كرة القدم في البرازيل.. حرب ضد العنصرية و"منبر للدين"

كرة القدم في البرازيل تشكّل أكثر من مجرد لعبة يستمتع بها المشاهدون، فهي الرياضة التي تعكس الثورة والصراع والبحث عن الحرية في وجه العنصرية.

  • كرة القدم في البرازيل.. العنصرية والثقافة والدين!
    تحولت كرة القدم إلى وسيلة لخلاص الفقراء في البرازيل

ربما قرأت هذا الخبر، الذي يقول إن منتخب البرازيل لكرة القدم سيرتدي اللون الأسود بالكامل لأول مرة في تاريخه، عندما يواجه غينيا ودياً السبت (17 حزيران/يونيو 2023)، في مدينة برشلونة.

البرازيل سترتدي الزي الأسود في مبادرة ضد العنصرية، بحسب ما أعلن الاتحاد البرازيلي لكرة القدم. وستقام مباراة البرازيل وغينيا في إسبانيا، حيث تعرّض اللاعب البرازيلي فينيسيوس لهجمات عنصرية، وهي حال غيره من اللاعبين البرازيليين طوال الأعوام الماضية.

قد يكون الخبر عابراً بالنسبة إلى كثر، لكن الحقيقة أن هذا الخبر يطرح تساؤلاً عن سر العلاقة بين المجتمع البرازيلي وكرة القدم... المنتخب الأكثر جماهرية حول العالم.

كرة القدم "بوابة الخلاص" من العنصرية في البرازيل!

  • كرة القدم في البرازيل.. العنصرية والثقافة والدين!
    أبدع الفقراء في البرازيل في كرة القدم

يُطلَق على البرازيل "Pais Do Futebol" باللغة البرتغالية، أي بلد كرة القدم. لكن، كيف جاءت كرة القدم إلى بلد المهاجرين، والذي تُعَدّ فيه كرة القدم جزءاً من الهوية الوطنية؟

وصلت كرة القدم إلى البرازيل على يد طالب إسكتلندي الأب وبرازيلي الأم، يدعى تشارلز ميلر، وهو الذي نقل اللعبة إلى البلد اللاتيني في أواخر القرن الـ19. إذاً، جاءت قصة هذه اللعبة من الخارج، كما هي حال مجتمعها الذي تكوّن نتيجة الهجرات من البرتغاليين ونقل الأفارقة من جانب الاستعمار البرتغالي، الذي احتلّ البرازيل وحكمها، ليُشكّل مزيجاً من البيض والسود.

هذا المزيج انعكس على كرة القدم. العنصرية والتمييز، اللذان يحاربهما البرازيليون اليوم، لطالما رافقا لعبتهم المفضلة. فالكرة هناك كانت بداية ترتبط بالثراء والدين. الرجال يأتون إلى الملعب ببدلاتهم، والنساء بفساتينهم، ومن يحضر مباراة لكرة القدم كان يتباهى بذلك.

لكن تلك اللعبة انتشرت في الأحياء الشعبية، فغالباً ما يسعى الفقراء لتقليد الأغنياء بحثاً عن تجارب فريدة. لكن، مع كرة القدم، فإن الموضوع مغاير. نبدأ بكرة من ورق، ثم نبحث عن إيجاد كرة مصنَّعة، أو جمع ثمنها، ونلعب من دون أحذية، حتى نفتح الطريق.

اقرأ أيضاً.. دموع فينيسيوس هزّت العلاقات الإسبانية البرازيلية.. لماذا تتفشى العنصرية في الدوري الإسباني؟

أمام شراء حذاء أحلام بسيطة، لكنها طريق الخلاص من الفقر المدقع والعنصرية.

مع الوقت، باتت هناك حاجة إلى يد عاملة في البرازيل. حتى في كرة القدم، نريد عروضاً قوية. ولأن الفطرة البشرية تدفع الإنسان إلى البحث عن الأفضل، فإن الفقراء في البرازيل أبدعوا في كرة القدم، بيليه - الأسود قاد البرازيل إلى المجد الكروي. وكان أحد أفضل لاعبي كرة القدم البرازيليين، آرثر فريدنريتش، وهو أفريقي برازيلي، لكنه، على الرغم من تميزه، حُرم من بعض الأنشطة الاجتماعية، كالسباحة. 

