الفرات ينبض مجدداً.. عودة دورة الحياة لأهالي الجزيرة السورية ومزارعيها

شكّل عودة منسوب المياه في الفرات للارتفاع هذا العام حالة إيجابية لدى المزارعين، وسينعكس حتماً على إنتاجية المحاصيل الزراعية، حيث وصلت مساحة الأراضي الزراعية المدرجة ضمن خطة هذا العام إلى 50 ألف هكتار.

  • الفرات ينبض مجدداً.. عودة دورة الحياة لأهالي الجزيرة السورية ومزارعيها
    الفرات ينبض مجدداً.. عودة دورة الحياة لأهالي الجزيرة السورية ومزارعيها

"ذاك نهر الفرات ما له ندّ على الأرض إن طلبت نديدا/ باسماً للحياة عن سلسبيل كلما ذقته طلبت المزيدا/ جرعة منه في قرارة كأس تترك المرء في الحياة سعيدا/ نحن قتلاه في الهوى وقديماً شفّ آباءنا وأصبى الجدودا".  

بهذه الأبيات تغزّل الشاعر السوري محمد الفراتي - ابن مدينة دير الزور - بنهر الفرات في قصيدته الشهيرة "الفرات الخالد"؛ فهذا النهر له مكانة كبيرة واستثنائية لدى أبناء سوريا، حيث يُعتبر رمزاً اجتماعياً لجميع السكّان القاطنين بالقرب من مجراه، ولعلّ أهالي مدينة دير الزور في الجزيرة السورية أكثرهم تعلّقاً وارتباطاً بالفرات.  

لذلك، شكّل عودة منسوب المياه في الفرات للارتفاع هذا العام حالة إيجابية لدى المزارعين، وسينعكس حتماً على إنتاجية المحاصيل الزراعية، حيث وصلت مساحة الأراضي الزراعية المدرجة ضمن خطة هذا العام إلى 50 ألف هكتار، وهي مساحة قياسية لم تشهدها المنطقة منذ 12 عاماً. يأتي ذلك بعد استعادة السيطرة الميدانية على دير الزور عام 2017، وبدء الحكومة السورية عمليات الترميم والتأهيل للبُنى التحتية إضافة إلى إطلاق مشاريع خدمية لمساعدة الفلاحين وإعادة إحياء القطاع الزراعي، لكن جميع تلك المشاريع اصطدمت بالواقع المائي المتردي نتيجة انخفاض منسوب مياه نهر الفرات في السابق.

الفرات أو "الفرا" كما يُسمى محلياً، يُعدّ مصدر العطاء والخير المرتبط بالأراضي الزراعية التي ترتوي من مياهه في مدينة دير الزور شمال شرق سوريا، كما أنه الملجأ الأساسي عند ارتفاع درجات الحرارة من أجل التنزه والسباحة وصيد الأسماك.

ليس ذلك فقط ما يربط أهالي دير الزور بالفرات، بل شكّل النهر على مرّ مئات السنين حالة وجدانية عميقة لدى السكان المنتشرين على جنباته؛ يبوحون له بأسرارهم، ويتوجهون إليه بنجواهم، ويربطون به طقوسهم، حتى أُطلِق عليهم لقب "أبناء الفرات".

مكانة "الفرات" عند أبناء دير الزور ترتبط بكلّ مفاصل حياتهم اليومية، ولعلّ أبرز الطقوس التي تعبّر عن هذه الحالة هي "شموع الخضر"، التي تُعتبر نوعاً من أنواع النذور، وتعتمد على "تطويف الشموع" عند مياه النهر، من أجل تحقيق الأماني والرغبات، ولذلك كانت مياه الفرات قبل الحرب تعجّ بالشموع خلال الليل، لتشكّل مشهداً سينمائياً فريداً من نوعه، حيث تبدو الشموع كالنجوم اللامعة على المياه القاتمة.

الفرات شريان الحياة

  • يُعدّ  نهر الفرات مصدر الخير المرتبط بالأراضي الزراعية التي ترتوي من مياهه مدينة دير الزور شمال شرق سوريا
    يُعدّ نهر الفرات مصدر الخير المرتبط بالأراضي الزراعية التي ترتوي من مياهه مدينة دير الزور شمال شرق سوريا

يعتبر الفرات واحداً من أكثر أنهار العالم أهميّةً، كونه يغذي مناطق زراعية واسعة في ثلاثة دول مختلفة؛ ينبع النهر من تركيا ويمرّ من سوريا ويصب في مياه الخليج العربي جنوب العراق، أما رحلة الفرات داخل سوريا فتبدأ من جرابلس في ريف حلب، ثمّ يمضي ليخترق محافظة الرقّة، وفي الطريق ما بين جرابلس والرقة يتّحد معه نهر البليخ، ليصل إلى دير الزور ويلتقي بنهر الخابور في مدينة البصيرة في ريف دير الزور الشرقي قبل أن يخرج من سوريا عبر البوكمال.

