السنوار حمل العدالة بيد ورفع الحرّية بِعصا

يحيى السنوار كأيّ فلسطيني آخر، ولد فوق كتفيه 100 عام احتلال، عمرُ تتنافسه المعتقلات والاقتلاع والحصار، وحياة مغمّسة بالدم وموعودة بالفناء.

  • اللحظات الأخيرة في حياة يحيى السنوار ولادة لا موت.
    اللحظات الأخيرة في حياة يحيى السنوار ولادة لا موت.

منذ نشوئها وضعت "إسرائيل" مصير الفلسطينيين ضدّ مصيرها، اقتلعتهم، صنعت نكبتهم والآن تريد إبادتهم كأنّ حياتهم تعني موتها. التطهير العرقي لم يستحدث الآن في الحرب على غزّة، ونتنياهو ليس مجرماً لا مثيل له بين الإسرائيليين الذين يُحب كلّ واحد منهم أن يكون بن غوريون. حلم دموي حالك يعيشونه في وضح النهار، وسط عالم عبارة عن شريك جريمة يتخفّى خلف جريمة الصمت، بينما حكّام العرب أصنام لا يحملون "طُهر الصنم"، على قول الشاعر عمر أبو ريشة.

"إسرائيل الكبرى" حدودها السماء الزرقاء لا بين الفرات والنيل فقط، لم يخترعها نتنياهو الآن. "قصّة آلون وغابة لبنان" مشروع متكامل للغزو، خطّة مُعدّة قبل ألفي عام تباركها آلهة لا مثيل لها، تعلّم "شعبها الخاصّ" أنّ الآخر في أحسن الأحوال عدوّ، وفي أرذلها دابّة موهوبة للسخرة.

بهذه الخرافة تخدّرت شعوب، وزوّر التاريخ والجغرافيا بتواطؤ الغرب الذي "صودف" أنّه استعماري، و"إسرائيل" ليست سوى امتداده المادّي، بينما هو امتدادها الثقافي، الذي برّر طوال خمسة قرون جرائم الإبادة للسكان الأصلين في قارّات بأكملها.

في حياة كهذه وعالم كهذا جاء "طوفان الأقصى" كأضعف الإيمان. رأى البعض أنّه تأخّر، ويرى آخرون أنّه منح فرصة لـ "إسرائيل" لاستكمال سيطرتها على كامل فلسطين، ومدّ هيمنتها على الإقليم وأبعد. كما أنّ هذه المواقف ليست ناتجة عن "الطوفان" الذي لا يمكن قياسه بالواقعية السياسة فقط أو بتبنّي خطاب نقدي، هو في الحقيقة موقف أصحابه قبل الطوفان وبعده، وهو موقف من حماس لصلتها الأيدولوجية بـ "الإخوان المسلمين"، يريدون محاسبتها متجاهلين مأساة الفلسطينيين، و"القضية الأولى" للعرب كما زعموا ردحاً من الزمن.

هؤلاء "الواقعيّون"، وبينهم حكومات وقوى ومثقّفون وجدوا راحة على أريكة البراغماتية، حلّلوا وحرّموا، صالحوا "إسرائيل" مع أنّهم لم يناوشوها قطّ، يخافون من "الإسلام السياسي" على السلطة، كونه يمتلك شرعية للحكم تفتقدها معظم الأنظمة العربية التي تعرف أنّه في حال إجراء أيّ انتخابات "فعلية" ستحصد "التيارات الإسلامية" النتائج، كتعبير وردة فعل على فشل قيام الدولة الوطنية ناهيك عن القومية.

في القمّة الثنائية بين العالمين العربي والإسلامي في الرياض بعد نحو شهر على الطوفان، ظهر نحو ملياري مسلم بوزن الريشة في الحلبة الدولية، معظم أنظمتهم ما زالت واقعة تحت استعمار مقنّع يغطّي حكم العائلات مقابل الالتزام بالواقعية السياسية التي تفرض تقزيم الصراع على أرض فلسطين، وتصوير الحرب على أنّها محدودة بين "إسرائيل" وحماس، لا أبعاد أخرى لها.

بالطبع هذا ليس قصر نظر بقدر ما هو خيانة للعقل، وتبنٍّ كامل للسردية الإسرائيلية الغربية. "اتّفاقات أبراهام" توضّح هذا أكثر من "كمب ديفيد" و"وادي عربة"، يريدونها أن تحسم تصفية القضية بتصفية الفلسطينيين، وهو ما يجري منذ نشوء "إسرائيل" ويبلغ ذروته الآن في غزّة والضفّة.

حين اكتشف ياسر عرفات أنّ "اتّفاق أوسلو" خدعة وسراب، قتلوه. لا شكّ في أنّ أَبا عمّار لو استطاع تحرير فلسطين بالكفاح المسلّح لما تأخّر. لكنّ البراغماتية التي انتهجها بعد سلسلة من الهزائم توّجت بالخروج من لبنان، لم تنجح، وعلى الأقلّ لم تنقذه من الاغتيال. 