  • كرة القدم في البرازيل.. العنصرية والثقافة والدين!
    صور أليكس ألميدا منطقة الأمازون البرازيلية وغيرها من الولايات بحثاً عن الربط بين علم الاجتماع وكرة القدم

تحولت هذه الرياضة إلى وسيلة لخلاص الفقراء. لذلك، في ذهن المشجعين اليوم، فإن البرازيل فقيرة مع أن اللاعبين يتقاضون مبالغ خيالية، لكن خروجهم بقصص غريبة وصعبة، ومن قلب المعاناة من أحياء فقيرة، يجعل المتعاطفين كُثراً، كما حدث في أزمة فينيسيوس الأخيرة بعد تعرضه لهتافات عنصرية.

اقرأ أيضاً.. فينيسيوس يرد على العنصريين: "لن أتوقف عن الرقص"

وعندما نتحدث عن اللاعبين البرازيليين، سنتذكر رقصة السامبا، وهي جزء من ثقافة المجتمع هناك، والتي ساهم لاعبو كرة القدم في نشرها، لأنهم يرقصون بعد كل هدف، وهو ما يعرضهم للانتقادات أيضاً، لكن السامبا ليست مجرد رقصة، بل هي اختصار طويل لتاريخ في بناء المجتمع البرازيلي.

عندما جاء التجار البرتغاليون وقاموا بنقل الأفارقة من أجل "بيعهم" في ولاية باهيا البرازيلية، نقل الأفارقة عادتهم معهم، ومنها الرقص وقرع الطبول، لتنتشر في البرازيل، على الرغم من محاولة الأوروبيين منعهم من ذلك، لأنهم كانوا ينظرون إلى هذه الأشياء على أنها مبتذَلة، لكن الفرح كان أقوى من العنصرية. وإذا تأملنا المشهد أكثر فهو يتكرر في ملاعب كرة القدم: نيمار وفينيسيوس وغيرهما يرقصون، وبعض الأبواق يصدح صوتها.

كرة القدم منبر المبشّرين في البرازيل

  • كرة القدم في البرازيل.. العنصرية والدين!
    ربط نيمار رأسه بعِصاب كتب فيه "100% المسيح" بعد حصد الميدالية الذهبية الأولمبية في عام 2016

طوال أعوام، كان يُعاب على اللاعبين البرازيليين أنهم يكسبون أموالاً من كرة القدم، ويُنفقونها بسرعة في البحث عن السهر والسعادة والفرح. والأمثلة كثيرة، منها "الساحر" رونالدينيو وأدريانو.

تقول البروفيسورة كارمن ريال، الباحثة في العلوم الإنسانية، إن "اللاعب البرازيلي كان مشهوراً بأنه ولد سيئ يكسب أموالاً كثيرة وينفقها في وقت قليل. يحب الحفلات والرقص ويمتلك كثيراً من العلاقات النسائية، لكن بمجرد انتشار حركات التدين وسط اللاعبين الأمر تغير كثيراً".

مع دخول كرة القدم للبرازيل وانتشارها مع الوقت، دخل المبشّرون المسيحيون هذا العالم، فليس بالغريب أن ترى رجل دين مسيحياً يعطي درساً في مدارس كرة القدم، أو في الأندية الكبيرة.

المسيحية في البرازيل هي الديانة الأكثر انتشاراً، وتُعَدّ البرازيل ثاني أكبر دولة مسيحية، وأكبر دولة كاثوليكية في العالم، بحيث فُرضت الكاثوليكية كطائفة رسمية للبلاد في عام 1824. وفي عام 1940، كان الكاثوليك يُمثلون النسبة الأكبر من السكان، لكن هذه النسبة انخفضت بسبب ازدياد نِسَب البروتستانتية والخمسينية وحتى المسلمين وديانات أُخرى، مثل "كاندومبلي"، وهي التي جلبها الأفارقة، الذين أتوا إلى البرازيل على أيدي البرتغاليين.

اقرأ أيضاً.. ركلات الترجيح في كأس العالم.. فرح وتعاسة للشعوب

يقول الكاتب أليكس بيلوس، في كتابه "الطريقة البرازيلية للحياة"، إنه "في كرة القدم، كما في أي شيء آخر، لا يوجد برازيلي من دون تعويذة في رقبته، أو وعود قديسه معه، باختصار لا يوجد برازيلي يستطيع الحياة من دون إلهه الشخصي، وغير القابل للتغيير".

