زيارة الأهالي الأخيرة.. حكايات ضحايا مجزرة سجن "إيفين" الإيراني

استهدفت صواريخ إسرائيلية سجن "إيفين" في طهران خلال يوم زيارة عائلي، ما أدى إلى استشهاد 79 شخصاً بينهم أطفال ونساء ومدنيون. المجزرة، التي شملت أقساماً إدارية وطبية وإنسانية، خلّفت جرحاً مفتوحًا في الذاكرة الإيرانية، وأثارت إدانات حتى من معارضين سياسيين.

0:00
  • زيارة الأهالي الأخيرة.. حكايات ضحايا مجزرة سجن
    زيارة الأهالي الأخيرة.. حكايات ضحايا مجزرة سجن "إيفين" الإيراني

عند الساعة العاشرة والنصف من صباح الثالث والعشرين من حزيران/ يونيو 2025، تحوّلت أسوار سجن إيفين شمال طهران إلى مقبرة جماعية، بعدما مزقت صواريخ إسرائيلية صمت المكان وحولت انتظار العائلات للقاء أبنائهم المسجونیین إلى انتظار أبدي. ففي يوم خُصص للزيارة، كانت عشرات الأسر على أبواب السجن وداخل قاعة الانتظار، تحمل معها حقائب صغيرة فيها بعض الحلوى والملابس والرسائل، تستعد لعناق قصير وحديث لدقائق، فإذا بالصواريخ تُحيل الزيارة إلى رُكام ورماد وأشلاء.

ثمانية صواريخ وطائرات مسيرة وهجوم تفجيري مشترك أصاب أقساماً حيوية في السجن: مبنى الحراسة، الإدارة، مكتب النيابة، جناح النساء، مبنى العيادة الطبية، مكتبة عامة، وقاعة الزيارات. النتيجة كانت استشهاد 79 شخصاً وعشرات الجرحى، بينهم موظفون مدنيون، سجناء، جنود في خدمتهم الإلزامية، محامون، جيران، وحتى أطفال جاؤوا مع أمهاتهم.

من بين هذه القصص المؤلمة، يبرز اسم زهرا عبادي، الاختصاصية الاجتماعية في مستشفى السجن. كانت زهرا تعرفها عائلات السجناء كبسمة دائمة تواسي وتساعد وتُصلح. لم تترك أسرة فقيرة إلا ومدّت لها يد العون، ولم تتردد في اصطحاب طفلها الصغير مهراد إلى مكان عملها يوم الهجوم لأن رياض الأطفال كانت مغلقة. لم يكن مهراد يعلم أن لعبته الأخيرة ستكون بين جدران السجن حين تسبّب صاروخ في استشهاده، بعد هذا الصاروخ هرعت الأم مذعورة تبحث عن ابنها، فإذا بالانفجار الثاني يقع وتُحتجز تحت الأنقاض. فارقت الحياة قبل أن تتمكن من العثور على طفلها، وعُثر على جثمانها بعد ثلاثة أيام من الانفجار تحت الركام.

قرب السجن، كانت الفنانة والرسامة مهرانغیز أیمن بور وزوجها رضا خندان، تتمشى قرب بيتها حين اخترقها موج الانفجار. موجة قتلت روحها على بعد 200 متر من أسوار إيفين.

في قاعة الزيارات، كانت هاجر محمدي، السيدة التي كرست حياتها لجمع التبرعات لسداد ديون المسجونين، تنتظر توقيع الأوراق لإطلاق سراح بعض السجناء. صديقتها ملیکا قالت للميادين نت: "هاجر سخّرت حياتها لتكون صلة الوصل بين المتبرعين لإطلاق سراح السجناء الذين سُجنوا بسبب ديون مالية. ساعدت عشرات السجناء وكانت تشجعنا دائماً على خدمة المجتمع. صديقتي هاجر استُشهدت، لكننا سنكمل ما أوصتنا به".

وبين الأسماء التي ذهبت ضحية، عاطفة بعاج ‌زاده، المستشارة الاجتماعية في السجن وإحدى السيدات المعروفات بخدمة أبناء المحكومين وذويهم. جثمانها نُقل إلى مسقط رأسها في خرمشهر جنوب غرب إيران حيث ودعها أهالي المدينة كابنة خدمت مجتمعها حتى اللحظة الأخيرة.

