أرحام لا تلد.. أمهات غزة يفتدين بالأبناء ليخبّئن وجه بلاد بهيّة

لأمهات فلسطين الجميلات، سلام القلب، كلّ أزهار الحدائق، فداؤهنّ، ضحكات الأبناء في هذا العالم، وما يخفيه الرجال من دمعات.

  • أرحام لا تلد.. أمهات غزة يفتدين بالأبناء ليخبّئن وجه بلاد بهيّة
    أرحام لا تلد.. أمهات غزة يفتدين بالأبناء ليخبّئن وجه بلاد بهيّة

ليس بوسع مرسيل خليفة أن يغني في هذه الحرب، لأمٍ واحدة من بين أمهات غزة، إذ لا تتفاضل واحدةٌ منهن على أخرى بأنها الأجمل لأنها تنتظر فلذة كبدٍ، سيعود إليها "ذابلةٌ بندقيته .. ويداه محايدتان"، لأن من يذهب للقتال، لا يعود أصلاً، ولا تحظى أمهاتنا بلذة القبلة الأخيرة على جبينه.

كثيرة هي القلوب التي تحترق منذ أكثر من 160 يوماً، وتشتهي خبراً يريحهن من عذاب حيرة المصير، قساة هم الأبناء، وجاحدون حين يفضّلون دفء الأرض، على أحضان أمهاتهم.

هل أنتِ غاضبة منه؟ سألت أم سالم، وهي واحدة من أمهات أولئك الغائبين منذ شهور، أجابت منتفضة ومستنكرة: "يغضب عليا الله لو بغضب منه أو عليه، هذا روح قلبي، ودّعني من أول يوم الحرب، طلب الرضا، إن عاد وإن لم يعد (..) في كل شروق شمس بدعي الله إنو يحفظه هوا وكل رفاقه"، يحكي بريق الدمع في عيون المرأة التي تجاوزت الستين بعامين، عما فعل فيهما الشوق، لها الحق، ليس فقط لأنها أم، إنما لأن نجلها الذي تعلّق صورته بقلادة على صدرها، وتخفيها تحت ثوبها المطرّز، لدواعي الأمن والسلامة، يستحق أن يُشتاق إليه.

لم أستطع في حقيقة الأمر، أن أحدّد، إن كان هذا الشعور خاصاً بهذا البطل وحده، أم أن الغياب وما يفعله بقلوب الأمهات، يجبرك على هذا النوع من الانكسار الشفيف.

تسعة آلاف امرأة شهيدة ارتقين منذ بداية حرب الإبادة، لم يكنّ الضحايا فقط، إذ إن أكثر من ثلاثين ألف شهيد، وسبعين ألف مصاب، وعشرة آلاف مفقود، خلفهن مئة وعشرون ألف أم، تلكم، هنّ الإطار الأوسع لصورة ضحايا هذه المحرقة، ولعلّي فهمت ذلك جيداً، حينما عايشت ما يفعله الفقد بهن.

بعد شهر ونصف الشهر من بداية الحرب، قضت حكمة السماء، أن يرتقي أولاد أختي إيناس الثلاثة، خليل ومحمد وحمزة، كانت تحتضنهم حينما انقضّ صاروخ ثقيل على البيت الذي نزحوا إليه في مخيم خان يونس، لكنها عادة الموت، ينتقي أحلى ورود البستان، استشهد الثلاثة رفقة والدهم وعشرة آخرين من العائلة، وحدها إيناس وابنتاها ريما وزينة، هنّ من نجونَ من المجزرة، حينما وصل إلينا الخبر بالتدريج، خليل ثم حمزة ثم محمد وخالتي وزوجها وزوج أختي و .. ثم نجت إيناس.

تذكّرت طفولتنا، حينما كانت مفتونة بقصيدة "يامنة" للشاعر المصري عبد الرحمن الأبنودي، قاسية مصادفات الحياة حينما تمتحن الأمهات، بأكثر ما يخشينه، بعبع فقد الأبناء، الذي يستعذن بالله من التفكير به حتى في سرحات الخيال، كانت "أم خليل" تعرف حتى قبل أن تتزوج وتنجب شمعاتها الثلاث، أن الأمهات يذقن طعم الموت، إن هنّ عشن بعد أولادهن ولو ليوم واحد:

إوعى تعيش يوم واحد بعد عيالك
إوعى يا عبد الرحمن
في الدنيا أوجاع وهموم أشكال وألوان
الناس ما بتعرفهاش
أوعرهم لو حتعيش
بعد عيالك ما تموت
ساعتها بس
حتعرف إيه هوا الموت

 سيكون صعباً حقاً وصف ما تشعر به الأمهات الفاقدات، ولكن الأصعب، أن نفهم كيف يتصبّرن على ذلك الامتحان العصيب، أي مداد إلهي يربطن على قلوبهن، ويصنع من الشعرة التي تفصل بين الحلم والخبل، جداراً سميكاً لا تخترقه الذكريات.

أم أيمن الرزاينة، هي واحدة من أولئك، قدّمت "خنساء المخيم" أربعة من أبنائها على مدار سنوات، وحينما نضب خزان الرجال من صلبها، قدّمت في هذه الحرب ثلاثة من أحفادها، تقول للميادين نت: "ذقت طعم الفقد من سنة الـ 94، لما استشهد أيمن، وجاءت بعدها الانتفاضة الثانية، لحقوه إخواتو الثلاثة، منذ ثلاثين سنة مرارة الفراق ما جافت قلبي لحظة (..) بشتاق لهم وما بغيبوا عن بالي يوم واحد، لكن الله يلهمنا الصبر، لا تسألني كيف، أنا مش عارفة، إلي بشعر فيه، إنو كل يوم يمضي من عمري، بيقرّبني للقاء بهم"، قالت المسنة التي لم تحرمها مِحن الحياة، فيض البشاشة، وأضافت للميادين نت: في هذه الحرب الكل ذاق، بيكون نفسي آخذ كل الأمهات الصبايا في حضني طول العمر، نفسي آخذ حزنهن وضيفوا على حزني، أنا عمري 80 سنة، أما همّا، قلبي عليهن".

لأمهات فلسطين الجميلات، سلام القلب، كل أزهار الحدائق، فداؤهن، ضحكات الأبناء في هذا العالم، وما يخفيه الرجال من دمعات.