كرد تركيا.. من حلم الدولة القومية إلى الاعتراف بالهوية الثقافية والحقوق المتساوية
أثار إعلان نزع السلاح مشاعر مختلطة بين الكرد، لا تخلو من قلق سيطر على الشارع الكردي في تركيا، تعززه جهود سلام ومساعٍ سابقة باءت بالفشل، على مدى أعوام، من أجل وقف الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني والقوات التركية.
-
كرد تركيا.. من حلم الدولة القومية إلى الاعتراف بالهوية الثقافية والحقوق المتساوية
ينتظر كرد تركيا، بترقب وتوجس كبيرين، مرحلةً مقبلة تُوصف بالتاريخية، يحدوهم الأمل في تنفيذ الحكومة إصلاحات واسعة، تتضمن الاعتراف بالهوية الثقافية الكردية كجزء من التعددية الثقافية في البلاد، وحماية حقوقهم المدنية والاجتماعية، وإفساح المجال لمشاركة سياسية من دون قيود، ترافقها حركة تنموية حقيقية وتعزيز للاقتصاد المتراجع في المناطق ذات الأغلبية الكردية في البلاد.
ويأتي هذا التفاعل في الشارع الكردي في أعقاب إعلان نزع سلاح حزب العمال الكردستاني من جانب واحد، ابتداءً من مطلع الشهر الجاري، والذي جاء استجابة لدعوة وجّهها العضو المؤسس لحزب العمال الكردستاني، عبد الله أوجلان، القابع في أحد السجون التركية منذ عام 1999، عبَّر فيها عن رغبته في إنهاء الصراع المسلح، الذي استمر أكثر من 40 عاماً.
وتُرسّخ هذه الدعوة الخيار الديمقراطي، الذي يقوم على المشاركة والاعتراف بالهويات المتعددة ضمن إطار الجمهورية، والتخلي عن فكرة إقامة دولة قومية كردية مستقلة، والتي لطالما نادى بها الحزب منذ تأسيسه حتى عام 2005، حين بدّلها بالحكم الذاتي، من دون التخلي عن حمل السلاح.
يشكل الكرد في تركيا مجموعة عرقية مميزة، تتمتع بسمات ثقافية ولغوية خاصة، وتمثل الأقلية العرقية الأكبر في البلاد، ونسبنها تتراوح بين 20% و25% من المجموع الكلي للسكان، وتعدادها يصل إلى نحو 20 مليون نسمة.
ويتركز وجود الكرد في 23 ولاية شرقي البلاد وفي الجنوب الشرقي لها، في المنطقة التي تُسمى كردستان الشمالية، حيث يشكِّلون فيها الأغلبية الساحقة، وعددهم يربو على 80% من مجموع السكان، في منطقة تغطي مساحتها نحو 230 ألف كيلومتر مربع من الأراضي التركية، بما في ذلك ولاية ديار بكر، التي تُعرف بأنها العاصمة الثقافية والسياسية غير الرسمية للكرد في تركيا.
وهاجرت أعداد كبيرة منهم، طوعاً أو قسراً، إلى المناطق الحضرية، ولاسيما المدن التركية الكبرى، مثل إسطنبول وإزمير وأنقرة وأضنة ومرسين. وتضمّ مدينة إسطنبول وحدها أكثر من 3 ملايين كردي، وتُشكّل أكبر مدينة للتجمع الكردي حول العالم.
مشاعر يتجاذبها الأمل والتوجس
أثار إعلان نزع السلاح مشاعر مختلطة بين الكرد، لا تخلو من قلق سيطر على الشارع الكردي في تركيا، تعززه جهود سلام ومساعٍ سابقة باءت بالفشل، على مدى أعوام، من أجل وقف الصراع المسلح بين حزب العمال الكردستاني والقوات التركية.
وتزيد في حدة التوجس الكردي ضبابيةُ الخطوات المستقبلية للسلطات في أنقرة، إذ لم يصدر عنها بعدُ ما يُعَدّ استجابة صريحة للمطالب العرقية الكردية.
وعلق الرئيس التركي، رجب طيب إردوغان، على الأحداث، وقال إن مجرد "إزالة ضغط الإرهاب والسلاح" يوسع بشكل تلقائي مساحة الديمقراطية، لكنه لم يحدد إجراءات بعينها يمكن تقديمها إلى الكرد في المرحلة المقبلة.
