إسبرطة تنهزم في الجمعية العامة للأمم المتحدة

"إسرائيل" بقيادة الحكومة الأكثر يمينية في تاريخها، أمام مفترق طرق، إما أن تذهب إلى دولة إسبرطة كما ينظر لذلك نتنياهو، وإما أن تسعى لتكون دولة أثينا المندمجة في المنطقة.

0:00
  • "إسرائيل" بقيادة الحكومة الأكثر يمينية في تاريخها، أمام مفترق طرق.

أوضح اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة لهذا العام، أن "إسرائيل" تعيش حالة من الانحدار السياسي غير مسبوقة. حيث بلغ عدد الدول التي تعترف رسميًا بـ"فلسطين" 153 دولة، أي نحو 80% من مجموع الدول الأعضاء في الأمم المتحدة البالغ عددها 193.

وإذا كان الاعتراف سابقًا يقتصر بالأساس على دول حركة عدم الانحياز والدول العربية، فإن الأمر تغيّر الآن، إذ أعلنت دول "العالم الحر" - كما تسمي نفسها _ موقفها: فرنسا، بريطانيا، كندا، أستراليا، إسبانيا، إضافة إلى عدد من دول الاتحاد الأوروبي، اعترافها بالدولة الفلسطينية، رغم حجم التحريض الإسرائيلي عليها وعلى قادتها، الأمر الذي جعل خطاب رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو فارغ المضمون كما القاعة أثناءخطابه.

الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية، ليس حدثاً عابراً وليس كما تسوق "إسرائيل" أنه "مجرد تظاهرة كبيرة على لا شيء"، بل هو معادلة سياسية جديدة، بريطانيا وفرنسا اللتان أسهمتا في إنشاء "اسرائيل"، الآن تطالبان بحل الدولتين، وتعترفان بالدولة الفلسطينية، وفي توقيت ذي خصوصية حساسة.

ففي الوقت الذي حاولت فيه "إسرائيل" انتهاز فرصة عملية السابع من أكتوبر لنيل التعاطف الدولي الكامل، لتنفيذ ليس فقط الإبادة الجماعية في غزة ، بل الأخطر، سعيها إلى حسم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني تحت ذريعة السابع من أكتوبر، وتحقيق وعد نتنياهو بعدم السماح بقيام دولة فلسطينية بالمطلق.

"إسرائيل" لم تكتفِ بتدمير قطاع غزة وقتل أكثر من 80 ألفاً من سكانه، بل تسعى لتهجير أكثر من مليوني فلسطيني من غزة، والسيطرة العسكرية الشاملة والاستيطان في غزة، هذا من جهة ،أما من جهة أخرى، فهي تريد تقويض أي أمل لإقامة دولة فلسطينية ما بين النهر والبحر، من خلال ثلاث خطوات أساسية:

الأولى، الفصل الكامل والتام بين غزة والضفة، من خلال استراتيجية لن يكون هناك في غزة مكان لا لحماستان ولا لفتحستان، بمعنى رفض إسرائيلي مطلق لتتولى السلطة الفلسطينية أي دور في اليوم التالي في غزة.

الثانية، العمل على تدمير السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية، وشيطنتها دولياً، وإظهارها أنها داعمة وراعية للإرهاب، رغم أنها متهمة فلسطينياً بالتعاون مع "إسرائيل" من خلال التنسيق الأمني ضد المقاومة في الضفة، والأخطر بدء إجراء بعض الخطوات لتفتيت السيادة للسلطة على بعض المناطق في الضفة الغربية كما جرى تداول "إمارة الخليل" الذي ما هو إلا مسعى إسرائيلي لتقويض السلطة وإعادة فكرة روابط القرى، وبالتالي تحويل السلطة الفلسطينية لمجرد وكيل أمني لحماية "إسرائيل" لرفع عبء إدارة من سيتبقى من السكان الفلسطينيين في الضفة الغربية بعد تنفيذ التهجير الطوعي والقسري.

الثالثة، وهي الأهم اغتيال الجغرافيا الفلسطينية من خلال الاستيطان والذي سيتكلل بضم أراضي الضفة الغربية أو أجزاء منها إلى السيادة الإسرائيلية.