لا ينسى الناس أيضاً اسم الطبيب الشاب سيد داوود شيرواني بروجني، طالب السنة الرابعة في تخصص الأمراض المعدية بجامعة طهران للعلوم الطبية. سقط في الهجوم وهو يمارس عمله الإنساني في مستشفى السجن، ليُسجل الطبيب الخامس الذي يقتل خلال العدوان الإسرائيلي على إيران.

لم يسلم الجنود الشباب من نار المجزرة. محمد رضا نوروزي، جندي الخدمة الإلزامية، استشهد قبل ثلاثة أشهر من تسريحه ليعود إلى قريته الزراعية في تابوت. وفي المستشفى القريب للسجن، يحكي رئيس مستشفى شهداء تجريش، كيف أن أحد الجنود المصابين لا يزال يجهل أن قدميه اللتين تتألمان لن تتحركا أبداً بعد إصابته بقطع في نخاعه الشوكي. وقال إن عدداً كبيراً من الأشخاص الذين أصيبوا في هذا الهجوم تعرضوا لبتر أعضاء وإصابات في النخاع الشوكي. معظمهم يرقدون في قسم العناية المركزة. هؤلاء جرحى بفعل موجات الانفجار، وقد تعرضوا بسببها لتهتّك في الدماغ.

حتى العائلات التي وقفت أمام أسوار إيفين منذ الفجر لم يكتب لها أن تحتضن أبناءها. صار الانتظار لقاء أبدياً مع الغياب، صار العناق حلماً مستحيلاً بعد أن تبعثرت الأجساد تحت الحجارة. بعضهم، مثل ليلى جعفرزاده، لم تأت إلا لتحمل أوراق الإفراج عن زوجها ميلاد خدمتی، لكن عُثر عليها مدفونة تحت الركام بعد أيام من البحث.

لم يكن الاستهداف الصاروخي "رمزياً"، كما حاولت وسائل إعلام غربية الترويج له. القصف دمر أجزاء واسعة وقتل أبرياء بينهم نساء وأطفال وجيران. نرجس إحدى الشاهدات، قالت للميادين نت: "سارعت قنوات ناطقة بالفارسية لترويج الرواية الإسرائيلية بأن الاستهداف كان رمزياً فقط، لكن عندما خلّف العدوان 79 شهيداً، حاولوا تحويل الأنظار عن المجزرة عبر الترويج لمطالبات بعض السجناء للانتقال إلى أماكن أكثر أماناً أو إطلاق سراح مؤقت لهم".

بعض الشخصيات التي عرفت بسجنها السياسي مثل صادق زیباکلام كتب في مواقع التواصل الاجتماعي عن مديري السجن اللذين استشهدا في الهجوم، روح الله توسلي ووحید وحید بور، فقال: "لم أر منهما إلا الاحترام والمتانة في التعامل مع السجناء. أقدم التعازي لعائلاتهما وزملائهما". أما المحامي والكاتب السياسي علي مجتهد زاده، فأكد أن معظم من عرفهم من موظفي "إيفين" لم يكونوا من أجهزة الأمن بل من الأشخاص المتفرغين لحل مشكلات المحكومين. حتى عماد بهاور، القيادي الشاب في حركة نهضة الحرية، اعتبر الهجوم جريمة لا يمكن تبريرها، وقال: "إسرائيل قتلت 79 إيرانياً، معظمهم أبرياء، لتقول إنها تدافع عن حرية الإيرانيين. هؤلاء الشهداء ليسوا أرقاماً".

وسط ركام المباني المدمرة وأصوات الإسعاف، بقيت بعض الحقائب الصغيرة التي جلبتها العائلات تنتظر على المقاعد في قاعة الزيارة. بقيت رسائل الأمهات ودمى الأطفال وعلب الحلوى شاهدة على لقاء لم يتم، على انتظار تحول إلى حزن جماعي، وعلى وعد قطعه أصدقاء الضحايا وأقرباؤهم: أن تبقى أسماؤهم منقوشة في الذاكرة الجماعية، وأن يظل صدى أصواتهم شاهداً على جريمة إسرائيلية لن تُمحى آثارها من ضمير الناس.

اخترنا لك