عيد الأضحى في غزة: الفرح بلا أهله

آذتنا هذه الحرب، إلى الحد الذي سيحكي لك كل من تراه أن أمنيته القصوى هي أن يشهد يوم توقفها. ذلك هو العيد المؤجَّل المرتقب.

  • عيد الأضحى في غزة: الفرح بلا أهله
    عيد الأضحى في غزة: الفرح بلا أهله

ليس أكثر ما هو محزن أن يمر عيد آخر والحرب مستمرة. لم يستوحش النازحين الأمر، على قاعدة أن صدمة المرة الثانية من الشيء نفسه، لن يكون وقعها مثل الأولى. لقد تجرع الأهل مرارة الفقد في عيد الفطر الماضي، وعايشوا للمرة الأولى أجواء تشظي العائلة وشتاتها في المدينة الواحدة. كل التفاصيل الجميلة صارت وجعاً.

الأكثر حزناً من كل ما تقدم، هو أن الظروف الاقتصادية والنفسية، والتي تركتها المدة الفاصلة بين العيدين، بكل ما فيها من أحداث، لم تُعطِ فرصة لسكان شمالي قطاع غزة (كما هي عاداتهم في عيد الأضحى)، هذه المرة، لتضحيم أجواء الفرح، بعد أن فقدوا كل الأدوات أو المواد الخام اللازمة لذلك، فما هو متوافر، في ظل مجاعة بدأت تنشب أظفارها مجدداً، ليس كافياً لإشباع البطون، كي يسمح بإقامة كرنفال العيد الكبير. 

الغزيون بسيطون في طباعهم، على رغم أن كل مراهق منهم ينظر إلى نفسه على أنه كوكب بأسره. البساطة التي أقصدها أضحت سجية راكمتها أعوام طويلة من الحصار والحروب المتلاحقة. قلصت سقف طموحاتهم، أو بالمعنى الأدق، جعلت المفاتيح التي يبدأ منها الفرح، أقل من جولة حول العالم، أو أسبوع سياحة في شرم الشيخ، أو رحلة إلى شواطئ ميامي. ببساطة، عمد الغزيون، بصورة تلقائية غير مدروسة، إلى حيلة تقوم على تضخيم المناسبات الدينية والاجتماعية، أي المبالغة في طقوس الاستعداد لاستقبالها، وإعطاء قيمة كبرى للوقت الذي يسبق قدومها. هكذا، ستعرف أن عيد الأضحى لا تنحصر حدوده في أيامه الأربعة، وإنما يسبقه شهر ونصف شهر من التجهيز، ويليه شهر ونصف شهر من استقبال الحجاج وزيارتهم.

يعيش الغزيون هذه الأيام، لحظة بلحظة، من وداع الحجاج، إلى تشكيل الحصص العائلية التي ستشارك في الأضحية، ثم البحث عن الأضحية، والنقاش المحتدم بشأن مكان الذبح، في المسلخ أو في بيت العائلة. وإذا كان في بيت العائلة، فلكَ أن تتجول في شوارع القطاع، وتشاهد كيف يستقبل الأطفال كل أضحية تشق حارتهم إلي حيث ذبحها. وهذا ليس كل شيء. لقد نسيت الحديث عن تجهيز الأمهات والزوجات أطفالهن ومنازلهن، وتلك حكاية تطول، من الكسوة وشراء الأواني الجديدة، إلى تجهيز صالة الاستقبال، على نحو يليق بالمناسبة، وطقوسها، بحيث تتوسط دمية خروف العيد زاوية صالة الاستقبال، بالإضافة إلى شراء الحلوى والمكسرات، وتجهيز الماء البارد والعصائر الملائمة للطقس الحار، وتحضير ملابس صلاة العيد. كل ذلك ولـمّا يأتِ العيد بعدُ.

نحن نُضخّم الفرح البسيط، نتشارك في عيش مشاعره الجماعية. والمؤذي اليوم، أن ما كان يمكن أن يصلح لعيد الفطر، لا يمكن أن يصلح لعيد الأضحى، بحيث لم يخرج حاج واحد من القطاع إلى بيت الله الحرام. لا طقوس وداع ولا استقبال إذاً. لا أضاحي متوافرة في أسواق القطاع، بحيث وصل ثمن الخروف إلى 2000 دولار، وثمن العجل إلى 18 ألفاً، أي أن لا مظاهر لذبح الهَدْي، ولا طقوس لتوزيعها، ولا فرحة في بيوت الفقراء لدخولها لهم، ولا أُنس في بيوت الميسورين في اجتماع العائلة في اليوم التالي لشواء اللحم. والأكثر ألماً، أنه لا توجد، في كل الفطاع، عائلة واحدة مكتملة ومجتمعة، ولا بيوت تجمع من بقي من الغزيين.

آذتنا هذه الحرب. سيكون من الصعب التظاهر بأن كل شيء على ما يرام، ومن الأصعب تصدير خطاب القوة والجَلَد. اجتمعت كل الظروف التي تقهر القلب، وأوجعتنا بأغلى استثماراتنا في هذه الحياة: البيت، الأسرة، الأطفال، أجوائنا الدافئة، مشكلاتنا اللذيذة، همومنا البسيطة، حين تعود إحدى الأخوات إلى بيت العائلة غاضبة من زوجها، تكسونا بسببها الكآبة والحزن، ثم نفرح يوم تعود المياه إلى مجاريها.

آذتنا كثيراً هذه الحرب، إلى الحد الذي سيحكي لك كل من تراه، أن أمنيته القصوى هي أن يشهد يوم توقفها. ذلك هو العيد المؤجل المرتقب.

في السابع من تشرين الأول/أكتوبر 2023 أعلنت كتائب القسام معركة "طوفان الأقصى"، فاقتحمت المستوطنات الإسرائيلية في غلاف غزة، وأسرت جنوداً ومستوطنين إسرائيليين. قامت "إسرائيل" بعدها بحملة انتقام وحشية ضد القطاع، في عدوانٍ قتل وأصاب عشرات الآلاف من الفلسطينيين.