كرد سوريا.. الاتفاق مع دمشق يجدد رحلة البحث عن "الهوية"

كان الاتفاق الأخير بين دمشق والكرد بمثابة بارقة أمل للمجتمع الكردي ليكون جزءاً أصيلاً من مكونات الشعب السوري، ويُنهي حقبة طويلة من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لكن سرعان ما عادت رحلة الكرد في البحث عن "الهوية السورية" إلى نقطة البداية.

0:00
  • كرد سوريا.. الاتفاق مع دمشق يجدد رحلة البحث عن
    كرد سوريا.. الاتفاق مع دمشق يجدد رحلة البحث عن "الهوية"

تشير التقديرات إلى أن الكرد يشكّلون نسبة 15% من عدد السكان في سوريا، ويصل تعدادهم إلى أكثر من 3 ملايين نسمة، يتمركز غالبيتهم في شمال شرق البلاد، ضمن مدن الرقة والحسكة والقامشلي، وبعضهم في ريف حلب، بينما ينتشر عدد من الكرد في باقي المحافظات السورية وتحديداً في دمشق العاصمة وريفها.

على مرّ السنوات، اندمج الكرد في المجتمع السوري وبات غالبيتهم يتحدثون اللغة العربية إلى جانب لغتهم الأم، ولا يُجمع الكرد على لغة واحدة، بل يتحدثون الكثير من اللهجات المنبثقة من اللغات القديمة، مثل: البهلوية والسنسكريتية والميدية، وتختلف تلك اللهجات وتتباين باختلاف القبائل والمناطق.

يعيش الكرد إلى جانب العرب والسريان والأرمن في منطقة الجزيرة السورية منذ مئات السنين، وقد تبادلوا التأثير فيما بينهم بالعادات والتقاليد والأفكار وأسلوب المعيشة، وبرغم ذلك حافظ الكرد السوريون على خصوصيتهم الثقافية والاجتماعية من اللغة والشعر والأدب، كما لهم بصمات في الشعر الصوفي الذي لا يزال حيّاً، وتحديداً ما يُعرف باسم "التكايا"، خصوصاً في التكية النقشبندية التي تعدّ المرجع الأعلى للمتصوفة على الطريقة النقشبندية للعرب والكرد على حدٍ سواء.

للأعراس لدى الكرد طقوس خاصّة، من خلال الدبكات والأغاني والولائم، وقد يقيم بعض الأثرياء حفلة تدوم أسبوعاً تُنصَب خلالها خيمة واسعة كبيرة، يضربون خلالها الدفوف والمزامير، ويتجمّع الناس من كل مكان في القرى المحيطة، وتقام خلالها الولائم، وهو أمر كان يباهي به الأثرياء وزعماء العشائر ومخاتير القرى والوجهاء في المدن.

أما الدبكات الكردية فهي شديدة التنوّع وتصل إلى نحو خمسين دبكة، أهمّها: الدبكة التقليدية التي تعتمد حركات بسيطة قوامها عدة هزات في الكتف، تليها خفقة وانحناءة يسيرة، تساير أنغام البزق والغناء المصاحب من فنان يتجوّل بشكل دائري في الحلقة الكبيرة التي يعقدها الراقصون، وهناك رقصات أخرى مشهورة كرقصة الحصاد العريقة.

الكرد والسياسة في سوريا

كان الكرد السوريون أكثر انسجاماً في النسيج المجتمعي للبلاد من باقي الدول الموجود فيها الكرد، وشاركوا إلى جانب بقية السوريين في الثورة ضد الاحتلال الفرنسي، حيث برز اسم القائد العسكري الكردي إبراهيم هنانو، من قرية كفر تخاريم التابعة لمحافظة إدلب، ليكون مدافعاً قوياً عن استقلال الوطن، وكان هنانو أحد القادة البارزين الذين أطاحوا بالقوات الفرنسية؛ كما كان لسوريا 3 رؤساء من أصل كردي بين عامي 1949 و1954 هم: حسني الزعيم، وفوزي سلو، وأديب الشيشكلي.

عام 1962، أجرت الحكومة السورية تعداداً طارئاً في محافظة الحسكة ذات الأغلبية الكردية، وألغت جنسية 120 ألف كردي في سوريا، بزعم أنهم دخلوا البلاد بشكل غير قانوني من العراق وتركيا، ولم يتمكن الكرد طوال السنوات اللاحقة من الحصول على حقوقهم الأساسية في البلاد ومنها "البطاقة الشخصية السورية".

عام 2004 كان مفصلياً لكرد سوريا، حيث شهدت مدينة القامشلي أعمال شغب واسعة النطاق، عندما تحوّلت مباراة كرة قدم إلى أحداث عنف دموية، وامتدت الاشتباكات إلى الحسكة ودير الزور، قبل أن تنجح القوات الأمنية في ضبط الأمور، لتبدأ بعدها الحكومة السورية بإجراءات مشددة للتضييق على الكرد.

بعد بدء الحرب في سوريا، عمدت فصائل كردية إلى تسليح نفسها وتثبيت مواقعها في مناطق شرق الفرات، قبل أن تؤسس عام 2015 "قوات سوريا الديمقراطية"، التي تضم نسبة كبيرة من الكرد إلى جانب مشاركة ضئيلة لبعض العشائر العربية والسريانية والآشورية،  وخاضت "القوات" عمليات عسكرية إلى جانب قوات التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة ضد تنظيم داعش في الشرق السوري.

