"غرباء في منزل واحد".. الطلاق الصامت يهدد مئات الأسر في مصر

 يُعرف "الطلاق الصامت" بتغيّر حياة الزوجين بالطلاق العاطفي؛ وهو حالة من الانفصال النفسي والجسدي بين الزوجين من دون وقوع الطلاق الشرعي، كما تعود خطورته إلى تصاعد انتشاره بكثرة في مصر والعالم العربي.

  • "غرباء في منزل واحد".. الطلاق الصامت يهدّد مئات الأسر في مصر

في صباح يوم مشمس من أيام الشتاء الباردة، وقفت هند السيد رضوان في شرفة منزلها المطل على إحدى محطات مترو الأنفاق في القاهرة، التفتت يمنة ويسرة لتفحص وجوه المارة الذين هبطوا للتو من القطار لعلها تلمح وجه زوجها محيي الدين خليفة، المتغيّب منذ عدة أشهر عن المنزل.

غياب الزوج لم يكن بفعل قسري أو لعمل ما؛ بل لزواجه بأخرى في مسقط رأسه بمحافظة سوهاج، صعيد مصر، تاركاً خلفه هنداً و3 أطفال بعد دخول علاقتهما الزوجية نفق "الطلاق الصامت"، الذي يماثل الموت السريري للحياة الزوجية، وبات ظاهرة تهدّد استقرار أواصر مئات الأسر المصرية.

غرباء في منزل واحد 

 يُعرف "الطلاق الصامت" بتغيّر حياة الزوجين بالطلاق العاطفي؛ وهو حالة من الانفصال النفسي والجسدي بين الزوجين من دون وقوع الطلاق الشرعي، كما تعود خطورته إلى تصاعد انتشاره وسط العرب بشكل عام والمصريين خصوصاً، نظراً إلى الظروف الاقتصادية الضاغطة وانتشار وسائل التواصل التي لها بعض التداعيات الخطيرة على العلاقات الأسرية.

داخل بيت ريفي، يعيش محيي الدين رفقة زوجته الثانية التي ارتبط بها منذ ثلاث سنوات، غير عابئ بآلام ومعاناة الزوجة الأولى هند السيد رضوان التي تقول للـميادين نت إنها لا ترغب في الانفصال الفعلي عن زوجها، لأنها لا تريد تفكك أسرتها وضياع أطفالها، وإن كانت مُقرَّة أنها وزوجها مُنفصلان نفسياً، لكنها لا ترغب في أن تحظى بلقب مُطلَّقة، في مجتمع يُجيد التعامل السيّئ مع حاملات هذا اللقب، ويتفنّن في خذلانهن.

مَرَّ ما يزيد على 10 سنوات بعد زواج هند ومحيي، وإن كانت بدأت تشعر أن الأمر غير قابل للإصلاح أو التقارب، موضحة: "نعيش كالغرباء في منزل واحد وسقف واحد، فلا يوجد بيننا أي تقارب نفسي أو حوار، هذا التباعد وصل حالياً إلى الانفصال الجسدي كلياً، وحين يأتي لا نتشارك إلا الطعام أو المناسبات العائلية، وأذهب إليها على مضض".

لقد تحوّل محيي الدين، وفق رواية هند السيد رضوان، إلى شخص غريب عنها، "لم يعد هذا الرجل الذي عرفته قبل الزواج، حين تطورت بيننا علاقة عاطفية انتهت بالارتباط الرسمي، لكن تبدل الحال شيئاً فشيئاً برغم عدم تقصيري في شيء، مقابل عدم تقديري معنوياً، والتنصل من مسؤوليته تجاه أبنائي، مما تسبّب بتباعد المسافات بيننا، إلى أن تركني وتزوّج بأخرى".

"إعدام" على قيد الحياة

لا توجد إحصائيات رسمية لحالات "الطلاق الصامت" في العالم العربي، وإن كانت بعض الأبحاث والدراسات الاجتماعية التي وصفته بالأكثر حرجاً والأخطر من "الطلاق الفعلي" وعرفته بـ"إعدام على قيد الحياة"، لكنه انتشر مؤخراً عربياً عامة وفي مصر تحديداً. ويحافظ الزوجان عليه، وفق شهادات من مصريين، لسببين: المظاهر والبروتوكولات الاجتماعية، والثاني: الخوف على مستقبل الأطفال.

