الفقر وتفاوت الدخل يهددان أميركا: "عودة عظيمة" بمخاطر!
يترك الفقر وتفاوت الدخل تداعيات خطيرة على المجتمع الأميركي، حيث يؤدي الفقر إلى ضعف الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم الجيد، مما يعمق من الفجوة الاجتماعية ويعوق الحراك الاجتماعي.
-
الفقر وتفاوت الدخل يهددان أميركا: "عودة عظيمة" بمخاطر!
في قلب أقوى اقتصاد عالمي، تظلّ قضية الفقر وتفاوت الدخل من أعقد وأعمق الأزمات الاجتماعية في الولايات المتحدة. فعلى الرغم من النمو الاقتصادي المتسارع والتقدم التكنولوجي الذي شهدته البلاد خلال العقود الماضية، إلا أنّ الفجوة بين الأغنياء والفقراء تستمرّ في الاتساع، مشكّلة تحديًا بنيويًا يعكس أوجه الخلل في توزيع الثروة والفرص. في هذا السياق، لا يُعتبر الفقر مجرد نتيجة لظروف اقتصادية عابرة، بل هو ظاهرة هيكلية مرتبطة بالسياسات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي رسّخت انعدام المساواة عبر الأجيال.
حقائق وأرقام
تكشف الإحصاءات الحديثة عن عمق مشكلة الفقر وتفاوت الدخل في الولايات المتحدة. ووفقًا لتقرير صادر عن مكتب التعداد الأميركي، بلغ معدل الفقر في عام 2023 حوالي 11.4%، ما يعني أن أكثر من 37 مليون شخص يعيشون تحت خط الفقر. هذا الرقم يعكس واقعًا مؤلمًا في بلد يمتلك أكبر عدد من أصحاب المليارات في العالم. ومن اللافت أن هذا الفقر لا يقتصر على العاطلين عن العمل، بل يمتدّ إلى العمال ذوي الأجور المنخفضة الذين يعانون من "فقر الأجور" حيث لا تكفي رواتبهم لتلبية احتياجاتهم الأساسية، برغم عملهم بدوام كامل.
من ناحية أخرى، يعكس توزيع الدخل في الولايات المتحدة تفاوتًا صارخًا. فوفقًا لدراسة أجراها معهد السياسة الاقتصادية (EPI)، حصل 1% من أغنى الأميريكيين على نحو 20% من إجمالي الدخل الوطني، بينما تقاسمت الـ50% الأدنى نسبة لا تتجاوز 12%. هذا التفاوت لا يعكس مجرد فروقات في الأجور، بل يرتبط بامتلاك الأصول والثروات المتراكمة التي تزداد قيمتها بمرور الزمن.
أسباب هيكلية: السياسات الاقتصادية والرأسمالية المتوحشة
لا يمكن فهم الفقر وتفاوت الدخل في الولايات المتحدة من دون التطرق إلى الأسباب الهيكلية التي أدّت إلى تفاقم هذه الأزمة. من أبرز هذه الأسباب:
السياسات الضريبية غير العادلة: تبنّت الولايات المتحدة منذ عقود سياسات ضريبية تفضّل الأثرياء، من خلال تخفيض معدلات الضرائب على الأرباح الرأسمالية والدخل من الاستثمارات، مقارنة بالأجور العادية. هذا التوجه أدى إلى تراكم الثروات لدى الفئات الغنية على حساب الفئات الوسطى والدنيا.
التحول نحو الاقتصاد الرقمي والاعتماد على العمالة غير المستقرة: أدى التقدم التكنولوجي والتحول نحو الاقتصاد الرقمي إلى خلق فجوة بين العمالة ذات المهارات العالية، التي تجني أجورًا مرتفعة، والعمالة غير الماهرة التي تعاني من تدني الأجور وغياب الأمان الوظيفي. هذا التحول أضعف النقابات العمالية التي كانت تلعب دورًا حيويًا في حماية حقوق العمال.
