40% من الدخل الشهري للإيجار.. أوروبا تُقصي ساكنيها؟

تشير البيانات الصادرة عن المكتب الإحصائي الأوروبي "يوروستات" إلى واقع صادم: في المدن الكبرى، تُجبر 10.6% من الأسر على تخصيص ما يفوق 40% من دخلها الشهري للإيجار، في حين تبدو الصورة أقل قتامة في الأرياف.

0:00
  • 40% من الدخل الشهري للإيجار.. أوروبا تُقصي ساكنيها؟
    40% من الدخل الشهري للإيجار.. أوروبا تُقصي ساكنيها؟

في قلب القارّة الأوروبية، تتّسع رُقعة أزمة السكن عامًا تلو الآخر، حتى باتت واحدة من أبرز تجلّيات التحدّيات الاجتماعية والاقتصادية المعاصرة. إسبانيا، وعلى وجه التحديد عاصمتها مدريد ومعقلها الكتالوني برشلونة، تمثل مسرحًا صارخًا لهذا المشهد المتأزم، حيث تتكشّف ملامح اختناق سكاني وغلاء عقاري يهددان الاستقرار المجتمعي، ويثقلان كاهل فئة الشباب التي باتت الحلقة الأضعف في معادلة العمران الأوروبي. 

تشير البيانات الصادرة عن المكتب الإحصائي الأوروبي "يوروستات" إلى واقع صادم: في المدن الكبرى، تُجبر 10.6% من الأسر على تخصيص ما يفوق 40% من دخلها الشهري للإيجار، في حين تبدو الصورة أقل قتامة في الأرياف، حيث تتدنى النسبة إلى 7%. ولكن الأرقام، مهما بلغت دقتها، تعجز عن التعبير عن الأثر الوجودي الذي تخلفه هذه الأزمة في نفوس الأفراد، لا سيما جيل الشباب الذي يعيش حالة اغتراب داخل وطنه.

المدن تُقصي ساكنيها

في مدريد، ارتفعت أسعار الإيجار في المناطق المركزية بنسبة تجاوزت 21% في عام واحد، لتصل الأسعار إلى مستويات تستعصي على الطبقة المتوسطة، إذ نادرًا ما تنخفض الإيجارات عن عتبة الألفي يورو شهريًا. أما في الضواحي، فالشقق ذات الثلاث غرف تتراوح تكلفتها بين 1,200 و1,500 يورو، ما يجعل السكن الملائم حلمًا مؤجلًا، أو مستحيلاً.

وفي برشلونة، تتضافر عوامل عدة لتُغذي دوامة الأسعار: الارتفاع الحاد في الطلب السياحي، وانتشار الإيجارات القصيرة الأجل، ونقص المعروض من العقارات السكنية الدائمة. ويشير "يوروستات" إلى أن أسعار الإيجار في الاتحاد الأوروبي شهدت زيادة بلغت 18% بين عامي 2010 و2022، مدفوعة في جزء كبير منها بالتحوّلات المرتبطة بالقطاع السياحي والعولمة العقارية.

أما على المدى الزمني الأوسع، فقد شهدت أسعار العقارات في الاتحاد الأوروبي قفزة مذهلة بلغت 48% بين عامي 2015 و2023. غير أن هذا الرقم يُخفي وراءه تفاوتًا واسعًا بين الدول: ففي حين شهدت المجر قفزة هائلة بنسبة 173%، اقتصرت الزيادة في فنلندا على 5%. أما إسبانيا، فشهدت خلال عام واحد فقط ارتفاعًا بنسبة 20% في أسعار الشراء، و15.4% في أسعار الإيجار، وفق إفادة كويكي فيلالوبوس، ممثل اتحاد جمعيات الأحياء في مدريد.

