من صفد إلى دمشق.. قصة فلسطيني شاهد "التغريبة" مرتين

يروي الحاج أبو فايز (90 عاماً) للميادين نت تغريبته الممتدة عشرات الأعوام، من صفد إلى ريف دمشق، والتي أمضاها شاهداً حيّاً على عصر النكبات العربية والتهجير الفلسطيني والغطرسة الإسرائيلية.

  • من صفد إلى دمشق.. قصة فلسطيني شاهد
    من صفد إلى دمشق.. قصة فلسطيني شاهد "التغريبة" مرتين

تلخّص قصة علي محمد قاسم حكاية الفلسطينيين، الذين عاشوا لاجئين ومشتتين، وعايشوا أوجاع وطنهم العربي من نكبة عام 1948 إلى نكسة عام 1976، وكانوا شهوداً على أوجاع فلسطين في بلاد الشتات التي احتضنتهم، وهم اليوم يشاهدون تهجيراً جديداً من قطاع غزة شبيهاً بما جرى قبل 75 عاماً.

يتابع الرجل الفلسطيني علي محمد قاسم ما يجري في غزة بأدق التفاصيل من خلف شاشة التلفاز، ويقول: "عملية طوفان الأقصى أكبر دليل على القوة التي باتت تتمتع بها المقاومة الفلسطينية، بحيث امتزجت القوة العسكرية بروح المقاومة، والنتيجة هزيمة مدوّية لم يألفها العدو من قبل. لذلك، يقوم بعمل انتقامي دموي في قطاع غزة عبر استهداف النساء والأطفال والمستشفيات والمدارس، لكنه يقف عاجزاً عن تدمير المقاومة، وروح المقاومة المتجذرة في أبناء فلسطين".

يؤكد قاسم أن الاحتلال يريد تدمير المقاومة، وتهجير كامل أهالي غزة، كما جرى عام 1948، وهذا ما بدأ يجري في شمالي القطاع، لكن المقاومة واعية لهذه المخططات، وجاهزة لرد العدو وتدمير مخططاته. وإن كانت التغريبة قبل 75 عاماً طويلة زمنياً فإنها اليوم لن تتجاوز أسابيع، والعودة ستكون قريبة بفضل تضحيات المقاومة ووقوف الفلسطينيين إلى جانبها.

شمالي فلسطين.. بدأت الحكاية 

في منزله المتواضع في منطقة زبدين في ريف العاصمة السورية، دمشق، يروي الحاج أبو فايز (90 عاماً) للميادين نت تغريبته الممتدة عشرات الأعوام، من صفد إلى ريف دمشق، والتي أمضاها شاهداً حيّاً على عصر النكبات العربية والتهجير الفلسطيني والغطرسة الإسرائيلية، منذ نكبة عام 1948 حتى "طوفان الأقصى" عام 2023. 

وُلد علي محمد قاسم، عام 1933، لعائلة فقيرة الحال في مدينة صفد شمالي فلسطين. كانت عائلته تعمل في تربية المواشي في حقلها الموجود قرب المنزل. ويسرد قاسم كيف كانت العائلة وأهالي المنطقة يتعرّضون لمضايقات من عناصر الاستعمار البريطاني، بصورة مستمرة، عن طريق ابتزازهم بأرضهم وأموالهم، من أجل التضييق عليهم.

يستذكر قاسم الحوادث التي كان شاهداً عليها، وكيف بدأ اليهود، عام 1948، يتزايدون بصورة كبيرة داخل فلسطين، وعمدوا إلى شراء الأراضي بعد إجبار الناس على البيع، بالإضافة إلى ترهيب الأهالي بالقتل والاعتقال في حال عدم الخروج من المنازل.

يقول قاسم: "أذكر، في إحدى المرات، جاءت إلى المنطقة مجموعة من ضباط يهود حاملين مكبرات صوت، وطلبوا إلى الناس مغادرة منازلهم على الفور، وإلّا فسيتم الهجوم على المدينة وتدميرها فوق رؤوس قاطنيها. وهذا الأمر دفع الناس إلى الهرب خوفاً من بطش الجماعات الصهيونية المتطرفة".

