الحرب الموازية: هل تجهز "الطبخة"؟

نحن في المرحلة الموازية من الحرب. ما هي المرحلة الموازية؟ هي ليست مرحلةً ثانية، لأنّ المرحلة الأولى في الواقع ما تزال مستمرّة. لكنّها مرحلةٌ تتزامن مع المرحلة الأولى التي تتمثّل بالحرب العسكريّة.

  • ما هو تعريف المرحلة الموازية في العدوان الأميركي- الإسرائيلي؟ 
    ما هو تعريف المرحلة الموازية في العدوان الأميركي- الإسرائيلي؟ 

في العادات الفارسيّة، حين تطهو "ستّ البيت" الأرزّ وينضج، لا تطفئ النار تحته، وإنما تخفّفها قدر الإمكان، ريثما تنضج اليخنة كذلك، ثمّ تصبح "الطبخة" جاهزةً للأكل! 

في السابع والعشرين من تشرين الثاني/ نوفمبر 2024 كان وقف إطلاق النار، لكنّ العدوان الإسرائيلي لم يتوقّف يومًا منذ ذلك التاريخ وحتّى الساعة. وعلى اختلاف الذرائع والتبريرات التي يردّدها إعلام العدوّ، فإنّ هذا الواقع يبدو غير غريب عن كلّ من أصبح على معرفةٍ بنهج هذا الكيان ومنهجيّته في الحروب التي يفتعلها ويفرضها على الشعوب ويشنّها. 

المسألة باتت واضحةً لكلّ عاقل. نحن في المرحلة الموازية من الحرب. ما هي المرحلة الموازية؟ هي ليست مرحلةً ثانية، لأنّ المرحلة الأولى في الواقع ما تزال مستمرّة. لكنّها مرحلةٌ تتزامن مع المرحلة الأولى التي تتمثّل بالحرب العسكريّة، تختلف أدواتها وأساليبها، ويجري تفعيل هذه المرحلة أو العمل عليها في منهجيّة العدوّ، عندما تخفق المرحلة الأولى في تحقيق الأهداف والغايات المراد تحقيقها. ففي حال نجاح المرحلة الأولى في تسجيل النقاط المنشودة وتحقيق الإنجازات والأهداف، لا يجري الانتقال أو اللجوء إلى المرحلة الموازية وتوسّل استراتيجيّاتها. 

ما هو تعريف المرحلة الموازية في العدوان الأميركي- الإسرائيلي؟ 

إنّ المرحلة الموازية للحرب العسكريّة اليوم، هي مرحلة الحرب الإدراكيّة التي تستهدف المجال الإدراكي- المعرفي، وتسمّى كذلك معركة الوعي. وهي ليست بالظاهرة الجديدة، وإنّما هي نوع قديم من الحروب، دأبَت قوى الشرّ في العالم على استخدامها، بمقتضى المصالح والأنساق الزمنيّة.

والكلام عن الحرب الإدراكيّة لا يقف عند تخوم العبث بالأفكار والأذهان والرأي العام في الأمم المستهدفة، وإنّما ينطوي على مفهومٍ أكثر عمقًا وخطورةً؛ هو تفكيك نمط التفكير وإعادة صياغته أو بلورته بما يتناسب مع مخطّط "المهيمن" و"المحتلّ" في إيجاد المرونة والتقبّل والتطبيع في أذهان الشعوب. وذلك يصبّ في مسار إعادة تشكيل الوعي، من خلال تطويع ثوابت الهويّة الوجوديّة لدى هذه الشعوب، وصولًا إلى تفكيكها وتذرية هويّتها وبالتالي تجريدها من أيّ رغبة في المقاومة. 

والحرب الإدراكيّة أخطرُ مرحلةٍ من مراحل الحرب الناعمة. ذلك أنّها متعدّدة الأبعاد والمستويات، بتعدّد عناصر الإدراك ومكوّنات الفكر المقاوم. تتلخّصُ مستويات الحرب الإدراكيّة في ثلاثة: التشكيك، والتخويف، والتيئيس. 

1- التشكيك، وهو بثّ الشكّ وإيجاد الريبة في ثلاثة. أوّلًا في العقيدة، فيتزعزع إيمان الأفراد ويقينُهم بخيار الصبر الذي ذكر في القرآن الكريم، والذي يوازي اصطلاحًا معنى المقاومة ولا يختلف عنه. واهتزاز العقيدة يستتبع تزلزلًا في الإيمان، مّا قد يجعل الفرد يشكّ في خياراته ويعيد النظر فيها، ولاسيّما القضايا الأخلاقيّة والعقائدية. ثانيًا، الشكّ في القيادة، فيذهب الفرد إلى التشكيك في قدرات القيادة الجديدة، أو في مواقفها، وقد يتوسّل مقارناتٍ غير مفيدة ما بين القيادات السابقة والجديدة، فيجد لنفسه تبريرًا لترك القيادة وعدم الوقوف في ظهرها. ثالثًا، الشكّ في الأصدقاء والحلفاء، فتزداد الشكوك بأقوى حلفائنا تاريخيًّا وتعلو أصوات الاتّهامات بالخذلان والتخلّي والخيانة والبيع. علمًا أنّ هذه الشكوك بكلّ أنواعها لا تستند إلى معايير واقعيّة، وإنّما يضخّم العدوّ تصوير منجزاته الوهميّة غالبًا، ويسخّر الماكينة الإعلاميّة، يخدمه في ذلك انعدام الوعي لهذه المرحلة من الحرب الناعمة، وبالتالي، النفي المستدام والإنكار المتواصل على اعتبار أيّ حديث من هذا النوع يصبّ في "نظريّة المؤامرة". 

