"تدوير قاتل".. الغزّيون يلجأون إلى لِحام البراميل في زمن العدوان والعطش
في ظل الانقطاع المتكرر للمياه وتفاقم الأزمة الاقتصادية في قطاع غزة، اضطر الفلسطينيون لترميم خزانات مياه قديمة متهالكة أو متضررة كحلّ مؤقت من أجل تخزين المياه والبقاء أحياء، وبسبب الأسعار المرتفعة للخزانات الجديدة.
-
"تدوير قاتل".. الغزّيون يلجأون إلى لِحام البراميل في زمن العدوان والعطش
في ورشة متواضعة قرب منزله المدمر جزئيًا بتل الزعتر شمال قطاع غزة، يقف الحرفي أحمد صالحة منكبًا على لحام خزانات المياه المتضررة، يمارس مهنة فرضتها الحرب، وتحولت إلى طوق نجاة لعشرات العائلات التي فقدت مأواها ومصادر رزقها خلال العدوان الإسرائيلي على القطاع.
يمسك أحمد بيده اليمنى ماكينة اللحام، تتوهج شراراتها كما لو كانت تقاتل الحديد، وبيده الأخرى مفكًا اعتاد العمل به، وينحني على البرميل المثقوب، ويبدأ بترقيعه بثبات وحذر، وكأنه يخيط جراح الحرب بيديه، ويقول للميادين نت: "الإقبال على هذه المهنة ازداد بعد عودة السكان إلى مناطقهم، حيث وجدوا خزاناتهم مدمرة أو مثقوبة بفعل القصف، ولم يعد بإمكانهم شراء أخرى جديدة بسبب الغلاء".
ويضيف صالحة: "خزان سعة 500 لتر ارتفع من 70 إلى 500 شيكل بسبب نقص المواد الناتج عن إغلاق المعابر، وهذا المبلغ غير ممكن بالنسبة للمواطن العادي، فكيف بالنازحين والعاطلين من العمل؟".
ويحرص صالحة على إصلاح البراميل بمبالغ رمزية مراعاةً للظروف القاسية، مؤكداً أن "البراميل باتت تستخدم أيضاً في الطهي وإشعال النار في ظل انعدام الغاز والكهرباء، مما يعكس حجم المأساة التي يعاني منها الناس"، مبيناً أنّه لا يعمل فقط من أجل لقمة العيش، بل ليقف إلى جانب الناس ومساعدتهم على الاستمرار.
ومنذ بداية العدوان في أكتوبر 2023 دمّرت بنية المياه في غزة، حيث استُهدِفت أكثر من 1500 منشأة مائية وتوقّفت محطة التحلية الكبرى، فيما يعتمد السكان الآن على الآبار الجوفية الملوثة، بينما تشير بيانات الأمم المتحدة إلى أن 97% من المياه غير صالحة للاستخدام، في ظل تهديد العطش للسكان المنتظرين لساعات من أجل القليل من الماء.
الترميم ضرورة للبقاء
-
العطش "يُذلّل" خطرها الصحّي.. الغزّيون يرقّعون خزانات المياه المتضررة
وفي ظل الانقطاع المتكرر للمياه وتفاقم الأزمة الاقتصادية في القطاع، اضطر الفلسطيني محمود سالم لترميم خزان قديم متهالك كحلّ مؤقت بعد أن صُدم بأسعاره المرتفعة نتيجة شُحّها في السوق.
ويشرح محمود سالم معاناته في حديثه للميادين نت، قائلاً: "دفعت تقريباً تكلفة خزان جديد لإصلاح القديم، لكن لم يكن أمامي خيارًا آخر في ظل الظروف الاقتصادية الصعبة التي نمر بها"، مؤكداً أنّ "ترميم الخزان ليس الحل المثالي، لكنه الأنسب في ظل العدوان والغلاء غير المسبوق".
بدوره، اضطر خليل الداعور لتغطية خزان المياه المتضرر بنايلون وسدّ ثقوبه بوسائل بدائية، بعدما عجز عن شراء خزان بديل بسبب ارتفاع أسعار البراميل المستعملة برغم رداءة جودتها.