"علاقة زوجية منتهية الصلاحية"، هكذا تصف إيمان طلعت، للـميادين نت، حال زواجها من جمال محمود، بعد مرور أكثر من 30 عاماً، بعد أن تحوّلت حياتهما إلى "جحيم" بعد فترة قصيرة.

منذ سنوات يرفض الزوج، الإنفاق على البيت، بعد أن ترك عمله في ورشة النجارة للعمل كسمسار عقارات، لكن مع تزايد معدلات التضخم وتوقّف حركة البيع، يجلس في المقهى بلا عمل، في انتظار أحد الزبائن الذي لم يأت منذ عدة أشهر.

تعيل إيمان أسرتها، كما يساعدها نجلها محمد الذي يعمل في أحد متاجر بيع الملابس منذ دراسته بالمرحلة الثانوية، وتقول: "أعاني منذ سنوات في تدبير الطعام والشراب ونفقات البيت وحاجات الأبناء، بعدما أظهره الزوج من بخل وحرص شديد في الأمور المالية، وما زَادَ الطِّينِ بَلَّةً تركه عمله الأصلي والاتجاه لمهنة السمسار فلا يبيع ولا يشتري".

لجأت إيمان لكي تتمكّن من تدبير نفقات أسرتها إلى الطلاق الرسمي من جمال محمود، وذلك للحصول على جزء من معاش والدها المتوفى منذ سنوات، لكن برغم شعورها بالاختناق يومياً من تلك العلاقة عادت إليها مُرغمة بضغط وإلحاح أبنائها بصيغة "العقد العرفي"، خشية قطع المعاش، لأنّ العلاقة الرسمية تحظر عليها هذا الاستحقاق.

لكن تلك السيدة الخمسينية، التي تعمل في مهنة واثنتين، تعيش مع زوجها في حالة انفصال عاطفي وجسدي، بعد أن بات يشاركها السكن لتبدّل حال عمله وكان مصيره الشارع، وتضيف: "لا أشعر بأنني أحيا في بيتي، فهو بالنسبة لي شخص غريب، ولم يعد بيننا حوار، وأتمنى تبدّل ظروفي الاجتماعية للانفصال الرسمي نهائياً".

ناقوس خطر

شهدت نسب الطلاق الرسمي في العالم العربي، وفق إحصائيات عام 2024 معدلات متفاوتة، حيث تصدّرت ليبيا القائمة بمعدل 2.5 حالة طلاق لكل ألف شخص، وهو أعلى معدل عربياً، تلتها مصر بمعدل 2.3 حالة طلاق لكل ألف شخص، ثم السعودية بمعدل 2.1 حالة.

ووفق تلك الأرقام التي نشرها موقع "داتا بانداز" المختص بالإحصاءات العالمية، جاءت دول الجزائر، الأردن، ولبنان في المرتبة الرابعة بمعدل 1.6 حالة طلاق لكل ألف شخص، وهو معدل مرتفع نسبياً لكنه أقل حدة مقارنة بالدول الأولى، أما سوريا والكويت فسجّلتا معدل 1.3 حالة طلاق لكل ألف شخص، كما حلّت دولتا الإمارات وقطر في أدنى القائمة بمعدل 0.7 لكل ألف شخص، ما يُظهر استقراراً نسبياً في هذه الدول.

وبخلاف الطلاق الرسمي، يُعدّ "الطلاق الصامت" أخطر مهددات الأسر العربية، فهو وفق الخبراء، ظاهرة اجتماعية مقلقة تتصاعد بشكل ملحوظ، وتعكس التغيّرات والمعاناة الاجتماعية والثقافية للشعوب العربية، كما تبرز تأثير الضغوط الاقتصادية على العلاقات الأسرية.

