القوى العظمى ومستقبل النظام العالمي

سعى باحثون في أعمال شهيرة، مثل "نهاية التاريخ" لفوكوياما و"صراع الحضارات" لهنتنغتون، ليثبتوا أن التاريخ الإنساني توقف عند انتصار الرأسمالية.

  • القوى العظمى ومستقبل النظام العالمي
    القوى العظمى ومستقبل النظام العالمي

سهّل انهيار الاتحاد السوفياتي وسقوط نظام الحكم الاشتراكي تغيير طبيعة النظام العالمي من الثنائية القطبية إلى انفراد الولايات المتحدة الأميركية بالزعامة، وساعدا في تنصيبها حارساً على الشرعية الدولية، وتراجعت القضايا السياسية بالصراع الأيديولوجي بين الشرق والغرب وسعي دول أوروبا الشرقية للاندماج في النظام الرأسمالي.

تصاعدت نشاطات القوميات بأشكالها المختلفة في مواجهة أيديولوجية التعريف بصفة عامة والأمركة بصفة خاصة، وظهرت حركات انفصالية جديدة تدعو إلى تقسيم البلدان إلى دويلات نتيجة نمو الشعور الوطني للأقليات، في ظل تهميش دور النظم والمنظمات الدولية والإقليمية، مع ضعف فاعلية حركة عدم الانحياز. ومع زيادة وتيرة العصيان في عدم حل المشاكل وظهور اختلاف في توجهات القوى الكبرى، سعت بعض القوى الإقليمية لامتلاك أسلحة الدمار الشامل.

 المجال الاقتصادي وإرهاصات "النظام العالمي الجديد"

تأثرت جميع الدول بالأزمات التي حدثت حينها في أي مكان في العالم، طبقاً لقرب المسافات وبُعدها، مع تطبيق سياسة الانفتاح وتحرير التجارة العالمية، وإنشاء "منظمة التجارة العالمية" لتنظيم العلاقات التجارية وسن القوانين والتشريعات اللازمة في تنظيم أسس المعاملات التجارية المختلفة بين الدول.

وكذا عولمة الاقتصاد والانتقال من مرحلة رأسمالية الدول الاحتكارية إلى رأسمالية الاحتكارات الدولية وتحكم الدول السبع الكبرى الصناعية في الأسواق المالية، في بادئ الأمر، مع الاتجاه إلى اقتصاديات السوق وزيادة تأثير الاقتصاد المتبادل بين المناطق الاقتصادية المختلفة، وازدياد هامشية العالم الثالث نتيجة المتغيرات الاقتصادية وتراجع نصيب الفرد من الدخل القومي ومعدلات النمو.

في واقع الأمر، ومع تعاظم تلك الدول في بداية نشأة "النظام العالمي الجديد"، والتي لا يملك منافسوها وسائل القوة والاتجاهات السبعة وأدواتها (اقتصادي -عسكري، دبلوماسي، تكنولوجي، ثقافي، نقدي وجغرافي)، انبثقت دول ومنظمات دولية تقوم بدور فعال في النظام الدولي من خلال قدراتها الملموسة وغير الملموسة.. عرفت في ما بعد بـ"القوى الفاعلة".
قليل من الدول يستطيع حيازة تلك الشروط والاتجاهات السبعة مثل الولايات المتحدة؛ لذا رُشحت أربع قوى لمواكبة الركب ومواجهة المدّ وهي: 

– الاتحاد الأوروبي، وذلك لما تملكه دول الاتحاد من مكونات وقدرات بشرية وصناعية عظيمة.

– روسيا الاتحادية، لما تملكه من تراث تاريخي وإمكانيات مادية وبشرية وأسلحة نووية، فضلاً عن تميز رقعتها الجغرافية واتساعها.

– الصين الشعبية، لما تملكه من قدرات اقتصادية وسياسية وارتفاع في معدلات النمو الاقتصادي، وزيادة فائض الميزان التجاري، مع استفحال النشاط الديموغرافي فيها.

– اليابان، لكونها حليفاً استراتيجياً للولايات المتحدة الأميركية، وثاني أعظم قوة اقتصادية في العالم.

إن  الدور الأميركي سيظل مهيمناً بالقوة الضاربة على العالم بأسره، فضلاً عن السعي للاحتفاظ بالصعود والزعامة والتفوق على الغير، من خلال منع أي منافسين من الارتقاء إلى مستوى القوة العظمى، ولكن زيادة النفقات مع غلو هيمنتها بشكل صارخ واعتمادها على استدامة أحوالها وتطلعاتها المكوكية المثيرة للاشمئزاز مع تنامي باقي القوى الفاعلة، يجعل انحطاطها اقتصادياً أو اجتماعياً أو قيمياً سهلاً للغاية، إذ انهارت، منذ الأزل، كل إمبراطورية بعد وصولها إلى القمة، بالرغم من محاولات الحفاظ عليها لأطول فترة ممكنة من أي هيمنة مستدامة لفترة محدودة.