ويُعبر عن شعور القَلق السائد في المجتمع الكردي، تجاه الخطوات الرسمية، سادات دينلي، في حديثه إلى الميادين نت، بحيث قال "إن نداء السلام من أوجلان جيد، ونتمنى أن يتحقق، لكن عندما ننظر إلى وجود قادة كرد سياسيين في السجن، مثل أوجلان وصلاح الدين دمرتاش، لا نستطيع التفاؤل كثيراً. لا يزال عدم الثقة هو المهيمن، والكرة في ملعب الحكومة التركية".
ويطالب الكرد بخطوات حقيقية ملموسة في واقع حياتهم، بينها الحقوق المسلوبة. وفي حديثه إلى الميادين نت، يقول عبد الله دوغلو: "نحن مع إعلان وقف إطلاق النار، لكن يجب على الحكومة أولًا إعادة جميع البلديات الكردية إلى أصحابها، بعد أن وضعت يدها عليها وأقالت رؤساءها المنتخبين، وعيّنت مشرفين عليها من طرفها، هذا أمر لا نقبله، وخلفه أهداف سياسية يجب تصحيحها".
في جانب آخر، يستقبل كثيرون من الكرد الدعوة بكثير من الإيجابية، كونها فرصة للتحول الديمقراطي. ويَشعر هؤلاء بالراحة تجاه الخطوة، التي تقود إلى وقف القتال الدامي، الذي أودى بحياة نحو 40 ألف شخص في المناطق الكردية، إضافة إلى أن وقف إطلاق النار يعزز فرص حركة التنمية في المناطق الكردية.
ويعرب محسون كراتاش للميادين نت عن أمله أن يعمّ السلام ويتوقف العنف وإراقة الدماء في عموم تركيا، وأن تتعمق روح الأخوّة بين أبناء الوطن الواحد من العرقيتين التركية والكردية. ويضيف أن المستقبل سيكون أفضل، وهذه المبادرة ستحقق الوئام المجتمعي، وتحسّن اهتمام الحكومة بالمناطق الكردية وتطويرها، على نحو يعود بالنفع علينا وعلى أولادنا وتجارتنا".
من جانبها، أعربت الحكومة التركية عن نيّات حسنة، حين أعلنت خطة تنمية إقليمية، تكلفتها 14 مليار دولار أميركي، تستهدف مناطق الجنوب الشرقي من البلاد، في أعقاب الاجتماع الذي قام به الحزب الديمقراطي الكردي مع أوجلان، في كانون الأول/ديسمبر الماضي، في إطار المباحثات الرامية إلى الوصول إلى وقف الصراع الدامي.
حلم الدولة القومية
يشكّل الكرد في تركيا جزءاً من مجموعة عرقية ممتدة، تمتلك روابط مشتركة، تتمثل بوحدة التاريخ والثقافة واللغة. وترجع جذورهم إلى الجنس الآري، من فرع العائلة الهندوأوروبية، والتي هاجرت في عصور ما قبل الميلاد من أواسط آسيا، واستقرت في مناطق من غربي آسيا، عُرفت فيما بعد باسم كردستان.
ويقدَّر عدد الكرد حالياً بنحو 40 مليون نسمة حول العالم، ومعظمهم يقطنون في إقليم كردستان، الذي يمتد على أراضٍ متصلة، في أربع دول شرق أوسطية، هي: تركيا والعراق وسوريا وإيران. ويعتنق معظمهم الدين الإسلامي، ويتحدثون اللغة الكردية، بلهجاتها المتعددة، مثل: الكرمانجية والزازا والسورانية.
وخلال الحقبة الإسلامية، أسس الكرد في بعض الفترات إمارات تمتعت بحكم ذاتي في إطار الدولة الإسلامية. وبحلول القرن السادس عشر الميلادي، كانت أغلبية أراضي كردستان تقع تحت سيطرة العثمانيين، ونشأت فيها 17 إمارة كردية، حصلت جميعها على حكم ذاتي.
وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى، وسقوط الدولة العثمانية، قدم الحلفاء وعوداً بإقامة دولة كردية مستقلة في أراضي كردستان، بحسب ما كان مقرَّراً في معاهدة سيفر في عام 1920.
لكن حلم الدولة الكردية انهار بعد معاهدة لوزان عام 1923، ووجد الكرد أنفسهم بلا دولة قومية، وبلا حكم ذاتي. وأصبحت كردستان مقسمة بين أربع دول، هي: إيران والعراق وسوريا وتركيا، التي حازت الحصة الأكبر، على نحو يوازي شطر إقليم كردستان.
