بين الضحية والإحصاء: الغرب وغزة وانهيار الأخلاق العالمية
الفلسطينيون لا يطلبون منا أن نحمل السلاح نيابة عنهم. يطلبون فقط أن نراهم. أن نراهم بشرًا. أن نراهم ضحايا. أن نرى إبادتهم؛ لا كأرقام، بل كجريمة ضد الإنسانية.
-
ما يحدث في غزة اختبار أخلاقي للبشرية جمعاء (أرشيف).
في لحظات الأزمات الكبرى، تتكشف بوضوح هشاشة القيم التي تدّعي المجتمعات أنها تتمسك بها؛ ففي أكتوبر 2023، حين اهتزّت حدود غزة بإحدى أعنف موجات العنف في التاريخ الحديث، لم يُحرَّك العالم فقط بالدماء التي سُفكت، بل بالطريقة التي رُويت بها القصة، ومن حزِنَ له، ومن حُذِفَ من السرد.
في الساعات الأولى التي تلت الهجوم، وقفت وسائل الإعلام الغربية عند حدود إنسانية مشروطة. الضحايا الإسرائيليون ظهروا بأسمائهم، وجوههم، قصصهم، أحلامهم المقطوعة. صورهم ملأت الشاشات، وقصصهم رويت بتفصيل يذرف الدموع. أما الضحايا الفلسطينيون — أولئك الذين سقطوا تحت القصف المدفعي والجوي الكثيف — فتحولوا إلى أرقام: "50 قتيلاً"، "100 جريح"، "أضرار جانبية". لم يُمنحوا وجوهًا، ولا أسماء، ولا طفولة مقطوعة، ولا شيخوخة مهدورة. كانوا مجرد إحصاء في تقرير عابر، كأن الموت لا يُبكي إلا إذا كان يحمل جواز سفر معينًا.
وإذا كان هناك مشهد واحد رُفع إلى مصاف الرمزية العالمية، فهو مشهد حفل الرقص في الصحراء؛ شباب يرقصون تحت النجوم، ثم يُهاجمون من "همج" قادمين من الظلام. لم يكن مجرد حدث، بل أُعيد تشكيله كـ"أسطورة": الغرب المُسالم، المُنفتح، المُبهج، يُهاجم من "آخر" متوحش، غريب، لا يفهم الموسيقى ولا الفرح. هنا، لم نعد نتحدث عن صراع سياسي أو تاريخي، بل عن إعادة إنتاج أسطورة استعمارية قديمة: نحن الحضارة، وأنتم البربرية.
لم يكن هذا السرد وليد اللحظة. لقد استُحضرت له أشباح الماضي: 11 سبتمبر، باتاكلان، الهجمات الجهادية في العواصم الأوروبية. كلها ذكريات جماعية مؤلمة جُرّت إلى المشهد الفلسطيني لتُستخدم كجسر عاطفي يربط بين هجوم حماس وبين "العدو الإسلامي" الذي لطالما خُوّف منه الغرب. وهكذا، لم يعد الفلسطيني مجرد مواطن تحت الاحتلال، بل صار جزءًا من كيان مُشتبه به، مُدان مسبقًا، لمجرد أنه يشارك المهاجمين دينًا أو لون بشرة أو جغرافيا.
الأدهى من ذلك أن دعم الغرب لإسرائيل لم يعد قائمًا فقط على ذاكرة الهولوكوست والشعور التاريخي بالذنب تجاه اليهود، بل تحول إلى دعم أيديولوجي صريح لدولة استعمارية، عسكرية، عرقية، تُمارس الفصل والقمع باسم الأمن والهوية. وهنا حدث التحول الأكثر إثارة: فجأة، وجدت أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا وأميركا نفسها في حلف غير مسبوق مع أشد المؤيدين لإسرائيل. العدو القديم للعنصرية الغربية — اليهودي — تحوّل إلى حليف، فيما حلّ محله "العدو الجديد": المسلم، العربي، الفلسطيني، ليس لأنه ارتكب جريمة، بل لأنه موجود، مقاوم، متمسك بأرضه، رافض للانصهار أو الاختفاء.