إن امتلاك الولايات المتحدة الأميركية عناصر القوة لا يضمن تحقيق تأثيرها في العالم، ومواردها لا تضمن لها القدرة على الانتصار، فإمكانيات روسيا الاتحادية لم تضمن لها الانتصار على دويلة الشيشان، ومثلها مثل الاتحاد السوفياتي من قبل الذي لم يستطع التوازن السليم بين الاستقرار الداخلي ومعطيات العمل الخارجي، ما أدى إلى انهياره.

سعى باحثون في أعمال شهيرة، مثل "نهاية التاريخ" لفوكوياما و"صراع الحضارات" لهنتنغتون، ليثبتوا أن التاريخ الإنساني توقف عند انتصار الرأسمالية؛ لأنه انتصار حاسم ونهائي وغير قابل للخدش.

وتحولت الفكرة إلى سياسات يطبقها البيت الأبيض على العالم، تستند إلى ما عدّته واشنطن قاعدة مقدسة، وأصبحت القرارات الأميركية تكرس سياسة الحظر وفرض العقوبات، وصولاً إلى إمكانية الاجتياح العسكري، من دون أي اعتبار لمنظومة الأمن الجماعي العالمي المتمثّلة في الأمم المتحدة.

لأكثر من 25 عاماً، نجحت الولايات المتحدة الأميركية في ترسيخ مشروعها للهيمنة العالمية عبر الجمع بين إطار أيديولوجي جاذب ومجموعة من أدوات القوة الفاعلة، كحلف شمال الأطلسي والقواعد العسكرية الأميركية المنتشرة في شرق أوروبا ووسط آسيا.

بدء الصدام الحتمي

في سنة 2007، أعلن الرئيس الروسي في مؤتمر ميونيخ للأمن أنّ الأحادية الأميركية لم تعد ممكنة، وحذّر من مخاطر تمدد حلف الناتو إلى الشرق.

استند بوتين إلى القومية الروسية التي سبقت شمولية الاتحاد السوفياتي، وعاد إلى الأصول الدينية للكنيسة الأرثوذكسية، التي تسهم في تشكيل البناء القومي للمجتمع الروسي التقليدي.

وقرر تشييد بناء أوراسيا بما يناسب خصوصيات الموقع الروسي بين آسيا وأوروبا، ليصبح منافساً حقيقياً للأحادية الأميركية.

إن النظام العالمي الجديد المبني على التعددية القطبية ليس بفكرة جديدة، وليس نتيجة العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، الحقيقة أن المؤشرات إلى ولادة هذا النظام بدأت منذ زمن طويل، وبالتالي لا يمكن الحديث عن مفاجأة تقدمها روسيا للعالم لشكل هذا النظام العالمي الجديد الذي يعدّ تعدد الأقطاب من سماته الرئيسية.

أوكرانيا والتعالي الغربي

 إذا أخذنا على سبيل المثال ما يجري في أوكرانيا، فإن روسيا كانت تصر وتطالب الدول الغربية بالاعتراف بأمر بسيط للغاية، وهو أن يكون الأمن مفهوماً مبنياً على تكافؤ وتوازن، إذ لا يمكن أن يبنى الأمن على حساب الدول الأخرى أو على قياس الدول الغربية بزعامة الولايات المتحدة الأميركية، وهذا ما حدث في حالة أوكرانيا التي كانت تنوي الانضمام إلى حلف الناتو، فلو أنها تراجعت عن هذا المطلب في بداية هذه السنة وأعلنت حيادها لربما كان ذلك كافياً لتجنب ما حدث بعد 24 شباط/فبراير 2022.

المقصود من هذا النظام الجديد أنه لا بد من أن تكون هناك فرص متكافئة لدى كل بلد يريد أن يضمن مصالحه وأمنه واستقراره.

لكن، في ظل النظام الأحادي القطب، والذي سيطرت عليه الولايات المتحدة الأميركية، ولعبت دور الحكم في الأمور كافة، قسمت العالم بين بلدان تناسب أنظمتها السياسية أو لا تناسبها، وهذا ما عدّته بعض الدول سياسة إملاء أميركية و فرض مشيئتها في كل مجالات الحياة التي يجب أن تبنى على أساس أوامر وإرشادات وتوجيهات صادرة عن واشنطن، وكأن الأخيرة أخذت لنفسها هذا الدور وهذا الحكم، وأصبحت الآمرة الناهية في العالم، وبالتالي لم يكن ممكناً التسليم بمثل هذا الوضع الذي تسيطر فيه دولة واحدة على مجريات العالم وأحداثه. وهذا الأمر يأخذنا إلى ما قاله تشرشل عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية في كتابه عن ضرورة تفهم العالم قلق موسكو الخاص على أمن حدودها الغربية في أثناء الحرب الباردة. 

نظام عالمي أحادي القطب يحتضر بعد فشله في حفظ الاستقرار العالمي وضمان الأمن الأوروبي، ونظام ثلاثي جديد يتشكل بمشاركة روسيا والصين، أو اتجاه العالم نحو فوضى التحالفات الإقليمية المتصارعة.

بالرغم من كل ما سبق، يبدو أن انبثاق نظام دولي جديد بعيد المنال؛ لأنه رهن بتسويات تاريخية يجب أن تقبل بها أطراف القرار الدولي الفاعلة كافة، وهو ما لا يلوح حالياً في الأفق.