تكاليف المعيشة المرتفعة: شهدت الولايات المتحدة ارتفاعًا كبيرًا في تكاليف السكن والرعاية الصحية والتعليم، ما زاد من الأعباء المالية على الأسر ذات الدخل المنخفض. في المقابل، لم تشهد الأجور زيادات تتناسب مع هذا الارتفاع، مما أدى إلى تراجع القوة الشرائية للطبقة الوسطى وتفاقم الفقر.
الفقر متعدد الأبعاد: عرق، جنس، ومناطق جغرافية
يتخذ الفقر في الولايات المتحدة أبعادًا متعددة تتداخل فيها عوامل العرق والجنس والمناطق الجغرافية. تكشف الإحصاءات أن الفقر يستهدف بشكل غير متكافئ الأقليات العرقية؛ فمعدلات الفقر أعلى بين الأميركيين من أصول أفريقية ولاتينية، مقارنة بالأميركيين البيض. يعكس هذا الواقع تأثيرات التمييز العرقي المنهجي الذي أدى إلى تهميش هذه المجتمعات تاريخيًا في مجالات التعليم والإسكان والوظائف.
إضافة إلى ذلك، تعاني النساء من تفاوت في الأجور مقارنة بالرجال، خاصة النساء العازبات اللاتي يعُلن أسرهن. كما أن الفقر يتركز جغرافيًا في المناطق الريفية وبعض الولايات الجنوبية، حيث تفتقر هذه المناطق إلى فرص العمل والبنية التحتية الجيدة.
التداعيات الاجتماعية والاقتصادية
يترك الفقر وتفاوت الدخل تداعيات خطيرة على المجتمع الأميركي، حيث يؤدي الفقر إلى ضعف الوصول إلى الرعاية الصحية والتعليم الجيد، مما يعمق من الفجوة الاجتماعية ويعوق الحراك الاجتماعي. كما يرتبط الفقر بارتفاع معدلات الجريمة والإدمان على المخدرات، مما يعكس حالة من التهميش الاجتماعي والاقتصادي.
اقتصاديًا، يؤدي الفقر إلى تقليص القوة الشرائية لجزء كبير من السكان، مما يؤثر سلبًا على النمو الاقتصادي. كما يعزز الفقر الاعتماد على برامج الرعاية الاجتماعية، مما يشكل عبئًا على الموازنة العامة.
سياسات مكافحة الفقر
برغم الجهود الحكومية لمكافحة الفقر، مثل برامج الرعاية الاجتماعية والإعانات المالية، إلا أن هذه السياسات غالبًا ما تُعتبر مسكنات مؤقتة. يرى الخبراء أن الحلول الفعالة تتطلب سياسات أكثر جذرية، منها:
- إصلاح النظام الضريبي: لتحقيق عدالة ضريبية من خلال زيادة الضرائب على الأثرياء والشركات الكبرى.
- زيادة الحد الأدنى للأجور: ليصبح متناسبًا مع تكاليف المعيشة.
- الاستثمار في التعليم والرعاية الصحية: لتوفير فرص متكافئة وتحسين جودة الحياة للأجيال المقبلة.
- تعزيز حقوق العمال: من خلال دعم النقابات العمالية وتحسين شروط العمل.
تُظهر هذه الأزمة التناقض الصارخ بين الازدهار الاقتصادي وانعدام المساواة الاجتماعية. وفي ظل استمرارية هذا التفاوت، يواجه المجتمع الأميركي تحديًا وجوديًا يتطلب إعادة التفكير في النموذج الاقتصادي والسياسي السائد. لتحقيق الاستدامة الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، ينبغي تبني رؤية شمولية تتجاوز الحلول المؤقتة نحو إصلاحات هيكلية تضمن توزيعًا أكثر عدالة للثروة والفرص.
إنها معركة ليست فقط ضد الفقر، بل ضد نظام اجتماعي واقتصادي أفرز تفاوتًا عميقًا يهدد نسيج المجتمع الأميركي ذاته.
مراجع:
https://itep.org/
https://nlihc.org/
https://nwlc.org/
https://www.brookings.edu/
https://www.cbpp.org/