم بجزء من قراراته، سيتقن مهامه، ويرى أثر عمله في الصورة الكبرى، كلما تحوّل من موظف يؤدي واجباته إلى شريك يسعى لصناعة الفرق. وهنا تكمن قوة المؤسسات الناجحة التي لا تُحفّز موظفيها بالمكافآت فقط، بل تزرع فيهم شعورًا عميقًا بالشراكة والانتماء. فالموظف لا يشتري التقدير.. لكنه حين يشعر به، يُعطي مقابله كل شيء.

كيف يشعر الموظف بأنه مُقدَّر؟ إليك أربعة عناصر ذهبية:

1 - التقدير الحقيقي -  كلمة "شكرًا" تصنع المعجزات

في المؤسسات التي تُتقن الإصغاء، لا تمرّ كلمة "شكرًا" مرور الكرام. فيعرف الموظفون أنها ليست مجاملة فارغة، ولا إجراءً شكليًا. بل هي إشعار ضمني بأن الموظف مرئي وبأن جهده مقدر من دون الحاجة إلى إحداث ضجيج حوله والإسراف بالتسويق للذات. ففي ثقافة تنظيمية كهذه، يصبح الامتنان الصادق أغنى من أي حوافز مادية. وهذا ما تؤكده تقارير"Gallup"بأن الموظفين الذين يشعرون بالتقدير يزداد ارتباطهم بمؤسساتهم بنسبة قد تصل إلى 21%.  

وقد تلقّفت شركة "JetBlue" الأميركية هذا المفهوم، فعمدت إلى إشراك موظفيها في شكر بعضهم بعضاً. الأمر الذي أسهم في خفض معدل الاستقالات بنسبة 3%. في المؤسسات التي تؤمن بالاعتراف، لا ينتظر الموظف التوجيه. هو ينهض من تلقاء نفسه، لا ليُرضي مديرًا، بل لأنه يشعر أنه ينتمي.

2 - فرص النمو – عندما يرى الموظف مستقبله أمامه 

في بعض المؤسسات، لا يُمنح الموظف فرصة ليطوّر نفسه، بل يُطالَب بأن ينفّذ الدور المنوط به حصراً، وأن يمشي على الخط المرسوم، من دون انحراف، من دون اجتهاد، من دون أن يسأل: "إلى أين؟" أو "ما الهدف المرجوّ؟". لكن في مؤسسات أخرى، يُسمح للإنسان أن يُخطئ، وأن يتعلّم، وأن يجرّب من دون خوف، وأن يرى في كل تجربة نافذة مفتوحة على ما يمكن أن يصبح عليه، لا ما يُطلب منه أن يكون.

في شركة بيكسار، تُشجَّع الفرق على إبداء الملاحظات النقدية، ولا يُسمح بالتعامل معها كتهديد. بل تُعتبر هذه الملاحظات جزءًا من صناعة الإبداع، وأداة لتنضيج الأفكار على مهل، حتى لو تعثّرت في البداية. وكما يقول إد كاتمول، الرئيس السابق للشركة: "الفشل ليس عيبًا يُخفى، بل مادة أوليّة للتعلّم". أما في شركة "لينكدإن"، فيجري تشجيع الموظفين على التجربة، ويُحتضن الفشل كخطوة أولى على طريق النجاح. فيقول أحد مديريها: "لا أحد يُحاسَب على الجرأة، بل يُسأل: ماذا تعلّمت؟".

وهكذا، يتحوّل الخطأ من عبء إلى أداة، ومن مصدر قلق إلى سببٍ للنمو. ومن خلال ذلك تصبح المؤسسة مساحة آمنة للتطوّر، وللانفتاح، وللتعلّم من التجربة والخطأ. وتتحول إلى بيئة يُنظر فيها إلى النمو على أنه حق لا ترف، وإلى الخطأ على أنه فرصة لا جريمة. وفي مثل هذه المؤسسات، لا ينتظر الموظف تقييمًا سنويًا ليعرف إن كان على المسار الصحيح لأنه يراه كل يوم، في نفسه، وفي من حوله.

3 - الإحساس بالهدف – حتى عامل النظافة يمكن أن ينقذ حياة

في بعض المؤسسات، يعمل الناس وكأنهم يؤدّون دورًا صامتًا في مسرحية لا يعرفون نهايتها. يفعلون ما يُطلب منهم، لكن من دون أن يشعروا أن ما يفعلونه يترك أثرًا، أو أن وجودهم يرتبط بسبب يتجاوز الراتب. لكن في مؤسسات أخرى، يصبح العمل امتدادًا لفكرة أوسع. فالموظف ليس مجرد آلة، بل هو شريك في الرسالة.

تقوم فلسفة العمل في مستشفى Cleveland Clinic على أن "كل موظف، مهما كان دوره، يسهم في تحسين حياة المرضى". فلا تُختزل مهمة الشفاء في يد الطبيب وحده. والثقافة نفسها تعتمدها مستشفى Johns Hopkins حيث سأل مرةً أحد الزوار عامل نظافة عما يفعله في المستشفى، فأجاب بهدوء وثقة: "أنا أساعد على إنقاذ الأرواح".

في هذا النوع من المؤسسات، لا يكون الهدف حكرًا على الإدارة العليا. بل يصبح شعورًا يتوزّع بالتساوي بين الجميع: من يكتب التقرير، ومن ينظف الغرفة. فالإحساس بالهدف لا يُعلَن في الشعارات، إنما يُبنى في التفاصيل: في طريقة مخاطبة العامل، وفي تفسير جدوى العمل، وفي إشراك الموظف في الصورة الأوسع ليشعر أن ما يفعله يخدم غاية أوسع من المهام اليومية،  فتنتفي الحاجة إلى من يراقب الموظف ومن يحمّسه، لأنه ببساطة، يعرف دوره وهدفه وأثره الكلي.  

4 - الثقة والاحترام – لأن الكرامة لا تُمنح بل تُبنى

في تجربة روَتها "Kim Scott" في كتابها "Radical Candor"، تروي كيف أن مديرها السابق في Google سألها سؤالًا بسيطًا بعد عرض تقديمي: "هل تظنين أنك أوصلتِ فكرتك جيدًا؟"، بهذا السؤال، منحها مساحة للتقييم الذاتي، وأشعرها بأنه يثق بها كمحترفة، لا كموظفة تُقاد بالأوامر. فالثقة تولّد الاحترام، والاحترام يغذّي الولاء.

أن يبقى الموظف في عمله أمرٌ عادي تقوم به المؤسسات عامةً. لكن أن يتطور داخله، ويمنحه الموظف من وقته ومن روحه، فهو ما تصنعه فقط المؤسسات العظيمة التي تدرك أن الولاء لا يُفرض، بل يُلهم، وأن الانتماء لا يُشترى، بل يُبنى… لبنةً لبنة، عبر الاحترام، والتقدير، والشراكة الإنسانية الحقيقية.

ففي نهاية المطاف، لا أحد يعمل "كأن المؤسسة ملكه" إلا إذا شعر أنها تحترم ملكيته الداخلية، وكرامته، وصوته، وتطوره، وكفاءته، وأثره.

اخترنا لك