"نهب وحرائق مفتعلة".. انحسار المعارك يكشف خسائر أهالي الساحل السوري

شهدت الأيام الماضية اندلاع عدة حرائق متزامنة في أرياف اللاذقية وطرطوس، برغم أن الحرارة في مثل هذا الوقت من العام ليست مرتفعة. وفي هذا السياق وجّهت وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة الاتهام لعناصر ممن يتم تسميتهم "فلول النظام البائد".

0:00
  • "نهب وحرائق مفتعلة".. انحسار المعارك يكشف خسائر أهالي الساحل السوري

لم تندمل بعد جراح أهالي الساحل السوري، حتى طفت على السطح مأساة جديدة تهدد بكارثة بيئية وصحيّة في المنطقة؛ فعقب المجازر الدموية التي وقعت في السابع من الشهر الجاري، إثر الهجوم الذي شنّته فصائل مسلّحة متطرفة على المدنيين العُزّل في طرطوس واللاذقية وجبلة وبانياس، وقيامها بتصفية المئات من المدنيين ميدانياً، بدأت حرائق "مفتعلة"، تلتهم الأراضي الزراعية والحراجية في أرياف الساحل. 

وشهدت الأيام الماضية اندلاع عدة حرائق متزامنة في أرياف اللاذقية وطرطوس، برغم أن الحرارة في مثل هذا الوقت من العام ليست مرتفعة. وفي هذا السياق وجّهت وزارة الزراعة في الحكومة السورية المؤقتة الاتهام لعناصر ممن يتم تسميتهم "فلول النظام البائد"، بينما أكد أهالي في الساحل السوري أن ما يجري هو استمرار لأحداث السابع من آذار/مارس، حيث تنتقم الفصائل المتطرفة من المدنيين بإحراق أراضيهم، بعد قتل أبنائهم ونهب ممتلكاتهم.

مأساة جديدة

الحرائق المستمرة على نطاق واسع في أراضي الساحل السوري، تشكّل تهديداً كبيراً للثروة الزراعية والحراجية، خاصّة أن الزراعة هي مصدر الدخل الرئيسي في هذه المنطقة، كما تُعتبر زراعة الحمضيات والزيتون في أراضي الساحل رافداً أساسياً للسوق السورية.

كما تخلّف حرائق الغابات مخاطر مباشرة على صحة المدنيين في المناطق القريبة منها، وهي تسبب في كثير من الأحيان بالوفاة وحالات اختناق، إضافة إلى أن الحرائق حوّلت مساحات كبيرة من الأراضي الزراعية والحراجية إلى رماد، في تكرار لما حصل من حرائق مفتعلة عام 2020 في الساحل.

وبحسب منظمة الدفاع المدني في سوريا، فقد تم إخماد 20 حريقاً في ريفي اللاذقية وطرطوس خلال 48 ساعة فقط، وألحقت الحرائق أضراراً كبيرة في الأحراج والأراضي الزراعية، خاصّة في "دير حنا" في ريف القرداحة، و"حرف المسيترة" في ريف اللاذقية، حيث احترقت عشرات الدونمات من المساحات الحراجية، كما واجهت جهود رجال الإطفاء تحديات كبيرة بسبب وعورة المنطقة، وعدم قدرة سيارات الإطفاء على الوصول إليها، وسرعة الرياح التي تزيد من سرعة وتمدد الحرائق.

وكانت بعض الحرائق في الساحل السوري قريبة من منازل المدنيين، لا سيما في مدينة جبلة باللاذقية والدريكيش بريف طرطوس، حيث شارك الأهالي في عمليات الإخماد، قبل أن تتحوّل تلك الحرائق إلى كوارث إنسانية.

"أرضي احترقت قدام عيوني وما قدرت أعمل شي"، بهذه الجملة بدأ المزارع إسماعيل صالح من ريف اللاذقية كلامه للميادين نت؛ وقال: "لم نستيقظ بعد من الكابوس الدموي الذي عشناه قبل أيام، حتى جاءت هذه الكارثة لتزيد من معاناتنا وأحزاننا؛ لقد احترقت أرض الزيتون التي أملكها بشكل شبه كامل، من دون أن تستطيع فرق الإطفاء إخماد الحريق بسرعة. الآن فقدت كل شيء".

الأرض بالنسبة لأهالي الساحل السوري لا تُعتبر مجرّد مكان للزراعة وكسب المال، بل هي جزء من الروح والذاكرة والهوية، يتم توارثها من جيل لآخر؛ وفي هذا السياق يقول صالح: "أرض الزيتون ورثتها من أبي وأجدادي، وهي تعود إلى مئات السنين، لكن كل شيء تبخر في دقائق، بعد أن أقدم مسلحون ملثمون على إشعال الأرض عمداً ولاذوا بالفرار، بدون أن نتمكّن من تحديد هوياتهم. لن يستطيع أحد تعويضي عما تعرّضت له؛ لقد فقدت روحي".

وتأتي مأساة الحرائق، برغم أن بعض قرى الساحل السوري لم تتمكن حتى اليوم من دفن جثث أبنائها الذين سقطوا في الأحداث الدموية الأخيرة، وسط مخاوف الأهالي من تكرار هجمات المسلحين المتطرفين عليهم.