2- التخويف، وهو بثّ الخوف في نفوس البيئة المستهدفة، من عدّة أمورٍ، أبرزها عواقب خيار المقاومة، حيث يعيد الفرد حساباته نتيجة هذا الخوف، إلى جانب الخوف من الحرب وما يتبعها من موتٍ ودمارٍ وفقدٍ وتشرّدٍ ونزوحٍ وحصارٍ حتّى من البيئات الأخرى التي يعمل على ذهنيّتها بالتزامن وقد نجح إلى حدٍّ ما في إيجاد الشرخ الكبير ثقافيًّا بين أطياف الشعب اللبناني. يضاف إلى ما سبق، الخوف من قدرات العدوّ أمام حملات التضخيم والتعظيم وتزييف المعلومات والبيانات في فضاءات الإعلام والميديا. 

3- التيئيس، وهو بثّ اليأس في صفوف المجتمع المقاوم، من خلال رسم صورة سوداويّة للمستقبل وإعطاء تصوّر تشاؤمي عن المصير، ما يُفضي إلى إيجاد الوهن في العزائم وصولًا إلى اختيار النأي بالنفس أو الحياد كمرحلةٍ أخيرة. 

إذًا، فالمستهدف في الحرب الإدراكيّة هو عقول الناس، لأنّ العقل سابقٌ على الفعل وصانعٌ له، فإذا تغيّرت العقول، تبدّلت حتمًا السلوكيّات والمواقف والإرادات والقرارات. 

هي مرحلةٌ موازية للحرب العسكريّة، تستهدف العقول والإرادات، من دون أن تتوقّف عن استهداف الأرواح. فماذا يصنع العقل المقاوم للتصدّي لمفاعيل هذه المعركة الإدراكيّة التي تضعه نصب عينيها؟

يعدّ الوعي بماهيّة هذه المرحلة الحجر الأساس في بناء ساتر المقاومة المعرفيّة. ولعلّ من المجدي القول إنّ لدى المجتمع المقاوم ما يكفي من مكوّنات الصمود والتصدّي المعرفي والإدراكي لكلّ محاولات التيئيس والتشكيك في معركة الوعي الحاليّة. وإنّ هذه المكوّنات تقدّمها هويّة هذا المجتمع الإسلاميّة، في ثلاثيّةٍ كفيلةٍ بحفظ العقل المقاوم أمام ثلاثيّة الشك- الخوف- اليأس، وهي تتلخّصُ بالصبر، والتوكّل، والتبيين. 

فالصبرُ في الثقافة القرآنيّة لا يختلف عن المقاومة، وإنّما الصبر يعني المقاومة، وما فيها من حركةٍ ونهضةٍ رافضة للظلم، فهو صبرٌ فعّالٌ وليس بمعنى المكوث والسكون. والتوكّل، بمعنى عدم السماح بإضعاف الشعور الإيماني بالإرادة الإلهيّة والعدالة السماويّة واليوم الآخر، فاختزال الحروب ونتائجها بالقدرات العسكريّة وعدّاد الناجين والضحايا والثروات، أمرٌ عبثيٌّ يفضي إلى الحيرة والشتات.

والتوكّل من نتائج الإيمان في كلّ الأديان والشرائع، وهو من العناصر المعزّزة لقوّة الإنسان وتماسكه الداخلي. وأمّا التبيين، فارتبطَ دائمًا بوجه الحقيقة الأصلي. والتبيين يجلي الحقائق بشفافيّةٍ أمام محاولات التحريف والتزييف. وهو اليوم جهادٌ لا يقلّ أهميّةً عن الجهاد العسكري لأنّه ما يحفظ الحقيقة، مثلما يحفظ الجهاد العسكري الأرض. 

وبعد هذا، ماذا ننتظرُ من إيماننا الديني؟ 

هل ننتظرُ أن يرفع عن رؤوسنا الركام والأسلحة ويخلّصنا من الموت؟ مثلما ينتظرُ مريضٌ أن يخلّصه الله من المرض وينكر ضرورة الطبّ؟ هل ننتظر معجزةً سماويّةً تحلّ لتخلّصنا من هذا الكيان الغاشم؟ أم يقوم كلٌّ منّا بأداء واجبه الفردي في مسار تحقيق المجتمع الثابت والمحكم أمام مختلف التحديات؟ 

لعلّ الإجابة تكمنُ في ذواتنا، وفي النهاية، نزلت الشرائع السماويّة لترسم لنا مسار التكامل الإنساني، والتكامل العقلي والمعرفي، وفيها نجاتنا لأنّها تمنحنا الصلابة والقوّة الداخليّة، وليس لأنّها تنتشلنا بأعجوبةٍ من براثن القتل والظلم. إنّنا نحن من نصنع الأعاجيب، وعند وعيِنا الثابت.. تسقطُ كلّ الاعتبارات، وتتحقّق المعجزة!

بالعودة إلى "ستّ البيت"، إسرائيل اليوم خفّفت من حدّة الحرب العسكريّة، ولم توقفها، وإنّما فعّلت الحرب الإدراكيّة حتّى تنضج مفاعيلها، متوهّمةً أنّ "طبختها" ستكون جاهزة قريبًا. فهل من أعجوبةٍ تشبه انتصارات الميدان، يصنعها الوعي المقاوم، ليحرمَ العدوّ وجبتَه اللذيذة؟