الاستهلاك في زمن الحرب: حين يصبح الشراء موقفاً سياسياً

أمام رفّ المشروبات، لا نقوم بمجرّد اختيار نكهة أو مذاق… إنما نرسم حدود انتمائنا، ونقرّر؛ هل نُطعم أطفالنا ما يعين على قتل أطفالٍ آخرين؟

  • ما تصنعه المقاطعة وما لا تصنعه.
    ما تصنعه المقاطعة وما لا تصنعه.

أراد الأب أن يكافئ طفلته على تفوّقها، فتوجّها كعادتهما نحو مقهى "ستاربكس" في أحد شوارع بيروت ليشتري لها الحلوى المفضّلة، وقبل أن يركن سيارته، جاءه صوت صغير من المقعد الخلفي: "بابا، ما بدي نروح على ستاربكس… أرباحهم بتروح ليقتلوا أطفال غزة!"

تجمّد الأب لوهلة، مصدوماً من وعي طفلته التي لم تتجاوز العاشرة من عمرها، كيف لها أن تُضحّي بما تحبّه واعتادته، تضامناً مع أطفال فلسطين؟ بسرعةٍ، غيّر الاتجاه نحو "ستوريز"، المقهى اللبناني الجديد، ليكتشف نكهة قهوة مميّزة وخدمة راقية، وتكتشف طفلته حلوى لذيذة. لم يكن ما حدث مجرّد تغيير في العادة، بل بداية تحوّل من استهلاك روتيني إلى موقف تضامني، ومن عادة فردية إلى وعيٍ جماعي.

من "مستهلك" إلى "مواطن"

منذ اندلاع العدوان على غزة، ما عادت القرارات الشرائية تُختزل بسلوكيات يومية، إنما باتت مواقف ذات أبعاد سياسية ووطنية، يعبّر عنها المواطن من أمام المقهى، ومن داخل السوبرماركت، ومن شاشة الهاتف. فقد اجتاحت موجة مقاطعة عالمية كبرى الشركات المرتبطة بالاحتلال الإسرائيلي أو الداعمة له مالياً أو معنوياً، وبدأ تأثير هذه الحملة ينعكس بوضوح في الأرقام والأسواق.

فشركة "ماكدونالدز" خسرت ما يقارب 4.2 مليارات دولار من قيمتها السوقية بعد هبوط أسهمها بأكثر من 15%. وواجهت مؤسسة "ستاربكس" احتجاجات ومقاطعة قوية في العالم العربي، أدّت إلى إغلاق فروع لها في لبنان والكويت، وتراجعت أسهمها بنسبة وازنة. أما  "KFC"  و"Pizza Hut"، فاضطرّتا لتعليق حملاتهما التسويقية تحت ضغط شعبي غير مسبوق. في مقابل هذا التراجع، برزت بدائل محلية استعادت موقعها، ليس بالضرورة بسبب جودتها، إنما لأنها غير متورّطة في منظومة الظلم والقتل. 

في مصر مثلاً، أعاد مشروب "سبيرو سباتس" تموضعه كبديل وطني للكولا. في الأردن، عاد "غود داي" ليحظى بثقة شريحة واسعة من المستهلكين، بوصفه بديلاً محلياً أخلاقياً لقهوة "نسكافيه".

أما في لبنان، فقد أعادت مياه "ريم" الغازية تموضعها كخيار لبناني في مواجهة علامات غربية عريقة مثل "بيرييه"، في تعبير واضح عن ارتفاع منسوب الوعي لدى المستهلك اللبناني، الذي بات يرى في دعمه للإنتاج الوطني موقفاً أخلاقياً في مواجهة منتجات متّهمة بدعم الاحتلال. لطالما نُظر إلى سلوك المستهلكين بوصفهم أفراداً يتأثّرون بعوامل نفسية واجتماعية وثقافية.

لكن ما نشهده اليوم يتجاوز ذلك، فنحن أمام بُعد جديد في قرارات الشراء، حيث أصبحت القيم والانتماءات هي المحرّك الأساسي. لم يعد قرار المستهلك مبنيّاً على ما يناسب ميزانيته أو ذوقه فقط، بل بات يبحث في خلفيّة المنتج، في مواقف المصنع، وفي مآلات أرباح الشركة المنتجة.

بهذا المعنى، تحوّل المستهلك من مجرّد فاعل اقتصادي يسعى لتعظيم المنفعة إلى مواطن قيمي يُفعّل ضميره عند اتخاذ قرارات الشراء، ويحمل على عاتقه مسؤولية أخلاقية تجاه ما يدعمه أو يرفضه. وقد باتت هذه الظاهرة تُعرف في الأدبيات الاجتماعية بمفهوم "المواطنة الاستهلاكية"، حيث يُصبح الشراء وسيلة احتجاج ناعم، تعبّر عن القيم الأخلاقية والهوية السياسية والاجتماعية للفرد كما وصفتها الباحثة السويدية ميشيل ميشيليتي.