وفي هذا السياق، كتب الصحافي سومر حاتم عبر صفحته في فيسبوك: "يبدو أننا أمام فيديوهات وصور تكشف أكثر هول المجازر التي حدثت في الساحل، وسط ترقب لما سينتج عن لجنة التحقيق، خاصّة أن العديد من أهالي القرى المنكوبة تعرّفوا على بعض القتَلة، وتم التواصل مع السلطات بشأنهم، والأمر متروك للجنة التحقيق وما ستقرّه".

وأضاف حاتم: "الأوضاع في الأرياف على حالها المأساوي، فبعد ضبط السرقات بشكل نسبي، يشاهد أهالي القرى أشخاصاً يقومون بإشعال الحرائق في الأراضي الزراعية عمداً، ولا يستطيعون ردعهم للأسباب المعلومة، كما أن استقرار الأوضاع بحاجة إلى تخفيف حجم الخوف الأمني لتعود الحياة لطبيعتها تدريجياً".

تعتيم إعلامي

أمام فظاعة المقاطع والصور التي وثّقت الانتهاكات والإعدامات الميدانية وعمليات السرقة والنهب من قبل المسلحين المتطرفين، فرضت السلطات الجديدة في دمشق قيوداً صارمة على دخول الصحافيين والوكالات الإعلامية الأجنبية إلى محافظات الساحل السوري، كما جرى إجبار الإعلاميين الأجانب على مغادرة البلاد خلال شهر، والسماح فقط لوسائل الإعلام المقرّبة من السلطة بالتغطية الإعلامية، مع تحديد مناطق معيّنة يمكنهم الوصول إليها دون غيرها، بحسب ما كشفه المرصد السوري.

ووفقاً للمعطيات، فقد يكون التقييد الإعلامي جزءاً من محاولة لإخفاء أدلة على جرائم حرب وانتهاكات إنسانية، وقد يُمهّد لتغييرات ديموغرافية قسرية، ويعزز الإفلات من العقاب.

وجاءت هذه الإجراءات أيضاً بالتزامن مع منع وصول فرق الإغاثة والمساعدات الإنسانية إلى المدن والقرى التي تم وصفها بأنها "منكوبة"، ما يزيد من معاناة الأهالي الذين نُهِبَت منازلهم ومحالهم وقُتِلَ أبناؤهم، حيث أكد المرصد السوري أن عدد الضحايا ارتفع إلى 1500 مدني منذ 7 آذار/مارس، بعد الكشف عن مجازر جديدة تم ارتكابها من قبل الفصائل المتطرفة في قرى ريفي اللاذقية وطرطوس.

ويواصل أهالي القرى المنكوبة في الساحل السوري تضميد جراحهم وحصر أضرارهم، بعد أيام عاشوها في الأحراج والجبال هرباً من الهجمات الدموية للمسلحين المتطرفين؛ وبعد عودتهم إلى قراهم بدأ الأهالي عمليات توثيق أعداد الضحايا والتعرّف على هوية الجثث المُلقاة منذ أيام في الشوارع، من دون أي قدرة على سحبها ودفنها بسبب القيود الأمنية المفروضة من قبل الجهات العسكرية.

وفي هذا السياق، أكد المرصد السوري حصوله على 4 أشرطة مصورة جديدة تُوثق عمليات إعدام ميدانية بحق شبان عُزّل نفّذتها عناصر أمنية في قرية الشير بريف اللاذقية بتاريخ 7 آذار/مارس، وهو ما يكشف جزءاً من حجم الكارثة التي وقعت في الساحل مؤخراً.

مشاهد مرعبة

سيارات مدنية محترقة، ومحلّات تجارية منهوبة، ومستودعات غذائية خاوية، وأضرار كبيرة في واجهات المنازل، هكذا بدا المشهد في مناطق الساحل السوري بعد عودة الحياة بشكل نسبي إليها، لكن توقف العمليات العسكرية وانحسار هجمات المسلحين المتطرفين على المدنيين العُزّل، لم يلغِ حالة الخوف لدى الأهالي الذين يخشون الخروج من منازلهم، خصوصاً مع عودة الانتهاكات الفردية من خطف وقتل إلى اللاذقية وطرطوس.

وبحسب المرصد السوري، فقد تم تسجيل ما لا يقل عن 6 حالات خطف لمدنيين على طريق طرطوس – صافيتا، خلال 48 ساعة فقط، ليُعثر لاحقاً على جثثهم ملقاة عند أطراف الطرقات أو في الأحراج، فيما لا تزال الأسئلة الطائفية تُطرح على الحواجز، وأحياناً من أشخاص غير سوريين، ما يعزز مخاوف الأهالي من عمليات التصفية التي تعجز الجهات الأمنية السورية عن إيقافها حتى الآن.

وفي ظل غياب الدعم الحكومي لإعادة الحياة إلى طبيعتها في الساحل السوري، وعدم إرسال المساعدات الغذائية والطبيّة اللازمة لتأمين احتياجات الأهالي، فقد أطلق ناشطون سوريون حملات فردية في محافظات مختلفة لإغاثة المدنيين في قرى الساحل، لكن هذه المبادرات ورغم قيمتها المعنوية الكبيرة، إلا أنها بقيت عاجزة عن تغطية كامل الاحتياجات، في ظل المأساة الكبيرة التي يعيشها الساحل السوري في الوقت الحالي.

اخترنا لك