صراع من أجل الحقوق
عقب قيام الجمهورية التركية عام 1923، قام الكرد بحركة تمرد، فاتخذت الحكومة آنذاك، ثم الحكومات المتعاقبة، سياسة تذويب الهوية الكردية، والتهميش والإقصاء ضد المكوِّن الكردي، وقمع عمليات التمرد. ونفذت عدداً من الإجراءات، مثل: حظر اللغة الكردية، ومنع المطبوعات الصادرة بها، وإغلاق المؤسسات والمدارس الكردية.
وخلال العقدين الأوَّلين من حقبة الجمهورية، عمدت الحكومة التركية إلى ترحيل الكرد من مناطقهم التاريخية في كردستان الشمالية إلى مناطق أخرى في البلاد، ولاسيما المناطق الغربية، بهدف تفكيك المجتمعات القبلية الكردية التقليدية، واستيعابها داخل المجتمع التركي، وتقويض الحركات الانفصالية.
وظهرت مجموعة من حركات التمرد والثورات في النصف الثاني من القرن المنصرم، مطالِبةً بحقوق الكرد الثقافية والاقتصادية والسياسية، لكن، منذ عام 1984، أخذ الصراع منحى خطيراً، مع إعلان حزب العمال الكردستاني العصيان المسلح، مطالباً بحق كرد تركيا في تقرير المصير. واتُّهم حزب العمال بالقيام بعدد من العمليات العسكرية في مناطق متعددة في البلاد، راح ضحيتها مئات القتلى والمصابين.
غير أن القتال الدامي بين الحكومة التركية والمسلحين الكرد، والذي استمر نحو أربعة عقود، تركز في مناطق تجمع الكرد في كردستان الشمالية، وأدى إلى تدهور الأوضاع الأمنية والاقتصادية في المنطقة. وتم تدمير أكثر من 3 آلاف قرية كردية، وقُتل عشرات الآلاف، ونزح ملايين المدنيين، وسط حركة اعتقالات واسعة طالت الكثيرين. وتمت إقالة كثير من المسؤولين الكرد من مناصبهم الحكومية، وجرى التضييق على الجماعات السياسية الكردية.
حل المسألة الكردية سلمياً
مع وصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة في تركيا، مطلع القرن الحالي، سعت الحكومة في أنقرة لحل المسألة الكردية، عن طريق تمكين الكرد من الحصول على حقوقهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية والقانونية، وتوفير مناخ ديمقراطي يسمح لهم بالتعبير بحرية عن هويتهم الثقافية.
وقامت الحكومة بعدد من الإجراءات القانونية لإزالة القيود المفروضة على استخدام اللغة الكردية والتعبير الحر عن الهوية التركية، فقامت بتعديل قانون حظر تعليم اللغة الكردية، وتم السماح بإطلاق أسماء كردية على المواليد، وإزالة الحظر عن المؤسسات الإعلامية التي تبث أو تنشر باللغة الكردية.
وتبنت الحكومة التركية استراتيجية التنمية أداةً لمكافحة التمرد، وقامت بتنفيذ مشاريع اقتصادية وتنموية في مناطق جنوب شرقي البلاد، ذات الأغلبية الكردية، مثل: شق الطرق وإنشاء المستشفيات والمطارات والجامعات.
وشهدت الساحة السياسية مشاركة فعّالة لأحزاب كردية، مثل حزب الشعوب الديمقراطي وحزب الديمقراطية ومساواة الشعوب وحزب الدعوة الحرة (حزب الهدى) المحافظ، وحظى الكرد بعشرات المقاعد النيابية منذ عام 2015.
وفي الوقت نفسه، نشطت المباحثات بين الحكومة وحزب العمال الكردستاني من أجل الوصول إلى حل يضمن إحلال السلام. وعلى الرغم من نجاح مسار المفاوضات في الفترة بين عامي 2013 و2015، فإن نزف الدماء عاد من جديد بعد انهيار المسار السلمي، وعاد العنف والصراع العسكري على أشدهما.
وتأتي التطورات الأخيرة بارقةَ أمل جديدة لإحلال السلام، ولاسيما إذا قامت الحكومة في أنقرة بتنفيذ الإصلاحات الديمقراطية والتنموية المأمولة، وإزالة العقبات التي تعترض الهوية واللغة الكرديتين.