الصين: الفخامة تعني الانتماء

حتى في الحرب المبطّنة، ثمّة شعوب أعادت تعريف الاستهلاك بوصفه موقفاً، ففي الصين، لم تكن الصواريخ والقذائف تفرض تغيّرات في سلوك المستهلك، إنما تراكم شعور قومي داخلي بالاعتزاز الثقافي والاقتصادي. تجلّى في ميل متصاعد لدى المستهلكين لشراء علامات محلية تحمل رمزية تراثية عميقة مثل "لاوبو غولد" و"شوينغلي"، التي تستوحي تصاميمها من فنون الأسر الإمبراطورية والرموز الكونيّة الصينية. وشهدت أسواق الصين تراجعاً ملحوظاً في الإقبال على علامات غربية فاخرة مثل "كارتييه" و"غوتشي"، بحسب تقرير نشرته صحيفة "فاينانشال تايمز"، فإنّ المستهلكين الشباب باتوا يبحثون عن "منتجات تعكس قيمهم وتاريخهم"، أكثر من بحثهم عن شعارات غربية مبهرة. وقد ارتفعت مبيعات "لاوبو غولد" بنسبة 35% في عام واحد، وتضاعف انتشارها.

في الحالة الصينية، التحوّل الاقتصادي يأخذ أبعاداً وجدانية قومية، يتجاوز حدود السوق ليغوص في عمق الهوية الثقافية. فحينما يشتري الصيني خاتماً محلياً مزخرفاً برمز "التنين"، أو سواراً منقوشاً ببيت شعر من الأدب الصيني القديم، فهو تعبير صريح عن ولاء ثقافي وهوية حضارية. هكذا، لم تعد الفخامة بالنسبة للصينيين حكراً على باريس وميلانو، فقد باتت وليدة بيئتها، تنبع من ثقافتهم، وتتحدّث بلغتهم، وتشبههم في المظهر والمضمون والتاريخ. وكما في الصين، كذلك في دول أخرى، أصبح الاستهلاك مرآةً للهوية الوطنية، لا مجرّد سلوك اقتصادي.

إيران: من الضرورة إلى الكرامة

في ظلّ العقوبات الغربية المتصاعدة، نشأت في إيران سوق داخلية متماسكة، شكّلت بديلاً ضرورياً عن المنتجات المستوردة. ومع مرور الوقت، تجاوزت هذه البدائل كونها حلولاً اضطرارية، لتتحوّل إلى رموز للسيادة والصمود. بدأ جيل الشباب على وجه الخصوص يربط المنتج المحلي بمفهوم الكرامة الوطنية، في مقابل صورة التبعيّة التي باتت تلازم العلامات الأجنبية.

في تقارير صادرة عن وزارة الصناعة الإيرانية، تبيّن أنّ نسبة الاعتماد على المنتجات المحلية في قطاع الأدوية تخطّت 90% بعد 2020، ما يعكس فخراً بالاستقلال الإنتاجي. وقد بدأت بعض العلامات الإيرانية تتبنّى رموزاً وطنية وشعارات تحفيزية في تسويقها، لتغدو المنتجات اليومية جزءاً من سردية المقاومة والصمود. على سبيل المثال، أصبحت سيارات "سايبا" المحلية، رغم محدودية تقنياتها، تجسيداً للثقة بالمنتج الوطني. كما صعدت تطبيقات محلية مثل "Snapp" كبديل ناجح عن"Uber"، وأصبحت خياراً يومياً لملايين الإيرانيين. لم يعد دعم المنتج المحلي مجرّد خيار اقتصادي، بل فعل مقاومة صامتة، تتجدّد في كلّ معاملة تجارية داخل الأسواق الإيرانية.