طول نهر الفرات يقدّر بحوالى 2940 كيلو متراً، موزّع بين كلٍّ من تركيا وسوريا والعراق، أمّا نصيب تركيا من النهر فيقدّر بحوالى 1176 كيلو متراً، وفي سوريا يقدّر بحوالى 610 كيلو متراً، في الوقت الّذي يقدّر فيه طول النهر ضمن الأراضي العراقية بحوالى 1160 كيلو متراً.

وبرغم امتداد نهر الفرات من تركيا إلى العراق مروراً بسوريا، إلا أنه أكثر ما ارتبط بمدينة دير الزور، فهي أشبه بواسطة العقد التي تربط النهر، لذلك تعلّق أهالي المدينة بالفرات، الذي أصبح جزءاً لا يتجزأ من تاريخهم وحاضرهم وأفكارهم وعاداتهم وتقاليدهم، وعن العلاقة التي تربط أهالي المدينة بالنهر يقول محمد الجاسم "أبو محمود" (58 عاماً) للميادين نت: "ولدت في الحويقة، وهو الحيّ الأقرب إلى الفرات داخل المدينة؛ هذا النهر يعتبر بمثابة شريان الحياة للأهالي، ليس فقط من أجل الزراعة والثروة الحيوانية، وإنما من الناحية المعنوية والوجدانية أيضاً، فلا يمكن أن نتخيل دير الزور بدون الفُرات ولا الفرات من دون دير الزور".

لا يذكر الجاسم متى تعلم السباحة على وجه التحديد، لكنه يؤكد أنه بدأ السباحة في الفرات منذ كان طفلاً، ولاحقاً استهوته فكرة صيد الأسماك، حيث أصبح قادراً على صنع سنارة الصيد بنفسه، واستمر بهذه الهواية إلى اليوم.

لقد اختلفت طقوس الأهالي بشكلٍ كامل خلال السنوات الماضية، فالجفاف الذي أتى على النهر والحرب لسنوات تركا أثراً بالغاً في دير الزور؛ يقول أبو محمود: "أذكر عندما كنت شاباً كيف كنت أذهب مع أصدقائي إلى الجسر المعلّق وسط المدينة، ونتسابق في القفز من أعلى نقطة فيه إلى النهر، أما اليوم فجميع الجسور تم تدميرها من قبل القوات الأميركية والفصائل الإرهابية المسلحة وقوات سوريا الديمقراطية، حيث عملت تلك الأطراف على قطع أوصال المدينة وفصل شرقها عن غربها، وأصبحت الطريقة الوحيدة لعبور النهر هي عن طريق المراكب الصغيرة أو الجسور المائية المتحركة التي أنشئت خلال الحرب".

الجسر المعلّق في دير الزور تم بناؤه عام 1927، ظل لفترة طويلة الجسر الوحيد لدير الزور على نهر الفرات، وقد خُصص منذ سبعينيات القرن الماضي للمُشاة فقط، يربط بين ضفتي النهر الشامية جنوباً والجزيرة شمالاً، وارتبط الجسر بالذاكرة الجمعية لأهل المدينة وزوارها، وشكّل ملتقى للأصدقاء، وممراً للأحِبة، ومتنفساً للعائلات، ويكاد لا يخلو منزل في دير الزور من صورة تربطهم بالجسر المعلّق.

من داخل حقله المزروع بمحصول القمح في ريف دير الزور الغربي، يقف المُزارع محمد السالم (63 عاماً) وهو ينظر بغبطة إلى سنابل القمح التي بدأت تأخذ لون الذهب، بينما تتدفق مياه الفرات بكميات وفيرة في الجهة الشمالية من أرضه، في مشهد لم يره منذ نحو 12 عاماً؛ يقول السالم للميادين نت: "خلال السنوات الماضية انخفض منسوب المياه في النهر إلى مستويات غير مسبوقة، ما أدى إلى تكبيد المزارعين خسائر كبيرة، حيث اضطروا إلى استجرار الماء من مناطق بعيدة بأسعار مرتفعة، وفي كثير من الأحيان كان المحصول قليلاً للغاية ويتم بيعه بأقل من التكلفة، أما اليوم فقد شكّلت عودة المياه إلى مستوياتها السابقة في الفرات بارقة أمل لعودة الحياة إلى ما كانت عليه قبل الحرب".

حالات الغرق تعود مجدداً

  • طول نهر الفرات يقدّر بحوالى 2940 كيلو متراً، موزّع بين كلٍّ من تركيا وسوريا والعراق
    الجسر المعلّق في دير الزور تم بناؤه عام 1927، ظل لفترة طويلة الجسر الوحيد لدير الزور على نهر الفرات

مع ارتفاع منسوب المياه خلال الفترة الماضية، عاد نهر الفرات ليكون مقصداً للشباب والأطفال من أجل السباحة، لكن هذا الأمر لم يكن حالة إيجابية بالمطلق، إذ تشهد محافظة دير الزور سنوياً حالات غرق لعدد من الأطفال والشباب في مياه النهر، نتيجة السباحة في أماكن خطرة، ولم يكن آخر تلك الحوادث غرق طفل وطفلة في الثامن عشر من شهر نيسان الماضي، واستمرت حينها عمليات البحث عن جثتهما لساعات، قبل أن تنجح فرق الدفاع المحلي بالعثور على الجثتين.

