جبل قاسيون.. رمز دمشق الذي يهدده السكن العشوائي

شهد جبل "قاسيون" خلال السنوات القليلة الماضية تمدّداً للسكن العشوائي، الذي أتى على مساحات واسعة من سفوحه المطلّة على دمشق، ما أثّر على الناحية الجمالية والتاريخية الفريدة التي يتمتّع بها هذا الجبل.

  • جبل قاسيون.. رمز دمشق الذي يهدده السكن العشوائي
    جبل قاسيون.. رمز دمشق الذي يهدّده السكن العشوائي

لطالما شكّل جبل "قاسيون" الذي يقع شمال العاصمة السورية دمشق متنفّساً للأهالي وملاذاً بارداً لهم في أوقات الحرّ، كما كان في الوقت نفسه حضناً دافئاً للأحبّة الذين يتغنون باسمه، وينقشون ذكرياتهم على حجارته وصخوره القاسية، لكن ملامح هذا الجبل بدأت بالاختفاء تدريجياً خلال السنوات الماضية نتيجة التوسّع العمراني العشوائي على سفوحه. 

"قاسيون" منطقة للعشوائيات

في كثير من الأبحاث التاريخية عُرِفَ "قاسيون" بأنه "جبل مقدّس"، إذ تمتع بأهمية كبيرة لدى الرسل والأنبياء والنسّاك والمتصوفة طوال آلاف السنين، واشتهر بكونه المكان الذي وقعت فيه أحداث مهمة ذكرت في القرآن الكريم، لعلّ أهمها حادثة هابيل وقابيل أبناء النبي آدم، والتي جرت في مقام "الأربعين" الموجود حالياً في سفح الجبل.

تقول الأبحاث التاريخية إن أهالي دمشق سكنوا جبل "قاسيون" قبل أن يسكنوا دمشق، وعاشوا فيه أجيالاً طويلة، ثم هبطوا إلى السهل المنبسط أسفله وبنوا مدينتهم، ولكن مدينتهم الأولى هي قاسيون، حيث نشأوا أولاً، والدليل على ذلك هو وجود "مغارة الدم" التي تعدّ حلقة من سلسلة تاريخ الجبل القديم.

شهد جبل "قاسيون" خلال السنوات القليلة الماضية تمدّداً للسكن العشوائي، الذي أتى على مساحات واسعة من سفوحه المطلّة على دمشق، ما أثّر على الناحية الجمالية والتاريخية الفريدة التي يتمتّع بها هذا الجبل، ما يُنذر بتحوّله إلى منطقة عشوائيات، في حال لم يتمّ اتخاذ إجراءات كفيلة بإيقاف التمدّد العمراني، وإيجاد حلول بديلة للسكان تؤمّن للأهالي المساكن الجيدة في مناطق منظّمة عمرانياً.

وبالرغم من أن ظاهرة بناء المنازل على سفح جبل "قاسيون" ليست وليدة الأزمة، إلا أنها شهدت مؤخّراً تنامياً كبيراً، نتيجة الظروف الاقتصادية والمعيشية التي تواجه شرائح واسعة من الدمشقيّين، وتمنعهم من شراء عقارات في مناطق منظّمة عمرانياً، حيث وصلت أسعار العقارات إلى مبالغ فلكية لم تشهدها العاصمة من قبل.

قطاع العقارات كان أبرز القطاعات الحيوية التي تضرّرت خلال سنوات الحرب على سوريا، حيث شهدت الأسعار ارتفاعاً متلاحقاً ومتسارعاً، حتى وصلت إلى مستويات خيالية لا تتناسب بالمطلق مع دخل السوريين ولا قدراتهم الشرائية، ما جعل شرائح واسعة من الدمشقيّين تلجأ إلى السكن العشوائي داخل العاصمة أو على أطرافها.

ارتفاع أسعار العقارات نتج عن عوامل عديدة أبرزها: تأخّر إطلاق عملية إعادة الإعمار نتيجة العقوبات الغربية، والتضخم، وضعف القدرة الشرائية، إضافة إلى ارتفاع أسعار مواد البناء، والتي تأثّرت بالحصار الاقتصادي الخانق على سوريا والذي يحد من عمليات استيراد المواد الأولية.

