التهجير من الأرض.. عناد الغزّي العائد مقابل المستعمر المُقاول

قبل أن يمضي أسبوعٌ واحد على خطة ترامب الذي انغمس في تنقيحها بين خطابٍ وآخر، ولقاءٍ وآخر، كان للجوعى والعطشى والمرضى من سُكان القطاع، أولئك الحُفاة الذين يلتحفون الكرامة، ويرصفون المجد، أن يفقئوا عين خطة ترامب ببحصة، هي العودة.

  • التهجير من الأرض.. عناد الغزّي العائد مقابل المستعمر المُقاول
    التهجير من الأرض.. عناد الغزّي العائد مقابل المستعمر المُقاول

لم يكد دونالد ترامب يُكمل أسبوعه الأول في مكتبه البيضاوي حتى بدأ إطلاق قنابل أفكاره شمالًا وجنوبًا، مستندًا إلى إحساسه الكبير بـ"العظمة"، وإلى خبرته كرجل أعمال وعقاري ومستثمر أبًا عن جد. بهذه العقلية وتلك النظرة رأى ترامب في قطاع غزة ما لم يره غيره، ولا حتى رئيس وزراء الاحتلال الذي أمضى عقودًا في التبحر بغزة وسكانها وخرائطها لمحاولة فكها وتفكيكها بما يُيسر له السيطرة عليها والتغني بأمجاد ذلك مطولًا.

فما تبدى أمام ترامب لم يكن أكثر من الرمال، والدمار، والجوعى والعطشى والمرضى من السُكان العرب الشرقيين، من النوع الذي لا يُحب ولا يملكون ما يملأ عينه من المليارات والاستثمارات، هذه المعالم كانت بالنسبة له شبيهةً تمامًا ببداية مشروعٍ استثماري على أرض خراب، تحقق له انطلاقة قوية وقدرة على تجاوز السياسة نحو الاقتصاد لتحقيق أحلامه.

وقبل أن يمضي أسبوعٌ واحد على خطة ترامب الذي انغمس في تنقيحها بين خطابٍ وآخر، ولقاءٍ وآخر، كان للجوعى والعطشى والمرضى من سُكان القطاع، أولئك الحُفاة الذين يلتحفون الكرامة، ويرصفون المجد، أن يفقئوا عين خطة ترامب ببحصة، هي العودة.

وعلى طول 45 كيلو مترًا- كحدٍ أدنى- على خط شارع الرشيد اندفع ما بين 300 ألف إلى نصف مليون فلسطيني عائدين إلى الشمال المدمر، في مدٍ بشري متماسك، بعضهم يحمل أطفاله، آخر يحمل والده أو والدته، آخرون يحملون الرث من متاعهم وأعمدة خيمهم، والكثيرون منهم يمتزج لديهم الفرح بالتعب في رحلةٍ لا يقل زمنها عن ست ساعات، وقد يطاول 12 ساعةً بحسب وجهة اللاجئ العائد.

الإعمار: أول أفعال المقاومة

بعد دفقة العودة الأولى وما صاحبها من شهقات اللاجئين ودموعهم أمام اندثار ملامح بيوتهم وغياب خطوط شوارعهم، ومعالم طرقهم، كان الإعمار سيد الموقف وفعله الأول، فلجأ ألوف العائلات إلى ركام بيوتها وجدرانها المائلة للاستناد إليها وفيها بدلًا من الاستناد إلى خيمة.

حدثتني صديقتي التي فقدت بيتها وبيت ابنها وبيت عائلتها خلال خطة الجنرالات الأخيرة عن أثر الهدم على روحها، فقالت: "والله ما فرقت عندي فدا عيون الشباب، لكن زعلت على بيت أهلي، لأنه كل ذكرياتنا هناك، ووالدي توفى هناك"، كان حديثها في معرض تعزية لها بوفاة ابن أخيها الصغير الذي يبلغ من العمر عامين، والذي ارتحل إثر سقوط ركام البيت المجاور عليه بعد يومٍ واحد من عودته مع عائلته إلى الشمال.

