الجغرافيا الإيرانية: نعمة أم نقمة؟
قدرة إيران على الصمود اليوم في وجه التهديدات، لا تكمن في جغرافيّتها وحدها، بل في قدرتها التاريخية على توظيف هذه الجغرافيا ضمن استراتيجية دفاعية مُحكمة.
-
نجحت إيران في تطوير عقلية تجعل من تضاريسها الوعرة خطوط صدّ طبيعية.
في تغريدة لافتة على منصته (Truth Social) بتاريخ 22 حزيران/يونيو 2025 كتب الرئيس الأميركي دونالد ترامب: "قد لا يكون من المقبول سياسياً استخدام مصطلح "تغيير النظام"، لكن إذا كان النظام الإيراني الحالي غير قادر على "جعل إيران عظيمة مجدّداً"، فلماذا لا يحصل تغيير في النظام؟؟؟MIGA!!!»
وجاءت التغريدة بعد الضربات الجوية الأميركية على ثلاث منشآت نووية إيرانية أساسية ادّعى خلالها ترامب وكبار المسؤولين الأميركيين أنّ الهدف تعطيل البرنامج النووي الإيراني ومنع إيران من تصنيع قنبلة نووية، ورفضوا الاتهامات بأنّ الهدف هو تغيير النظام في إيران.
وفي هذا الإطار، يخشى الكثير من الأميركيين أن يكون أولادهم ضحية خدعة جديدة تشبه خدعة أسلحة الدمار الشامل العراقية، والتي استخدمت مبرّراً لاجتياح أميركي للعراق خارج إطار القانون الدولي. ومع الإدراك بحجم الاختلاف الجوهري الكبير جداً بين مقوّمات العراق ومقوّمات إيران من جميع النواحي الديموغرافية والعسكرية والعقائدية والسياسية إلخ، سنبحث تأثير جغرافية إيران على قوتها الحالية وقدرتها.
منذ الإمبراطوريات القديمة وحتى نشوء القوى العظمى الحديثة، أدّت التضاريس والمناخ والموقع دوراً محورياً في تحديد قوة الدولة وقدرتها على الحفاظ على أمنها. وفي هذا السياق، قد تبدو الجغرافيا "نعمة" تمنح الدول مزايا طبيعية، أو "لعنة" تستجلب تدخّلات خارجية وتحوّل الدولة الى ساحة تجاذب وصراع. مع العلم أنّ الجغرافيا وحدها ليست عاملاً حاسماً، فالموقع الاستراتيجي يتحوّل إلى نعمة إذا كانت الدولة قوية ولها مقوّمات الحفاظ على نفسها، بينما الموقع الجغرافي نفسه يتحوّل نقمة إذا كان الحكم المركزي ضعيفاً والشعب منقسماً على ذاته.
توفّر الجغرافيا للدولة تحصينات طبيعية وموارد وفيرة وموقعاً استراتيجياً، فالدول التي تمتلك حواجز طبيعية كالجبال أو الصحاري الواسعة أو تفصل بينها وبين العالم محيطات (كالولايات المتحدة الأميركية) تنعم غالباً بأمن أكبر حيث يصعب على الدول التوسّعية غزوها. بالمقابل، تؤدّي الجغرافيا دور النقمة، حيث تشكّل قلقاً للدول التي لا تمتلك موانع طبيعية تمنع الغزو خاصة إذا كانت في منطقة مليئة بالتحدّيات والأطماع الاستعمارية.
أما في إيران، فقد شكّلت الجغرافيا الإيرانية سيفاً ذا حدّين طبع التاريخ الإيراني، فبالرغم من أنّ تضاريس إيران تشكّل درعاً واقية طبيعية حيث يُوصَف هذا البلد بأنه حصن طبيعي، تحيط به سلاسل جبلية شاهقة وصحارٍ شاسعة قاسية، شهدت إيران عبر تاريخها الطويل العديد من الغزوات، ترك كلٌّ منها بصماته التي لا تُمحى على العقل الجمعي الإيراني وإدرامه للمخاطر والتهديدات. وأدرك الإيرانيون مبكراً أنّ الجغرافيا مهما بلغت من تحصين لا تحمي دولةً، لذا حرصت النخب الحاكمة، على اختلاف العصور، على تعزيز التماسك الاجتماعي، وبناء عمق ديموغرافي في قلب الهضبة، وتوجيه التنمية والعمران نحو المناطق الوسطى بعيداً عن نقاط الضعف الحدودية.
يكمن جوهر القوة الجغرافية لإيران في أطرافها الجبلية. إذ تمتد جبال زاغروس على طول حدودها الغربية والجنوبية الغربية، مُشكِّلةً حاجزاً وعراً أعاق تاريخياً الغزوات المقبلة من الغرب. وفي الشمال، تحرس جبال البرز سواحل بحر قزوين، مما يجعل التوغّلات من الشمال صعبة بالقدر نفسه. أمّا الهضبة الإيرانية الوسطى، فتسيطر عليها صحراء ملحية شاسعة، هما دشت كوير ودشت لوت، واللتان تشكّلان كابوساً لوجستياً لأيّ عملية عسكرية واسعة النطاق. وقد جعلت هذه العوامل، عبر القرون، احتلال إيران بشكل كامل والسيطرة عليها أمراً بالغ الصعوبة، كما تشهد على ذلك معاناة حتى أعظم الغزاة مثل المغول والعثمانيين.
أما الخاصرة الرخوة الإيرانية فهي منطقة خوزستان في الجنوب الغربي، وخاصة السهول الخصبة المتاخمة للعراق، والتي كانت المناطق التي هاجم صدام حسين إيران عبرها. تعتبر هذه المنطقة أقلّ وعورة مقارنة ببقية إيران، مما جعلها أكثر المناطق ضعفاً، مع العلم أنّ لها أهميتها الاستراتيجية أيضاً إذ إنها غنية بحقول النفط وتطلّ على الخليج. وقد أدّت استراتيجية إيران الحديثة، وتحالفها مع العراق بعد سقوط صدام حسين، دوراً كبيراً في تقليص التهديدات الأمنية على البلاد والتي قد تتأتّى من تلك الخاصرة الرخوة.
وهكذا، إن قدرة إيران على الصمود اليوم في وجه التهديدات، لا تكمن في جغرافيّتها وحدها، بل في قدرتها التاريخية على توظيف هذه الجغرافيا ضمن استراتيجية دفاعية مُحكمة تُزاوج بين قسوة التضاريس وصلابة الإرادة الوطنية، وقوة العقيدة التي تطبع نظامها وقواتها المسلحة ونظام حكمها.
لقد نجحت إيران، في تطوير عقلية سياسية وأمنية تجعل من تضاريسها الوعرة خطوط صدّ طبيعية، مدعومة بشبكة دفاعية بشرية وعسكرية متجذّرة في الوعي الجمعي للإيرانيين، الذين باتوا يعتبرون الحفاظ على وحدة أرضهم واستقلال قرارهم وردّهم للعدوان على بلادهم، مسألة كرامة ووجود لا تقبل المساومة.