بهذا التوصيف يمكن وصم تجربة أحمد عبد الجواد، الموظف في إحدى الهيئات الخاصة، إذ تعكس في ثناياها معاناة الكثير من الرجال الذين قد يشعرون بالخجل من الاعتراف بأنهم يعيشون في زواج بلا حياة، خوفاً من المجتمع أو بسبب التزامات عائلية.

يقاسي هذا الرجل الأربعيني بمفرده ألم الوحدة بعد أن شعر بارتباط زوجته بعلاقة عاطفية في العمل، وما منعه من طلاقها عدم قدرته على دفع نفقة الأبناء حال لجوئهما للقضاء وطلاقهما الرسمي.

يقول للـميادين نت، ووجهه اكتسى خجلاً، إن "الخيانة الزوجية كانت السبب الرئيسي وراء طلاقنا الصامت، برغم التغاضي عن إهمالها الأبناء أو البيت، وبعد أن تركت عملي ظلت تنفق من وظيفتها على الأسرة وتتصرّف وكأنني غير موجود".

حاجة عبد الجواد للأسرة وخوفه على أبنائه دفعاه إلى البحث كثيراً عن عمل، لكن لم يحالفه الحظ حتى الآن، ومع استمرار الزوجة في إعالة الأسرة تراجع دوره أكثر، فرضخ استجابة للظروف وبات لا يهتم بعلاقات زوجته مع أصدقائها أو أحاديثها المطوّلة مع زميلها بالعمل من خلال وسائل التواصل الاجتماعي أو الهاتف.

وتعيش أسر عربية حالياً أزمة عميقة عقب انتشار مواقع التواصل الاجتماعي التي "ساعدت على الخيانة الزوجية، حيث سهّلت على الجميع إقامة علاقات غير شرعية"، وفق محمد فتوح، استشاري الصحة النفسية في مصر.

الأبناء الأكثر تضرراً

لا يقتصر الضرر النفسي للطلاق الصامت على الأزواج، بل يمتد للأبناء، إذ يعانون من العزلة أو الاكتئاب والقلق، وفق الشابة منى علي، التي يعيش أبواها تلك الظاهرة منذ سنوات. 

لا تشعر الفتاة العشرينية بالأمان الأسري والاستقرار النفسي، وفق حديثها للـميادين نت، بل تشعر بالغربة برغم أنها وسط العائلة، لأن "المنزل مليء بالتوتر، وكنت دائماً أشعر أنني أعيش في أسرة مكسورة، لأن تلك التوترات العاطفية تنعكس بالسلب على الأبناء وتؤثر على تطورهم النفسي والاجتماعي".

وتقول هالة الشريف، المدرّسة في كلية الخدمة الاجتماعية بجامعة الإسكندرية، إن "حرص الزوجين على عدم تدمير أبنائهم بالانفصال الرسمي أحد أسباب العيش كغرباء في منزل واحد والدخول في الطلاق الصامت".

بالنسبة للشريف، فإن تلك الظاهرة تعكس التحولات العميقة في المجتمعات العربية وتكشف مدى تشابك العلاقات الزوجية تحت تأثير عوامل الاقتصاد والثقافة، ومع انتشارها على نطاق واسع يجب على الزوجين إيجاد طرق للتعامل معها، أو يصبح الانفصال الرسمي طريقة مُثلى في تلك الحالة لأن الاستمرار في علاقة ماتت إكلينيكياً وبلا حياة، لها تداعيات مدمرة وأشد إيلاماً سواء للزوجين أو الأبناء.

وعام 2023 سجّلت مصر نحو 240 ألف حالة طلاق رسمي، بينما سجّلت أحكام طلاق "الخلع" بنسبة 81.3 بالمئة، بحسب مجلس الوزراء وجهاز التعبئة والإحصاء، بينما سجّل "مجلس القضاء الأعلى" في العراق نحو 72 ألف حالة، كما رصدت الهيئة العامة للإحصاء بالسعودية نحو 168 حالة طلاق يومياً، أما في تونس فبلغت 35 ألف حالة، وفق جمعية أطفال تونس.

اخترنا لك