تأخر استقلال الشباب وذوبان أحلامهم

في خضم هذا المشهد، يدفع الشباب الثمن الأغلى. فقد أصبح تأمين سكن مستقل مغامرة وجودية محفوفة بالعقبات الاقتصادية، من ندرة في العرض، إلى استنزاف دخلهم الشهري في الإيجارات الباهظة. وتشير البيانات إلى أن متوسط سن مغادرة الشباب الأوروبيين لمنازل عائلاتهم هو 26.3 عامًا، بينما يُؤجل الإسبان هذه الخطوة حتى بلوغهم الثلاثين، وهي ثاني أعلى نسبة في أوروبا بعد كرواتيا.

وفي محاولة لمواجهة الأزمة، أعلن الاتحاد الأوروبي عام 2021 الاعتراف بالسكن اللائق كحق إنساني أساسي. وفي تموز/يوليو 2024، صرّحت أورسولا فون دير لاين، رئيسة المفوضية الأوروبية، بأنّ الإسكان سيصبح أولوية على مستوى السياسات، مع تعيين مفوض خاص لهذا الملف، وإنشاء لجنة متخصصة مهمّتها صياغة مقترحات عمليّة خلال عام.

أمّا على الصعيد الإسباني، فالمشهد أكثر تعقيدًا، إذ يعكس الانقسام السياسي تباينًا في الرؤى. الحكومة المركزية بقيادة الحزب الاشتراكي عمدت إلى سنّ قانون إسكان يتضمن سقفًا أقصى للإيجارات في المناطق ذات "الضغط السكني"، إلا أنّ التطبيق غير المتكافئ لهذا القانون بين الأقاليم يُضعف من فعاليته. ففي كتالونيا، على سبيل المثال، انخفضت الإيجارات بنسبة تراوحت بين 3% و5%، بينما ارتفعت في مدريد بنسبة 14% خلال الفترة نفسها، وفق النائب كامينو.

من جهتهم، يرفض المدافعون عن "النموذج المدريدي" تصنيف المناطق كمناطق ضغط سكني، فبالرغم من انخفاض الإيجارات مؤقتًا في برشلونة، فإنها لا تزال تسجل مستويات قياسية. وهنا تجدر الإشارة إلى مبادرات مثل خطة "Vive Plan" التي سلمت 3,300 وحدة سكنية، وبرنامج "بيتي الأول" الذي يضمن تمويلًا ميسرًا للشباب.

لكن آخرين يرون أن هذه الجهود غير كافية، وأن نسبة الإسكان الاجتماعي في مدريد لا تتجاوز 1%، في حين يجب أن تصل إلى 9% من إجمالي الوحدات السكنية. ويُفضلون فرض ضرائب على العقارات الشاغرة، ووقف الإخلاءات بدون توفير بدائل، معتبرين المعركة معركة متعددة الجبهات، تتطلب تنسيقًا بين التنظيم العمراني، والتمويل الأوروبي، والسياسات الاجتماعية.

أزمة بطابع بنيوي

ولا تقتصر المشكلة على إسبانيا وحدها. ففي مدن مثل تالين وبودابست، تشهد الأسواق العقارية انفلاتًا مماثلًا، ما يشير إلى وجود خلل بنيوي يطال النموذج السكني الأوروبي برمّته. فمع تراجع دور الدولة كمُطوّر سكني، وسيطرة منطق السوق والمضاربة العقارية، تفقد المدن قدرتها على احتضان سُكّانها، وتتحوّل إلى فضاءات طاردة للفئات غير القادرة على المنافسة.

ويحذّر المعترضون على هذا النموذج من خطر الانزلاق نحو مجتمع منقسم طبقيًا، ويرون أنه لا يمكن لأوروبا أن تستمرّ في إنتاج طبقتين: مالكون أثرياء يملكون عشرات العقارات، ومستأجرون فقراء بلا أفق سكني. وفي ظل هذا الواقع، يبدو أن كسر الحلقة المفرغة يتطلب ما هو أكثر من السياسات الجزئية، بل إنه يحتاج إلى رؤية شاملة، وإرادة سياسية جذرية، واعتراف بأن الحق في السكن ليس مجرد بند في الدستور، بل أساس للاستقرار الاجتماعي والسياسي. 

اخترنا لك