بقدر المرارة التي تسكن روح المرأة، وحجم الفاجعة التي عايشتها، لا سيما وأنه "الحفيد المدلل والغالي" الذي طال انتظاره، إلا أنها أكدت إصرار أخيها المكلوم على إتمام مراسم زفاف أولاد عمومته، حيث تنقل عنه قوله: "الحزن أكل منا كثير، الآن وقت نبني ونفرح".

في أحاديث المرأة الكثير مما يثير الدهشة، والكثير مما يوجع القلب، فلدى أهل غزة ألف سبب يدفعهم للموافقة على العرض الاستثماري لترامب وزمرته، فالفقر والجوع والمرض وفقد الأهل والأحباب والبيت والعمل وغياب أفق سياسي أو اقتصادي، وانعدام مقومات الحياة وغيرها أسبابٌ تدفع أيًا كان للقبول بـ"العرض الذهبي" مهللًا له، لكنهم يملكون سببًا واحدًا يدفعهم وبشدة لرفض ترامب وخطته، وهو صلتهم بالأرض، وهو أكثر من كافٍ للتشظي إلى مليون سبب.

تسخر المرأة سرًا وجهرًا من خطة ترامب ومن أقواله وتراها ضربًا من الجنون لا مكان لها على الأرض، "حتى لو كانت الأرض رمادًا".

الأرض والذات.. المستعمر المستثمر

يبرر عالم الاجتماع بيير بورديو ارتباط السُكان بأراضيهم بأن تفاعلهم المتواصل مع المكان والثقافة والمجتمع يُنتج جزءًا آخر من الهوية الجمعية مرتبط بالأرض ذاتها، وهُنا فإن فقدان الأرض يتجاوز مستوى الخسارة الفردية إلى مستوى فقدان جزء من الذات الجمعية.

أما روبرت بوتنام فيرى أن علاقة الفلسطيني بأرضه مرتبطة برأس ماله الاجتماعي، وهو حصيلة علاقاته الاجتماعية وروابط التضامن التي تكون دائرة استناد وتدعيمٍ له، -يمُكن لهذا أن يُفسر خط العودة إلى الشمال المتماسك والمتصل بدلًا من عودة متقطعة وخافتة- يعترف بوتنام هُنا أن التهجير بالنسبة للمجتمع الفلسطيني يمثل فقدان الدعم الاجتماعي والترابط العائلي، وأنه حتى خلال الحرب والنكبة، فغالبًا ما سعت العائلات للسكن في محيطٍ متقارب للحفاظ على هذا الترابط.

وهو ما يعتبره إدوارد سعيد نوعًا آخر من المقاومة، لكنها مقاومة ثقافية وليست مادية، حيث يغدو الحفاظ على الوجود الفلسطيني في مواجهة محاولات المحو والإقصاء والتمسك بالأرض نمطًا وشكلًا آخر من أشكال المقاومة والمواجهة الوجودية.

وبرغم أن أيًا من الباحثين وعلماء الاجتماع السابقين لم يعايشوا مشهدية العودة إلى الشمال، ولا صمود الفلسطينيين بعد 15 شهرًا من الإبادة، إلا أن انسجام تحليلهم للتفاعل الفلسطيني مع التهجير يحيلنا إلى التأكد من أن علاقة الفلسطيني بأرضه ثابتة وغير محكومة بمتغيرات أو مناقصات أو مشاريع. بل ربما هي أوعى، وأقوى، ولديها اليوم عزم داخلي بإمكانها الاستناد عليه، وثقة بأن صناعة مستقبلها مرتبطةٌ بالدرجة الأولى بالفرد العائد، وبالجموع التي انتظرت صباح السابع والعشرين لتبدأ مسيرها، لعشرات الألوف الذين قرروا استزراع الغد في الدمار أملًا أن يُنبت له نصرًا أو تثبيطًا لعدوهم.