على ضوء تلك الخطوات الثلاث الإسرائيلية، استشعر العالم والمجتمع الدولي، خطورة الخطة الإسرائيلية، على أمن واستقرار الشرق الأوسط، وعلى "إسرائيل" ذاتها، وخاصة أن حرب غزة برهنت بما لا يترك مجال للجدال، أن استقرار الشرق الأوسط وازدهاره وأمن الملاحة الدولية، مرتبطة بإيجاد حل للصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأن الحلول العسكرية الإسرائيلية من خلال دبلوماسية طائرات (الأف35)، ودعم الولايات المتحدة الأميركية لها، باتت لا تقدم إلا مزيداً من الفوضى وانعدام الأمن والاستقرار الدوليين.

فالأوروبيون ودول العالم لا يريدون أن يتحول الشرق الأوسط إلى منطقة صراع دائم، كما أشار رئيس الوزراء الاسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى أن "إسرائيل" (إسبرطة)، كدلالة على تبنيه التوجه العسكري في حل الأزمات في الشرق الأوسط.

لذلك، فرنسا كدولة مركزية في أوروبا وتربطها علاقات جيدة بالشرق الأوسط، قادت حراكاً دبلوماسياً، بالتعاون مع الدولة العربية والإسلامية المركزية (السعودية)، عنوانه الاعتراف بالدولة الفلسطينية، وإحياء حل الدولتين، لا من أجل تدمير "إسرائيل"، ولكن من أجل قطع الطريق عليها لأن تتحول إلى إسبرطة وأن تحول الشرق الأوسط إلى حلبة قتال مستمر  كما كان الأمر بين الدول اليونانية القديمة.

المخطط الإسرائيلي لتحويل "إسرائيل" إلى إسبرطة، يتناقض حتى مع فلسفة "اتفاقات أبراهام" التي قادها الرئيس الأميركي دونالد ترامب في ولايته الاولى، والتي كانت تهدف، إلى إنشاء شراكات إسرائيلية مع دول المنطقة، تجعل "إسرائيل" جزءاً وشريكاً طبيعياً في المنطقة، من أجل تسهيل تنفيذ المشاريع الكبرى للطاقة والتجارة الدولية، ولكن المخططات الإسرائيلية التوسعية و استدامة الحرب على غزة طوال هذا الوقت، من دون أن تقدم "إسرائيل" أي حلول سياسية، وانتهاك "إسرائيل" سيادة دول المنطقة، وخاصة دولة قطر الخليجية، ومن قبل حربها مع إيران، وأخذ المنطقة والخليج خاصة إلى دوامة من عدم الاستقرار والفوضى، فضلاً عن حديث رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو عن "إسرائيل الكبرى"، بما يتضمن ذلك من تهديدات كبرى للأمن القومي لدول المنطقة، والتحريض الدائم تجاه مصر، والتهديدات العسكرية التي باتت اللغة الشائعة في السياسة الإسرائيلية تجاه دول المنطقة، وخاصة مصر.

كل ذلك يدفع بمِن وقّع على اتفاقات "ابراهام"، أو من كان يفكر بالانضمام، أن يصل إلى قناعة أنه يجب عزل "إسرائيل"، وإيقاف تغولها في المنطقة، حيث بات واضحاً للجميع، أنها لن تكون يوماً مفتاح استقرار وازدهار المنطقة، بل هي المشكلة الحقيقية لعدم استقرارها.

رغم أن حراك الاعتراف بدولة فلسطين في الأمم المتحدة، لا يأتي في إطار دعم حق الشعب الفلسطيني في ممارسة الكفاح المسلح ضد الاحتلال، كما تنص كل المواثيق الدولية، ولم يأتِ بالتأكيد لدعم حركة حماس ولا المقاومة المسلحة الفلسطينية، بل بالعكس من ذلك، إن أهميتها تنبع من قطعها الطريق على المخطط الإسرائيلي لشطب القضية الفلسطينية، شعباً من خلال التهجير، وأرضاً من خلال الاحتلال والضم، وسياسياً، من خلال وأد الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره، والذي عنوانه الاعتراف الدولي بحق الشعب الفلسطيني بإقامة دولته المستقلة. 

ولذلك "إسرائيل" بقيادة الحكومة الأكثر يمينية في تاريخها، أمام مفترق طرق، إما أن تذهب إلى دولة إسبرطة كما ينظر لذلك نتنياهو، وإما أن تسعى لتكون دولة أثينا المندمجة في المنطقة، كما نظر لذلك رئيس وزرائها الأول ديفيد بن غوريون، لكن في الحالتين، بقاء الفلسطيني على أرضه وتعزيز صموده فيها، واعتراف العالم بحقه في تقرير مصيره، واستقلاله، السلاح الأهم في مواجهة "إسرائيل" في هذه المرحلة بالذات.