 كيف ساهمت السوشيل ميديا في رفع الوعي؟

لم يكن الإعلام التقليدي وحده من حرّك الشارع، فقد أدّت السوشيال ميديا دوراً حاسماً في تحويل الغضب الشعبي إلى سلوك استهلاكي ملموس. فقد تحوّلت المنصات الرقمية إلى مسرح المعركة الأساسي، حيث انتشرت قصص "المقاومة الناعمة" على تيك توك، وإنستغرام، وتويتر، متجاوزةً الحدود الجغرافية لتصبح ظاهرة عابرة للبلدان. وبحسب تقرير صادر عن منصة Brandwatch، سجّل هاشتاغا المقاطعة ‎#BoycottMcDonalds و‎#BoycottStarbucks أكثر من 180 مليون ظهور عالمي خلال أقلّ من ستة أسابيع من اندلاع العدوان على غزة. اللافت أنّ أبرز المروّجين لهذه الحملة كانوا من الشبان العاديين، والمؤثّرات الصغيرات، والآباء والأمهات الذين وثّقوا خياراتهم الأخلاقية اليومية بعدسات هواتفهم. وهكذا، تحوّل الهاتف الذكي إلى أداة توعية وتعبئة، وأصبحت المقاطعة الرقمية شرارة انطلقت منها تحوّلات ملموسة في السوق. غير أنّ التأثير لم يبقَ أسير الشاشات، بل انسحب إلى الواقع المعيشي، حيث ترجَم المستهلكون غضبهم إلى قرارات شرائية واعية غيّرت مسارات السوق وفرضت على الشركات الكبرى مراجعة حساباتها.

ما تصنعه المقاطعة وما لا تصنعه

قد يظنّ البعض أنّ الامتناع عن شراء وجبة أو مشروب لا تصنع فرقاً، لكنّ الحقيقة أنّ المقاطعة، حين تكون فعلاً منظّماً ومدعوماً بوعي واستمرارية، يمكنها أن تتحوّل إلى أداة ضغط فعّالة. فهي قد لا تُسقط أنظمة ولا توقف الحروب، لكنها، على المدى الطويل، تُربك الحسابات، وتعيد ترتيب الأولويات لدى الشركات الكبرى، وتكشف هشاشة الصورة الأخلاقية التي تحاول تلك العلامات التجارية تصديرها.

ما حدث خلال الأشهر الأخيرة يثبت أنّ ردود الفعل الشعبية، حين تتجاوز الانفعال اللحظي وتنتقل إلى سلوك استهلاكي جماعي، تترك أثراً ملموساً.

فخسائر "ماكدونالدز" و"ستاربكس" و"KFC" وغيرها لم تكن رمزية. وفق تقرير نشره موقع Business Insider، فإنّ التراجع في المبيعات في أسواق الشرق الأوسط أجبر بعض الشركات على إعادة تقييم استراتيجياتها الإعلانية، وتجميد توسّعاتها، وحتى إغلاق فروعها في بعض المناطق.

كلّ ذلك يدلّ على أنّ الاستهلاك، حين يخرج من دائرة العادة، يمكن أن يصبح أداة سياسية بيد الشعوب. لكنّ هذه النتائج ليست مضمونة. فالمقاطعة تنجح فقط عندما تكون جزءاً من وعي أكبر، وتأتي مقرونة ببدائل محلية، ودعم مجتمعي، وإعلام مسؤول. فهي وسيلة لإعادة التوازن الأخلاقي، لا هدفاً بحدّ ذاته.

في المقابل، ثمّة من يرى أنّ المقاطعة قد تتحوّل أحياناً إلى حدّ أخلاقي أدنى نكتفي به، فيغنينا عن الفعل المقاوم الأعمق.
فهل تكفي المقاطعة لنشعر أننا أدّينا واجبنا تجاه قضايانا المصيرية؟ أم أنها فقط بداية المسار لا نهايته؟

من القهوة تبدأ الحكاية

في زمنٍ تتقاطع فيه الحروب مع العلامات التجارية، وتتحوّل "المولات" إلى جبهات ناعمة، يكفي أحياناً أن ترفض منتجاً، أو تقاطع مقهى… لتبدأ بكسر حلقة طويلة من التطبيع أو التواطؤ. قد لا تملك القرار السياسي، لكنك تملك القرار الأخلاقي. وما تشتريه اليوم يعبّر عن وعيك وانتمائك، وعن نوع المستقبل الذي تريد أن تساهم في بنائه أو تمويله.  

إنّ الطفلة التي رفضت "ستاربكس" ليست مجرّد قصة عابرة بين أب وابنته. إنه إشعار بأنّ الجيل الجديد بات يرى في قطعة الحلوى قراراً أخلاقياً له تبعات تتجاوز حدود اللحظة. وقد يكون تجسيداً لما يحدث في وجدان ملايين المستهلكين الذين قرّروا أنّ الشراء ليس حيادياً.

وربما، في لحظة عابرة أمام رفّ المشروبات، لا نقوم بمجرّد اختيار نكهة أو مذاق… إنما نرسم حدود انتمائنا، ونقرّر؛ هل نُطعم أطفالنا ما يعين على قتل أطفالٍ آخرين؟ أم نعيد الاعتبار لقيمة بسيطة، اسمها الكرامة؟