وفي العام 2016 أعلنت قوى كردية عن تأسيس نظام فدرالي ضمن مناطق سيطرتها شمال شرق سوريا، تحت اسم "​​الإدارة الذاتية"، وضم محافظات الحسكة والرقة ودير الزور، في مشروع اعتبره الكثيرون نواة لتحقيق الحكم الذاتي الكردي.

الاتفاق مع دمشق

بعد سقوط نظام الأسد في كانون الأول/ ديسمبر الماضي، بدأت الإدارة السياسية الجديدة في سوريا مفاوضات مكوكية مع قوات سوريا الديموقراطية الممثل الأكبر للكرد في البلاد، وأثمرت المباحثات عن اتفاق "تاريخي" يقضي بدمج "قسد" ضمن مؤسسات الدولة السورية.

ونصّ الاتفاق بين الطرفين على ضمان حقوق جميع السوريين في التمثيل والمشاركة ضمن العملية السياسية وكافة مؤسسات الدولة بناءً على الكفاءة، بغض النظر عن خلفياتهم الدينية والعرقية، كما أكد الاتفاق على أن المجتمع الكردي مجتمع أصيل في الدولة السورية، وتضمن الدولة السورية حقه في المواطنة وكافة حقوقه الدستورية.

الاتفاق من شأنه أن يُبعد شبح الحرب عن المدنيين شمال شرق سوريا، بعد أكثر من 14 عاماً من المعاناة الأمنية والاجتماعية والمعيشية، كما أنه ركيزة أساسية لوحدة الأراضي السورية ورفض أيّ مشاريع انفصالية، في محاولة لترسيخ مبادئ وقيم العدالة الاجتماعية وتكافؤ الفرص، وتثبيت حالة السلم الأهلي والاستقرار الأمني.

اقتصادياً؛ يُعتبر اتفاق الكرد مع دمشق ضرورة ملحّة لإنعاش الاقتصاد السوري المتهالك جراء سنوات الحرب الطويلة، وقد يؤدي الاتفاق إلى إيجاد حلول إسعافية للخدمات الأساسية كالكهرباء والمحروقات والقمح، حيث تُشكل مناطق الجزيرة السورية خزاناً نفطياً وغازياً وزراعياً، لذلك فإن عودة المؤسسات الحكومية إلى شرق الفرات سيكون له تأثير إيجابي متبادل على الجزيرة السورية وباقي المحافظات السورية.

الحديث الإيجابي بعد الاتفاق عن إمكانية اندماج حقيقي للمجتمع الكردي في النسيج السوري سرعان ما بدده الإعلان الدستوري في دمشق، الذي وقّعه رئيس المرحلة الانتقالية أحمد الشرع، وغاب عنه أيّ إشارة إلى حماية حقوق الكرد، وهو ما دفع "الإدارة الذاتية" الكردية لاعتبار أن الاتفاق يتنافى مع تنوع سوريا، ويضم بنوداً تتشابه مع حقبة حكم حزب البعث، لأنه يخلو من المكونات المختلفة في سوريا من كرد وعرب.

لقد كان الاتفاق الأخير بين دمشق والكرد بمثابة بارقة أمل للمجتمع الكردي ليكون جزءاً أصيلاً من مكونات الشعب السوري، ويُنهي حقبة طويلة من التهميش السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، لكن سرعان ما عادت رحلة الكرد في البحث عن "الهوية السورية" إلى نقطة البداية.

قصة "الكرد"

"الشجاع والغيور"، من هذا المعنى في اللغة الكردية انبثقت كلمة "كرد"، والتي تحمل في اللغة الفارسية معنىً مشابهاً هو البطل أو المحارب، إلا أن هذه الكلمة البسيطة باتت تضم تحت عباءتها شعباً كاملاً. 

الكرد هم مجموعة عرقية ينتمي أفرادها إلى ديانات مختلفة، إلا أن أغلبيتهم من المسلمين، ويقدّر عددهم في الشرق الأوسط بحدود 36.4 مليوناً إلى 45.6 مليون نسمة وفق إحصائية نشرها المعهد الكردي في باريس عام 2017، ويتركّز وجودهم في 4 دول، هي: تركيا وإيران والعراق وسوريا.

تقول الروايات إن الكرد ينحدرون من أصول عربية، وكانوا قد هاجروا إلى جبال كردستان قبل مئات السنين، وانقطعوا عن لغتهم الأم بسبب بعدهم واختلاطهم بغيرهم، وتؤكد بعض القبائل الكردية أنها تنحدر من أصول عربية، مثل: قبيلة الجاف والبهدينان والقيسانية والخالدية والمروانية؛ بينما هناك رأي آخر يقول إن الكرد ينحدرون من الجنس الآري، وهاجروا على شكل موجات من وسط آسيا، في الفترة ما بين القرنين الـ12 والـ9 قبل الميلاد.

لا يخفى على أحد رغبة الكرد في العصر الحديث بتحقيق حلم "دولة كردستان" التي تضم مناطق جغرافية بين سوريا وإيران وتركيا والعراق، إلا أن هذه الدول توافقت على منع قيام كيان سياسي مستقل للكرد، لأن ذلك كان يعني السماح بتحركات انفصالية على أراضيها.

ولم يتمكن الكرد من تحقيق حلم الانفصال طويل الأمد، سوى في تجربة واحدة هي "جمهورية مهاباد" التي أسسها الكرد الإيرانيون بدعم من الاتحاد السوفياتي عام 1946، ولكن الاتحاد سرعان ما انسحب من شمال غرب إيران بعد 11 شهراً فقط.

اخترنا لك