التمثيل المشطوب في لبنان: حين يتغلّب الولاء للطائفة على الأمة
بين الطائفية والديمقراطية الوطنية، يقف لبنان اليوم على مفترق طرق حاسم: فإما أن يستعيد النواب دورهم ممثّلين للأمّة بكلّ تنوّعها، أو يبقى البرلمان انعكاساً مؤلماً لفسيفساء هويات متنازعة.
-
أزمة التمثيل في لبنان ليست مجرّد خلل قانوني!
ينصّ الدستور اللبناني في مادته السابعة والعشرين على أنّ "عضو البرلمان يمثّل الأمة بأسرها"، ولكن بين النص والممارسة هوة تتسع مع الزمن. فالنائب، الذي يفترض أن يكون صوت الأمة الجامعة، يتحوّل في الواقع إلى وكيل لطائفة أو مندوب لمنطقة محدّدة. هذا التناقض الفادح بين النص الدستوري والممارسة الفعلية، هو ما يمكن وصفه بـ "التمثيل المشطوب" في لبنان.
في هذا السياق، يكشف تحليل مضمون خطابات نوّاب لبنانيين بين عامي 2020 و2022 عن مشهد واضح: البرلمان لم يعد ساحةً للسياسة الوطنية بل صار حلبةً لصراع الهويات الفرعية. النائب علي عمار، على سبيل المثال، صرّح قائلاً: "أنا هنا أمثّل الضاحية الجنوبية، صوت الشيعة المقاومين"، متجاوزاً فكرة تمثيل الأمّة. النائب أنطوان حبشي بدوره قال: "أقف هنا مدافعاً عن حقوق أهلي في بشري"، مؤكّداً النزعة المناطقية في تمثيله.
نتائج الانتخابات النيابية الأخيرة (2022) تدعم هذا الانطباع المأساوي: نسبة التصويت الطائفي تجاوزت 80% في معظم الدوائر، وفق بيانات "الدولية للمعلومات". كما أظهر استطلاع أجرته "Information International" عام 2021 أنّ 67% من الناخبين اللبنانيين يفضّلون انتخاب مرشّح من طائفتهم بغضّ النظر عن كفاءته أو برنامجه السياسي.
هذه الأرقام ليست مجرّد إحصاءات، بل هي مرآة لخلل بنيوي عميق في الحياة السياسية اللبنانية. فالنائب الذي كان يجب أن يعبّر عن الإرادة العامّة، بات ممثّلاً لطائفة أو منطقة، محصوراً في قيد هويّته الضيّقة. إنّه "تمثيل مشطوب" بالمعنى الحرفي: التمثيل موجود شكلياً، لكنه مسلوب من جوهره الوطني.
من الناحية النظرية، استلهم الدستور اللبناني من الفلسفة السياسية التي عبّر عنها المفكّر البريطاني إدموند بيرك في القرن الثامن عشر، حين شدّد على أنّ النائب هو "وكيل للأمّة لا مرسال للناخبين". ولكن في لبنان، يتمّ تحوير هذا الدور، ويتحوّل النائب إلى "مندوب" لجماعته، يدافع عن مكتسباتها الخاصة على حساب المصلحة الوطنية الشاملة.
المفارقة أنّ الطائفية السياسية ليست قدراً حتمياً. تجارب دول أخرى تؤكّد أنّ التعدّدية الإثنية أو الطائفية يمكن أن تدار بآليات توافقية تحفظ الوحدة الوطنية، كما هو الحال في بلجيكا، حيث تُفرض آليات توافقية صارمة بين المكوّنات اللغوية رغم كلّ التوترات. أما في العراق، وبعد 2005، فقد أدى النظام النسبي إلى تفتيت البرلمان إلى كتل طائفية وإثنية متنازعة، مشكّلاً مشهداً سياسياً مشوّهاً لا يختلف كثيراً عن الحالة اللبنانية.
في المقابل، نجحت بعض الديمقراطيات التعددية مثل الهند في تجاوز الانقسامات الدينية واللغوية عبر نظام انتخابي واسع النطاق ودستور علماني صلب، مما وفّر مساحة لقيام حياة سياسية وطنية رغم التعدّد الهائل في الهويات.
هكذا يظهر أنّ أزمة التمثيل في لبنان ليست مجرّد خلل قانوني، بل هي تعبير عن ثقافة سياسية تضع الطائفة قبل الأمّة، وتحوّل النائب من مشرّع وطني إلى وكيل فئوي. فالعقد الاجتماعي الذي يقوم عليه النظام البرلماني مهدّد بالانهيار تحت وطأة هذا "التمثيل المشطوب".
ما هو السبيل للخروج من هذا المأزق؟
تقترح الدراسات الحديثة جملة إصلاحات ضرورية، في مقدّمتها اعتماد دائرة انتخابية وطنية واحدة وفق النسبية الكاملة، وإلغاء القيد الطائفي عن الترشيح والانتخاب، إضافة إلى تأسيس هيئة مستقلة تراقب انسجام الخطاب النيابي مع مفهوم التمثيل الوطني، وتصدر تقارير دورية تفضح الانحرافات الهوياتية.
لكنّ الإصلاح القانوني وحده غير كافٍ. إذ لا بدّ من معركة ثقافية طويلة الأمد لإعادة الاعتبار لفكرة المواطنة الجامعة. يتطلّب ذلك إصلاح المناهج التعليمية بدءاً من المدارس الابتدائية، لإرساء مفاهيم المواطنة والدستور والهوية الوطنية بعيداً عن الخطابات الطائفية المسمومة.
كذلك، يجب أن تؤدّي وسائل الإعلام دوراً نقدياً حقيقياً، بحيث تتوقّف عن إعادة إنتاج الخطاب الطائفي، وتبدأ بتعزيز الرواية الوطنية الجامعة. وفي المقابل، يتعيّن على المجتمع المدني، والأحزاب العابرة للطوائف إن وجدت، أن تخوض معركة الوعي السياسي بجديّة، لأنّ استعادة التمثيل النيابي للأمّة، لا للطائفة، يشكّل شرطاً أساسياً لبناء الدولة المدنية الحديثة.
في النهاية، ليس المطلوب إسقاط الطوائف كمكوّنات ثقافية، بل كسر احتكارها للتمثيل السياسي. لبنان، الذي تأسّس على فكرة العيش المشترك، مهدّد اليوم بفقدان روحه الجامعة إذا استمر "التمثيل المشطوب" يتحكّم بمصيره السياسي.
بين الطائفية والديمقراطية الوطنية، يقف لبنان اليوم على مفترق طرق حاسم: فإما أن يستعيد النواب دورهم ممثّلين للأمّة بكلّ تنوّعها، أو يبقى البرلمان انعكاساً مؤلماً لفسيفساء هويات متنازعة تتأكّل تحتها الدولة، ومعها حلم بناء وطن نهائي لجميع أبنائه.