وفي هذا السياق يؤكد قائد فوج إطفاء دير الزور سمير مغير للميادين نت أن حالات الغرق في مياه نهر الفرات أمر يتكرر كل عام، حيث يُسجل سنوياً قرابة 50 حالة معظمهم من الأطفال والشبان في المناطق الريفية، وتقوم فرق الغطس المختصّة بعمليات البحث في مجرى النهر من أجل العثور على جثث الضحايا.

وأشار المغير إلى أن صعوبة ومخاطر السباحة داخل نهر الفرات تكمن في سرعة جريان المياه، ووجود ما يُسمى بـ"الفتّالات النهرية"، وانتشار الحفر في مجرى المياه والتي يصل عمقها أحياناً إلى 30 متراً، إضافة إلى وجود الأسلاك المعدنية والطحالب النهرية التي تلتف على الأقدام وتعيق حركة السباحة، ما يسبب الغرق في كثير من الأحيان، ولفت قائد فوج إطفاء دير الزور إلى أن عملية انتشال جثث الغرقى تتطلب جهداً كبيراً، بسبب ارتفاع نسبة العكارة وسرعة جريان مياه النهر والتأخر بالإبلاغ عن حالة الغرق.

اقتراب من الجفاف

  • طول نهر الفرات يقدّر بحوالى 2940 كيلو متراً، موزّع بين كلٍّ من تركيا وسوريا والعراق
    طول نهر الفرات يقدّر بحوالى 2940 كيلو متراً، موزّع بين كلٍّ من تركيا وسوريا والعراق

وانخفض منسوب مياه نهر الفرات لأكثر من 8 سنوات، من جراء تقليص تركيا حصة سوريا من مياه النهر، حتى وصل في محافظة دير الزور إلى تدفق 150 متراً مكعباً بالثانية، وهو أدنى معدل تدفق تم تسجيله، ما أثّر بشكلٍ كبير على الحياة البيئية والمائية والزراعية في عموم الجزيرة السورية، واقترب الأمر من مرحلة الجفاف.

ويعدّ نهر الفرات المصدر المائي الرئيسي والوحيد لسقاية الأراضي الزراعية في مدينة دير الزور شمال شرق سوريا، فالزراعة هي مصدر الدخل الأساسي لمعظم السكان، وتُعتبر محاصيل القمح والشعير والقطن هي المحاصيل الرئيسية بالنسبة للقطاع الزراعي، كما تنتشر أيضاً زراعة الذُرة الصفراء والخضروات، جميع تلك الزراعات تأثرت بسبب الجفاف خلال السنوات الماضية بعد انخفاض منسوب نهر الفرات، إضافة إلى قيام الفصائل المسلحة بتجريف الأراضي الزراعية وإلحاق الضرر بها، الأمر الذي ضاعف خسائر الفلاحين في الجزيرة السورية.

مع بداية العام الحالي، عاد منسوب المياه للارتفاع تدريجياً بعد زيادة الكميات المُطلقة من تركيا نحو الأراضي السورية والعراقية، وفي هذا السياق أكد مدير الموارد المائية بدير الزور المهندس محمد الرجب للميادين نت أن منسوب النهر بدأ بالارتفاع تدريجياً منذ بداية شهر شباط/فبراير في العام الحالي، ومع زيادة كميات المياه الواردة وصل التدفق إلى مستويات لم يصلها منذ عدة سنوات، وسجّل في محافظة دير الزور بداية الشهر الثالث من العام الجاري تدفقاً بلغ حوالى 650 متراً مكعباً بالثانية قبل أن يستقر في الآونة الأخيرة حول معدل وسطي يتراوح بين 325-350 متراً مكعباً بالثانية، الأمر الذي كان له انعكاس إيجابي على الواقع الزراعي وتحسين البيئة المكانية بالنسبة للثروة السمكية، حيث عادت الحياة إلى الكثير من الكائنات المائية في النهر، ولاسيما في الفرع الصغير الذي يمر في مدينة دير الزور، بعد أن أدت سرعة المياه وغزارتها إلى تنظيف المجرى بشكل تلقائي وطبيعي، ما أدى إلى إزالة العوالق والإشنيات، كما قضى على الروائح الكريهة وتجمع الحشرات التي كانت تتسبب بها المياه الراكدة.

اليوم؛ لا يُعتبر جريان نهر الفرات مجدداً فرصة لإحياء الأراضي الزراعية في دير الزور فقط، بل إنه يشكّل بارقة أمل لعودة الحياة إلى المدينة المُتعبة من جرّاء سنوات طويلة من الحرب؛ تلك السنوات التي أرخت بثقلها على البشر والحجر على حدٍ سواء.