اللاتينيون، بصورة عامة، والبرازيليون، بصورة خاصة، عاشوا كثيراً من الصعوبات في طفولتهم: قلة التعليم والفقر وصعوبات اجتماعية واقتصادية جمة. لذلك، كانت كرة القدم هي الخلاص للأسر. لدينا لاعب موهوب فهذا يعني أننا سنخرج من فقرنا. وهناك أمثلة كثيرة على هذا الأمر. ولشدة التعلق بالدين وبالله، فإن الطريق إلى هذا السبيل كان الذهاب إلى الكنيسة والتضرع والدعاء. وبالتالي، يقترن التدين بطريقة تحقيق هذا الحلم.

لكن عدة طوائف كانت في البداية معارضة لفكرة كرة القدم. فالبروتستانت مثلاً كانوا يقولون إن كرة القدم هي "بيضة الشيطان"، وهو رأي لم يدم طويلاً. هذه اللعبة انتشرت بصورة كبيرة، وخطفت قلوب الملايين، فكان لا بد من التغيير.

  • كرة القدم في البرازيل.. حرب ضد العنصرية ومنبر للدين
    حققت البرازيل لقب كأس العالم 1994 و6 من اللاعبين كانوا ينتمون إلى "رياضيين من أجل المسيح"

ذكرنا آنفاً أن نسبة البروتستانت زادت في البرازيل، وأحد أسباب هذه الزيادة كرة القدم. ففي عام 1994، حققت البرازيل لقب كأس العالم، وكان 6 من اللاعبين ينتمون إلى "رياضيين من أجل المسيح"، وهي جماعة إنجيلية تتبع الطائفة البروتستانتية المحافظة، واللاعبون هم: زينهو، مازينهو، تافاريل، جورجينيو، موللر وباولو سيرجيو.

وعند السعي لنشر عادات الطوائف المسيحية في البرازيل، كانت الشخصيات الرياضية تحضر دائماً في التلفاز مثلاً. وعلاقة الدين بكرة القدم يمكن ملاحظتها عبر تصرفات اللاعبين. مثلاً، بعد تتويج كاكا بلقب دوري أبطال أوروبا مع ميلان الإيطالي، في عام 2007، ارتدى قميصاً كُتب فيه: "أنا أنتمي إلى المسيح".

عندما تُوِّج نيمار بثلاثية مع برشلونة في عام 2015، وبعد الفوز بنهائي دوري الأبطال، ربط رأسه بعِصاب كُتب فيه "100% المسيح"، في إشارة منه إلى أن كل هذا تحقق بسبب الإيمان، وهي العبارة نفسها التي وضعها بعد حصد الميدالية الذهبية الأولمبية (عام 2016).

ماذا يفعل البرازيليون في كأس العالم؟

  • يزين البرازيليون كل 4 أعوام شوارعهم كنوع من المؤازرة لمنتخبهم الوطني في كأس العالم
    يزين البرازيليون كل 4 أعوام شوارعهم كنوع من المؤازرة لمنتخبهم الوطني في كأس العالم

منتخب البرازيل حقق 5 ألقاب في كأس العالم، الأكثر على الإطلاق. لم تكن منتخباتهم بلون أو عرق واحد، بل دائماً كانت موحَّدة. لم تكن ممكنةً التفرقة في تشارك الفقر والرغيف، فمنتخبهم كان أقوى من العنصرية. ليس مهماً أن تكون من أصول أفريقية أو أوروبية، فنحن نعيش تحت سماء واحدة، في مكان اسمه الوطن، واسمه البرازيل، واسمه يضمنا جميعاً.

كل أربعة أعوام، يزين البرازيليون شوارعهم وأحياءهم كنوع من المؤازرة لمنتخبهم الوطني في كأس العالم لكرة القدم. ويشهد هذا التقليد تنافساً بين السكان للفوز بجوائز لأكثر التصميمات إبداعاً، الصغير والكبير يحضران من أجل المشاركة في هذا التقليد. في الشوارع الغنية والفقيرة في المدينة والريف كرة القدم توحّدهم. الألوان تجمعهم، وكذلك سيكون القميص الأسود.

اقرأ أيضاً.. نيمار يحتفل بوشم أولمبي