في المقابل، فإن الخيارات البديلة مثل الإيجار ليست محبّذة لدى شرائح واسعة من الدمشقيّين، كونها باتت تشكّل عبئاً ثقيلاً على كاهلهم لا يمكن تحمّله، فالإيجارات ارتفعت بشكلٍ جنوني خلال السنوات الماضية، حتى وصل إيجار منزل في منطقة عشوائية داخل دمشق إلى مليون ليرة سورية (80 دولاراً أميركياً)، علماً أن متوسط الأجور في المؤسسات الحكومية لا يتجاوز 400 ألف ليرة سورية.

في السياق، كشف الخبير الاقتصادي عمار اليوسف للميادين نت عن وجود أسباب كثيرة لارتفاع أسعار العقارات في سوريا، وجميعها تؤدي بالمطلق إلى توجّه الناس نحو السكن المخالف أو السكن العشوائي وهو يسمّى عالمياً "مدن الصفيح"، حيث يصل الفرق بين السكن النظامي والعشوائي في بعض الأحياء إلى 8 أضعاف، وهذا الأمر ينطبق على جبل "قاسيون"، حيث لجأ الأهالي إلى خيارات أقل تكلفة لبناء العقارات.

واعتبر اليوسف أن حلّ مشكلة العشوائيات التي تشكّل اليوم 60% من السكن في سوريا، لا يمكن أن يتحقّق إلا بإيجاد خيارات نظامية بأسعار مقبولة، وهذا الأمر يتحقق عن طريق مشاريع حكومية ضخمة في قطاع العقارات، وليس من خلال الحلول والإجراءات الفردية.

حلول مؤقتة

في العام 2023 وقّعت وزارة الإدارة المحلية في سوريا وهيئة التخطيط الإقليمي مذكرة تفاهم لتطوير الخارطة الوطنية للسكن العشوائي، والتي تشكّل الحجر الأساس في مشروع الارتقاء وإعادة تأهيل مناطق السكن العشوائي والمخالفات الجماعية، ومن ضمنها منطقة سفح جبل "قاسيون"، وتهدف المذكّرة إلى التعاون والتكامل في وضع وتطوير الخارطة للمساهمة في تخفيف المخاطر العمرانية الكامنة في تلك المناطق من خلال اعتماد معايير لمعالجة مناطق السكن العشوائي، مع العمل على تنظيم تلك المناطق، وتأمين السكن الملائم للقاطنين فيها وتقديم الخدمات التعليمية والصحية والبيئية لتحسين مستوى معيشتهم.

محمود عيسى صاحب مكتب عقاري في منطقة "النبعة" بسفح قاسيون يقول للميادين نت: "اليوم لا يمكن النظر إلى تمدّد السكن العشوائي في سفح قاسيون واختفاء ملامح الجبل، بمعزل عن الوضع الاقتصادي والمعيشي الذي تعيشه البلاد، فكيف يمكن للمواطن البسيط أن يمتلك منزله الخاص في منطقة غير عشوائية وسط الظروف المعيشية المتردية وتدنّي القدرة الشرائية؟ لذلك إن أرادت الجهات المعنية الحد من تمدّد السكن العشوائي عليها أولاً تأمين البديل، وأن تكون هناك مشاريع سكنية ضخمة تلبّي حاجة الشباب".

وعن أسعار المنازل في مناطق سفح جبل قاسيون يقول عيسى: "تختلف الأسعار من منطقة إلى أخرى، وبحسب مساحة المنزل ومواصفاته وخاصّة قربه من الشوارع الرئيسية، لكن بالمجمل فإن الأسعار مرتفعة للغاية وباتت تماثل المناطق المنظمة متوسطة المستوى، لذلك فإن شراء المنزل في هذه المناطق ليس بهذه السهولة، وأمام هذا الواقع تلجأ كثير من العائلات إلى بناء طوابق إضافية في البناء الواحد بشكلٍ مخالف".