ويقول للميادين نت: "لم أعد أستطيع توفير لقمة العيش، فكيف أشتري خزاناً بأسعار خيالية؟"، مؤكداً أنّ "ترميم البراميل سواء لمياه الشرب أو الاستخدام المنزلي، بات خياراً قسرياً في ظل الغلاء والضغوط المعيشية المتزايدة على كاهل المواطنين".
غازات سامة تهدد صحة الغزيين
ويواجه سكان القطاع مخاطر صحية متزايدة نتيجة للاعتماد على حلول بدائية لتخزين المياه، مثل ترقيع البراميل المعاد تدويرها، وهذه الممارسات تعرضهم للغازات السامة والملوثات التي تهدد صحتهم.
من جهته، يؤكد رئيس جمعية أصدقاء البيئة عاطف جابر، أنّ "الحصار والعدوان حرم غزة من الخزانات والمواد البديلة، فالقطاع يفتقر لعشرات الآلاف من الخزانات التي تُستخدم لنقل وتخزين المياه، ما أجبر السكان على حلول بدائية خطرة"، موضحاً أنّ "ترقيعها عشوائياً يطلق غازات سامة تؤثر على الجهاز التنفسي ويُفاقم الأزمة في ظل غياب البدائل ومنع الاستيراد".
ويحذّر جابر من مخاطر البراميل المعاد تدويرها وآثارها السلبية على صحة المواطنين، داعياً إلى تدخّل عاجل عبر رقابة بيئية، وتوفير بدائل آمنة، ودعم تدوير علمي، مع تعزيز التوعية لتفادي كارثة صحية وبيئية.
من جانبه، يحذر المختص البيئي نزار الوحيدي من المخاطر الصحية الجسيمة للمواد البلاستيكية مثل "بيسفينول أ" (BPA)، و"بولي فينيل كلورايد" (PVC)، التي تُعدّ سامة وتشكل تهديدًا خطيرًا على الصحة، وقد تتسبب في السرطان واضطرابات جينية وهرمونية.
ويصف الوحيدي في حديثه إلى الميادين نت، لحام البراميل في غزة للاستخدام المنزلي بـ"القنبلة الصحية البطيئة"، نظراً لانبعاث الغازات السامة والملوثات الناتجة عن الحرارة العالية، خصوصاً أن بعض البراميل ملوثة بفعل العدوان، مطالباً بضرورة التدخل الرقابي العاجل ورفع الوعي بمخاطر البلاستيك المعاد تدويره في تخزين المياه والأطعمة.
اللحام: مهنة هامشية تحولت إلى مصدر دخل وحلّ للأسر
وبات العديد من الفلسطينيين مضطرين للبحث عن حلول غير تقليدية لتأمين لقمة عيشهم، ومن بين هذه الحلول، ظهرت مهنة لحام البراميل، التي تحولت من عمل هامشي إلى مصدر دخل رئيسي للكثير من الأسر، برغم المخاطر الصحية والبيئية التي تصاحبها.
بدوره، يقول الخبير الاقتصادي أحمد أبو قمر، إنّ "مهنة لحام البراميل كانت بسيطة وهامشية قبل الحرب الحالية، لكنها أصبحت اليوم مصدر دخل للعديد من العائلات في ظل الانهيار الاقتصادي وارتفاع البطالة، التي تجاوزت 85% خلال العدوان"، مضيفاً أنّ "الحصار دمّر المصانع المحلية ومنع إدخال المواد الخام أو البراميل الجاهزة، ما أجبر السكان على اللجوء إلى حلول بديلة، برغم ما تحمله من مخاطر صحية وبيئية".
ويؤكد أبو قمر في حديثه للميادين نت، أنّ "هذا الواقع يعكس حجم الصمود الشعبي وقدرة الفلسطينيين على التكيف مع الظروف القاسية، برغم انعدام المقومات الأساسية للحياة".
وبرغم المآسي اليومية تحت وطأة الحصار والعدوان، يبقى صمود الفلسطينيين في غزة رمزًا لإرادة لا تقهر، ومع تزايد التحدّيات، تظل الحاجة إلى تدخل عاجل من المجتمع الدولي لضمان حقوقهم في العيش بسلام وكرامة.