سردية المستعمر وإنسانيته الكاذبة

بعدما سلمت المقاومة جثامين عائلة بيباس الذين قتلوا بنيران وصواريخ إسرائيلية خلال الحرب، خرج ترامب في أول رد فعلٍ حقيقيٍ له بالقول: "أريد أن أرى غزة مدمرة، ولا أريد أن أرى حتى مبنى واحد قائمًا"، التصريح الذي نقلته القناة الـ14 العبرية يثير التساؤل حول ما روجه من "حل إنساني" يقوم به بنقل الفلسطينيين إلى "أماكن جميلة" خارج القطاع.

الغرابة في الواقع لا ترتبط بتصريح ترامب التدميري، وإنما بتصريحه "الإنساني" الذي يلقيه بلغة آمرة، ويشدد من خلاله على أن الولايات المتحدة ستتملك القطاع وتُعمره وتحوله إلى "ريفييرا الشرق الأوسط" ولن يُسمح للفلسطينيين بالعودة إليه لأنهم سيحصلون على منازل أفضل بكثير، أليس من غير المجدي اقتصاديًا نقل الفلسطينيين إلى أمكنة جميلة بينما بإمكان الإبقاء عليهم في "ريفييرا الشرق الأوسط"؟

يُكرر ترامب مجددًا أنه يعمل لصالح الفلسطينيين ولتوفير غدٍ أفضل ومكان أجمل لهم، وأن غزة لا يوجد فيها سوى الدمار، يتلقف المحتل الخطة ويبدأ في شرعنة ترانسفيره بغطاء ترامبي، تُرى هل كان المحتل طوال سبعين عامًا يُمارس "الطبطبة" بانتظار المخلص ترامب ليُمارس الترانسفير؟

يُصرح ترامب بأن الأمر "صفقة عقارية وأنه لا وجود عسكري في الميدان"، ثم يُؤكد أنه ملتزم بشراء وامتلاك غزة، يناور قليلًا فيقول بأنه "قد يمنح دولًا أخرى من الشرق الأوسط أجزاءً منها للبناء فيها"، فمن يقصد يا تُرى؟

حتى إذا ما نطق وزير خارجيته ماركو روبيو قائلًا: "إن الولايات المتحدة مستعدة لقيادة غزة وجعلها جميلة مرة أخرى"، تبدى أن خطة ترامب اتسعت في محاولةٍ لجعلها واقعًا للتطهير العرقي والتهجير القسري مرةً واحدة، مع ميزة جديدة تمامًا، هي المصطلحات الإنسانية والاقتصادية البراقة التي يُمكن التعمية من خلالها.

خلال الحرب روّج الاحتلال كثيرًا لمصطلح "الهجرة الطوعية"، من خلال التجويع والتدمير والقتل والحصار، وقبلها وعلى مدى 17 عامًا استُخدم معبر رفح والحصار البري والبحري لجعل غزة مكانًا غير قابلٍ للحياة، ومع ذلك فقد غرس أهلها فيها جذُر الحياة وأصلها.

اليوم يُقدم ترامب حزمة أفكاره في محاولة لحل ما عجز عنه سابقوه، معضلة غزة، وهو يتساوق في ذلك مع آخرين فضلوا في بعض الأحيان حل القضية الفلسطينية من منطلق ثقافي، يعترف فيه الفلسطينيون بألم اليهود من خلال الهولوكوست -كأنها مسؤوليتهم- ويعترف المحتلون بألم الفلسطينيين من خلال النكبة "ويا دار ما دخلك شر".

لم يُفلح المنطلق الثقافي في القفز على أصل المعضلة، لا سيما وأنها تتطلب هضمًا واستيعابًا للاحتلال في نسيج الأرض والإنسان، وذلك عسير، ولن تُفلح المنطلقات الاقتصادية لترامب وغيره في حل المعضلة ذاتها، ذلك لأنها تنطلق من عقل ترامب وليست من قلوب الفلسطينيين.

يُقال؛ لو ساومت فقيرًا على مالٍ فرفضه، فاعلم أنه يملك ما لا يُشترى بالمال، دعونا نقول لو ساومت حُرًا على أرضه فرفض، فاعلم أن أرضه لا تُشترى سوى بالدماء.

اخترنا لك