"قاسيون" يضاهي "أبو الهول"

يطلّ جبل "قاسيون" على كامل مدينة دمشق، باسطاً ذراعيه شرقاً وغرباً وكأنه يحتضن أبنيتها وحاراتها وشوارعها وأزقّتها، كما يرسم الجبل مشهداً بانورامياً فريداً يمكن رؤيته من أيّ مكان في العاصمة، خاصّة عندما تتلوّن سفوح الجبل بأنوار المنازل لتكون كاللوحة الفنية متناثرة الأضواء، في المقابل فإن مشهد العاصمة من أعلى الجبل لا يقل روعة أيضاً؛ ولذلك كانت قمة الجبل مقصداً للزوّار قبل الحرب، حيث أقيمت على امتداد قمة الجبل استراحات ومطاعم ليتمكّن الزوّار من التمتع بمنظر المدينة التاريخية بمشاهد سينمائية قلّ نظيرها.

وتتربّع على سفوح الجبل أحياء سكنية شهيرة منها، حي ركن الدين، وحي زين العابدين، وحي الشيخ محيي الدين، والصالحية، والمهاجرين، والشركسية، والعفيف وغيرها، كما يضم الجبل مجموعة من المغارات الطبيعية مثل مغارة الجوعية، والأربعين أو مغارة الدم، والشياح.

وقبل الحرب كان سفح جبل قاسيون في منطقتي "النيربين" و"الجندي المجهول" المتنفّس الوحيد لأهالي دمشق في فصل الصيف الحار، لذلك كان الناس يفترشون الأرض خلال ساعات المساء، خصوصاً في الأيام التي تسبق يومي العطلة الأسبوعية، حيث ينتشر باعة المرطبات والبوظة وتصبح الأماكن المرتفعة القريبة من النصب التذكاري والمطلة على دمشق المضاءة هي الأكثر ازدحاماً، فيما يتمشى العشاق على سفوح الجبل.

الكاتب والمؤرخ السوري سامي مروان المبيّض يشير للميادين نت إلى أن جبل قاسيون مرتبط بتاريخ دمشق حيث تؤكد بعض الروايات أن نبي الله آدم بدأ من جبل قاسيون، وهذا يعني أن هذه البقعة من الأرض هي الأقدم في تاريخ البشرية، وأن الحراك البشري لم يتوقّف فيها منذ الأزل، حيث تقدّر المعلومات عمر المدينة ما بين 9000 إلى 11000 سنة.

ويضيف المبيّض أنه في الوقت الذي شهدت فيه معالم دمشق تغيّرات جوهرية، ظلّ جبل قاسيون محافظاً على وجوده، ليكون شاهداً حيّاً على مختلف العصور التي تعاقبت على مدينة دمشق منذ القِدم وحتى العصر الحديث، حيث تُعَدّ قيمة جبل قاسيون بالنسبة للدمشقيين مثل تمثال أبو الهول بالنسبة للمصريين.

ويقول المبيّض: "ظهرت على سفح دمشق أحياء عديدة أهمها الصالحية وحي المهاجرين الذي سكن فيه المهاجرون من فلسطين وتركيا ومناطق أخرى منذ تسعينيات القرن التاسع عشر، لكن أهمية الجبل ازدادت بعدما بنى ناظم باشا والي سوريا في العهد العثماني قصره في منطقة المهاجرين على سفح قاسيون سنة 1905، وأصبح فيما بعد قصر الملك فيصل.

لا يبدو أنّ التوسّع العمراني في جبل "قاسيون" سيتوقّف في ظلّ الحالة المعيشية والاقتصادية التي تعصف بالسوريين في الوقت الحالي، وهذا ما يتطلّب اتخاذ خطوات سريعة من الجهات الحكومية المعنية لإيجاد حلول جذرية، إما بتنظيم المناطق السكنية العشوائية على سفح الجبل، أو القيام بمشاريع سكنية بأسعار مقبولة يمكن من خلالها الحد من ظاهرة السكن العشوائي في مختلف مناطق العاصمة.