الفلسطينيون في غزة، تحديدًا، يجسدون كل ما يستفز منه هذا الخطاب: بشرتهم سمراء، نساؤهم يرتدين الحجاب، أطفالهم كُثر، وفوق كل ذلك — ولا شيء يُغضب النظام العالمي أكثر من هذا — أنهم "لا يموتون بصمت"، لا يقبلون بالانهيار، لا ينكفئون، لا يختفون. يصرّون على الحياة رغم الحصار، والقصف، والتهجير، والتجويع. وجودهم وحده تحدٍّ. صمودهم وحده ثورة. لهذا، يجب محوهم جسديًا وإعلاميًا وأخلاقيًا.
في هذا السياق، لم يعد القانون الدولي سوى ورقة تُستخدم عند الحاجة وتُهمل عند الحاجة الأشد. بينما أُطلقت أقوى العقوبات وأسرع الإجراءات ضد روسيا لغزوها أوكرانيا، واعتُبر الشعب الأوكراني "بطلًا" لمقاومته، فإن الشعب الفلسطيني — الذي يقاوم احتلالًا مستمرًا منذ عقود — يُوصَم بالإرهاب، ويُتهم بأنه يُسيء استخدام حقوقه. المحكمة الجنائية الدولية التي سارعت للتحقيق مع بوتين، تتعثر وتُعرقل عندما يتعلق الأمر بجرائم الحرب في غزة.
الأمر لا يتوقف عند القانون، بل يتعداه إلى الديمقراطية نفسها. ففي الجامعات، والمراكز الثقافية، وحتى في البرلمانات، أصبح التعبير عن التضامن مع فلسطين جريمة. يُتهم الناقدون بمعاداة السامية، أو بتمجيد الإرهاب، أو بـ"عدم فهم السياق". حرية التعبير أصبحت مشروطة: لك أن تنتقد كل شيء... إلا هذا. أصبحت الديمقراطية غطاءً لإدارة الخلاف، لا لاحتضانه.
وإذا كان هناك ما يُجمّد الضمير الغربي أكثر من أي شيء، فهو تحويل ذاكرة الهولوكوست من درس إنساني عالمي إلى "دين مدني" مقدس. الهولوكوست لم يعد حدثًا يدعونا إلى منع تكرار المجزرة أينما كانت، بل أصبح سيفًا مسلطًا على كل من يجرؤ على القول: الضحايا يمكن أن يصبحوا جلادين، وكأن التاريخ لا يُسمح له بأن يتحرك، وكأن الألم اليهودي يُلغي أي ألم آخر، وخصوصاً إذا كان من يُسببه اليوم هم أحفاد الضحايا أنفسهم.
لكن رغم كل هذا - رغم القمع، والتشويه، والصمت الرسمي، والعنصرية المقنعة - لم يمت الضمير العالمي. في نيويورك، ولندن، وباريس، وبروكسل، وفي ساحات الجامعات من ساو باولو إلى جاكرتا، ومن ستوكهولم إلى الرباط، يرفع الناس أصواتهم. يهتفون في الملاعب، ينظمون حفلات موسيقية تضامنية، يكتبون، يرسمون، يُدرّسون، يُطالبون. لا يفعلون ذلك كرهًا لليهود، بل حبًا للعدل. لا ينادون بزوال إسرائيل، بل بزوال الظلم. يرفضون أن يكون العالم مقسومًا بين ضحية تُبكى، وضحية تُنسى.
إن ما يحدث في غزة ليس مجرد حرب. إنه اختبار أخلاقي للبشرية جمعاء؛ فإما أن نقبل بأن بعض الضحايا يستحقون الحداد وبعضهم لا، وبأن القانون يُطبّق على الضعفاء ويُهمل مع الأقوياء، وبأن الديمقراطية تُمارس فقط لمن يوافقوننا الرأي، وإما أن نثور على هذا الزيف، ونعيد بناء عالم لا يُجزّأ فيه الإنسان إلى درجات من الإنسانية.
الفلسطينيون لا يطلبون منا أن نحمل السلاح نيابة عنهم. يطلبون فقط أن نراهم. أن نراهم بشرًا. أن نراهم ضحايا. أن نرى إبادتهم؛ لا كأرقام، بل كجريمة ضد الإنسانية، بكل ما تحمله الكلمة من معنى.
وإذا فشلنا في ذلك، فنحن لا نخونهم فقط. نحن نخون أنفسنا، ونخون كل كلمة كتبناها يومًا عن الحرية، والعدالة، والكرامة الإنسانية.