شرعية قيادة ياسر عرفات تكاد تكون فريدة بين الحكّام العرب، فلقد أصبح رمزاً بإجماع الشعب الفلسطيني، وهذا أتاح له ما لا يمكن إتاحته لأيّ فلسطيني آخر، كان يمكنه أن يُوقّع في "كامب ديفيد" قبل ربع قرن، لكنّه رفض أن يكون براغماتياً لحظة الحقيقة، فالمعروض ليس "سلاماً"، والمقصود تكريس "الحقوق" الصهيونية بشهادة أبرز قائد للفلسطينيين، فأسقط "غصن الزيتون" من يده، انحاز للتاريخ واختار الشهادة.

الأيّام الأولى التي تلت "طوفان الأقصى"، كانت بليغة برسائلها. حشدت أميركا وأوروبا أساطيلها، هرول الرؤساء إلى "تلّ أبيب"، تسابقوا على إعلان صهيونيتهم، جو بايدن واظب على هذا الصراخ كلّ نصف ساعة، "المطبّعون" وجدوا فرصة لإدانة حماس، وأضافوا على المشهد السوريالي نكهة عربية، بينما الدول التي تتحدّث عن عالم متعدّد الأقطاب ظهرت مُحترفة أقوال لا أفعال.

في غزّة تشكّل مجتمع صغير من اللاجئين الفلسطينيين من قرى ومدن دمّرت أو هوّدت، تحيطها الأسلاك والجدران وأطنان الدبابات والطائرات زائد الإمبريالية بقضّها وقضيضها، تطوّق البحر، تحجز الهواء، تمنع أحلام الفلسطينيين الذين يراكمون معرفة عدوّهم من يكون، وأنّ الأرض التي يقفون عليها هي العالم، خطّ تماس في صراع تاريخي بدأ مع كريستوف كولمبوس، ولم ينتهِ مع بن غوريون، وسيستمرّ مع ترامب ونتنياهو، وبعدهما أغلب الظنّ.

وضع "طوفان الأقصى" القضية الفلسطينية حيث يجب أن تكون، وقلب طاولة كانت "تقف على رأسها"، ما قبله ليس كما بعده للفلسطينيين والإسرائيليين، وللعالم على حدّ سواء. لقد أمسك يحيى السنوار بصدر عدوّه، ونقل المواجهة من حافّة الهاوية إلى الهاوية نفسها، حيث تمويه الصراع لم يعد يجدي، وأطاح بساعة واحدة ما ترسّخ لعقود عن القوّة الإسرائيلية المطلقة، والضعف الفلسطيني المديد.

لم تكن فلسطين للحظة قضية محلّية، ولقد نشأت في خضمّ حربين عالميتين، نزعتها من موقعها وعمقها القومي في (جنوب سوريا)، ووضعتها في قلب الصراع الدولي بأبعاده السياسية والتاريخية كافة. وخلال عقود الحرب الباردة كانت فلسطين جبهة ساخنة باستمرار بين جبهات المواجهة، مثل الجزائر وفيتنام وكوريا وكوبا، وهي استمرّت على حالها حتّى بعد تفكّك الاتحاد السوفياتي، وإعلان الغرب عن "موت التاريخ" الذي ما زال يتبختر في فلسطين، وفي أرجاء البيت الأبيض وكلّ مكان.

فلسطين الآن منتشرة في كلّ أرجاء الأرض، بمقابل تبوّء "إسرائيل" مركز أكثر دولة مكروهة في التاريخ. ما قبل الطوفان ليس كما بعده للفلسطينيين والإسرائيليين، وللعالم على حدّ سواء. والصراع عليها هو صراع بين فكرتين لا يمكن أن تتجاورا، الأولى تمثّلها الهيمنة الإمبريالية، والثانية تمثّلها المقاومة في فلسطين وبيروت وطهران وصنعاء وأميركا اللاتينية وأفريقيا وروسيا والصين وغيرها، وحتى في الغرب نفسه، أطلق الطوفان وعياً عاماً مضادّاً لتدجين الشعوب وتزوير الحقيقة.

يتحمّل الفلسطينيون ما لا يستطيع أحد احتماله مطلقاً. دوّي الخذلان من حولهم أقسى من دويّ المدافع. يحيى السنوار كأيّ فلسطيني آخر، ولد فوق كتفيه 100 عام احتلال، عمر تتنافسه المعتقلات والاقتلاع والحصار، وحياة مغمّسة بالدم وموعودة بالفناء. سيرة تؤهّل صاحبها ألا يسأله أحد عن ماذا فعل، بينما المنطقي الاستهجان إن لم يفعل.

اللحظات الأخيرة في حياة يحيى السنوار ولادة لا موت. حمل العدالة بيد، ورفع الحرّية بعصا.