يقول أبو فايز: "تم ترهيب الأهالي بقدوم جيش كبير، يضم جنوداً من أفريقيا وأوروبا، مدجَّجين بالأسلحة بهدف قتل الناس الذين يرفضون المغادرة. وكانت هذه الحملات الترهيبية تستمر طوال اليوم، وتترافق مع حملات اقتحام لبعض المنازل، التي يواجه مُلّاكُها الضباطَ. لذلك، كان الخيار الوحيد هو الرحيل، في ظل عدم وجود إمكانات عسكرية للمقاومة".

ويضيف: "في ذلك العام، كنت شاهداً على النكبة وعلى التغريبة الفلسطينية الأولى، بحيث هاجر الآلاف نحو سوريا والأردن ولبنان ومصر، لكني بقيت مع بعض أفراد أسرتي في صفد، ولم نغادر حتى عام 1967، عندما بدأت التغريبة الفلسطينية الثانية، ولا خيار أمام عائلتي في تلك الفترة إلا الهجرة".

لا تخلو حكاية الرجل التسعيني من لحظات إنسانية يسردها، بذاكرته الحادّة، عن مشاهد خروج الفلسطينيين من منازلهم وهجرتهم الجماعية عام 1948، فتسرق "أبا فايز" الدموعُ ويسكت برهة، قبل أن يقول: "اليوم، يتكرر المشهد في فلسطين. لقد تعوّد هذا الشعب على النكبات، وأصبحت الهجرة جزءاً لا يتجزأ من قاموسه". لكن قاسم يستدرك: "هذه المرة الهجرة موقتة، فالمقاومة أصبحت أقوى وأشد وأكثر تطوراً، وهي قادرة على رد العدوان وإعادة الحق إلى أصحابه". 

من شمالي فلسطين إلى سوريا

كانت سوريا من أبرز الدول التي لجأ إليها الفلسطينيون بعد النكبة عام 1984، وقُدّرت أعداد الفلسطينيين، الذين وصلوا إلى سوريا في ذلك العام، بـ85 ألف لاجئ، ويرجع معظمهم إلى سكان الجزء الشمالي من فلسطين، وخصوصاً صفد وحيفا ويافا.

تكرّر الأمر عام 1967 بعد النكسة، بحيث هاجر الآلاف من شمالي فلسطين إلى سوريا، وبينهم علي محمد قاسم وأفراد عائلته، الذين هاجروا سيراً على الأقدام مع عشرات العائلات التي هجّرها الاحتلال بقوة السلاح، بعد أن اقتحم منازلهم وأجبرهم على الرحيل، من دون أن يتمكنوا من جمع أغراضهم.

يسرد "أبو فايز" تفاصيل رحلة الهجرة الشاقّة التي استمرت أياماً: كيف ودّع منزل العائلة، والأرض، وأشجار الزيتون والرمان، من دون أن تفارق الدموع عينيه، بحيث ترك روحه في مكان، وغادر جسده إلى مكان آخر، لا يعرف عنه شيئاً. 

استقر الرجل بدايةً في منطقة خان أرنبة في القنيطرة، جنوبي غربي سوريا، وكان شاهداً على حرب تشرين التحريرية عام 1973 ضد الاحتلال الإسرائيلي، قبل أن يضطر إلى النزوح مرة أخرى إلى ريف دمشق.

جاهد قاسم لزرع مفهوم "العودة" في نفوس أبنائه وأحفاده، وعلّمهم أن قضية فلسطين يجب ألا تموت مهما طال الزمن، وأن المقاومة هي السلاح الوحيد لتحرير الأرض وعودة الحق إلى أصحابه. يقول "أبو فايز": "كنت شاهداً على كل أخبار فلسطين على مرّ الأعوام الطويلة الماضية، وعملت على نقلها وشرح تفاصيلها لأبنائي وأحفادي. ومع كل عدوان إسرائيلي كنت أسعى لإيضاح دور المقاومة في الانتصار الحتمي والمقبل في وقت قريب".

بقيت فلسطين، طوال الأعوام الماضية، حاضرة في قلب "أبي فايز" وعقله. يتابع أخبارها أولاً بأول. يزرع حبها في نفوس أبنائه، ويعلمهم أن ينقلوا قضية فلسطين من جيل إلى آخر، حتى تكون فكرة العودة عقيدة راسخة في فكرهم، لا كلاما يمحوه الزمن. لذلك، كانت الجملة الأخيرة التي قالها "أبو فايز": "سنعود قريباً إلى فلسطين".