تجدد الحرب على غزة... بين عوامل تأجيجها وكوابح منعها
هل ينهار اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع وتعود "إسرائيل" إلى حربها العدوانية على غزة، أم أن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر، فلدى "إسرائيل"، كما كل الأطراف، ما تخسره في العودة إلى الحرب؟
-
تبدو إمكانية تجدد الحرب في ظل سلوك "إسرائيل" تجاه غزة أمراً وارداً.
الحرب، كما نعرفها، هي ظاهرة عالمية يُحدد شكلها ونطاقها وأهدافها المجتمع الذي يخوضها. لكن الحرب في "إسرائيل" قصة مختلفة، تعاند دروس التاريخ وفلسفة الحروب وأهدافها. ويبدو أن طبيعة التركيبة النفسية الإسرائيلية تقتضي وجود صراع دائم يتجاوز أهداف الحرب المتعارف عليها؛ فسعادة "إسرائيل" دائماً ما ترتبط بتعاسة الآخرين وشقائهم.
والإسرائيلي يجب أن يكون قادراً على المُعاداة، والنزوع العدواني الإسرائيلي ينتمي بالقدر نفسه إلى القوة، إذ نرى بوضوح، من خلال تصريحات قادة "إسرائيل"، انتشاءهم بالقوة والغطرسة، فهم يقدّمون الحرب كنوع من الانتصار وشكلٍ من أشكال القوة التي يجب أن تتمتع بها "إسرائيل" التي تعيش دائماً بين خيارين "الحرب أو الحرب"، وكأنما حياة مواطنيها مُتعلقة "بسيوفهم ورماحهم" وحسب!.
مُذ أوشكت المرحلة الأولى من صفقة الأسرى على الانتهاء، تبارى تقريباً كل مسؤولي اليمين الصهيوني الحاكم في "إسرائيل" في التلويح بالحرب والتهديد بالعودة إليها "وفتح باب الجحيم على القطاع" في حال لم تُفرج حماس عمن تبقى من الأسرى الإسرائيليين لديها، وكأن "إسرائيل"، وهي تلوّح بالحرب وتقرع طبولها، جبلٌ بُركاني هائج ينفث حممه النارية يُمنة ويُسرة، ويوشك أن ينفجر.
فهل ينهار اتفاق وقف إطلاق النار في القطاع وتعود "إسرائيل" إلى حربها العدوانية على غزة، أم أن حسابات الحقل ليست كحسابات البيدر، فلدى "إسرائيل"، كما كل الأطراف، ما تخسره في العودة إلى الحرب!.
في ظاهر الأمر تبدو إمكانية تجدد الحرب على غزة في ظل سلوك "إسرائيل" تجاه غزة وتصريحات مسؤولي الولايات المتحدة أمراً وارداً، فالدعم الشامل الذي يقدمه الرئيس الأميركي ترامب لـ"إسرائيل"، وفكرة التهجير القسري لسكان غزة، والتهديد الذي وجّهته الولايات المتحدة لحماس، أدى إلى زيادة أطماع أعضاء حكومة نتنياهو وحماسهم لتجديد الحرب على غزة.
تزعم "إسرائيل" أنها أجّلت قرارها بالعودة إلى القتال حتى نهاية الأسبوع على خلفية وصول رئيس الأركان الجديد إيال زامير، وبانتظار وصول المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف إلى المنطقة، إذ تقول إنها وضعت "البندقية" جانباً من أجل تحقيق تقدم سريع في المفاوضات يقود إلى الإفراج عن مزيد من الأسرى الإسرائيليين.
تعتمد الاستراتيجية التي يتبناها الفريق الذي يقوده نتنياهو من أجل جر حماس للقبول بتمديد المرحلة الأولى على ثلاث روافع ضغط: الأولى هي التعويل على خشية حماس من عودة "الجيش" الإسرائيلي إلى القطاع مرة أخرى بطريقة تقضي نهائياً على مراكز القوة المدنية والعسكرية المتبقية لحماس في القطاع، وتجبر قادتها على البقاء تحت الأرض إلى أجل غير مسمى أو خوض المواجهة والارتقاء أو الاعتقال.
أما الرافعة الثانية فهي سكان القطاع الذين يطالبون بتخفيف مآسيهم التي خلقتها ظروف الحرب، خصوصاً مع إعلان "إسرائيل" بداية الأسبوع الحالي عن وقف المساعدات الإنسانية الموجّهة إلى القطاع، بالتنسيق مع إدارة ترامب، بسبب ما سمّته رفض حماس مخطط ويتكوف، من أجل زيادة الضغط على حماس.
أما الرافعة الثالثة والأهم، فهي الدعم الذي تتلقاه من الرئيس الأميركي دونالد ترمب، وثقة قادتها بأنه لا يمانع التلويح بالعودة إلى الحرب وربما لن يقف في طريق نتنياهو في حال ذهب إلى هذا الخيار، ففي الوقت الحالي لا توجد أي دلائل تشير إلى أن ترمب مهتم أن يفرض على "إسرائيل" رؤيته القائلة بوقف الحرب.
في الوقت الراهن، يسود اعتقاد في "إسرائيل" مفاده "أن حماس تعتمد بشكل أساسي على ورقة الأسرى الذين في حوزتها، وتفترض أن "إسرائيل" ستمتنع قدر الإمكان عن تجديد الحرب على القطاع حتى لا تتسبب في قتل الأسرى". لكن سلوك نتنياهو قبل الدخول في مسار الصفقة الحالي والتصريحات التي أدلى بها هو ووزير حربه كاتس، ووزير ماليته سموترتش خلال الأيام الماضية، قد يقود حماس، وفق التعويل الإسرائيلي، إلى الاستنتاج بأنها "إن لم تقبل مطالب إسرائيل، فقد يُضحّي نتنياهو ببعض الأسرى الأحياء"، وقد أظهرت مناشدات عائلات الأسرى الإسرائيليين وصرخاتهم، نهاية الأسبوع الماضي، لحماس أن هذا احتمالٌ واقعي.
وتعوّل "إسرائيل" كذلك على عامل ضغط آخر تواجهه قيادة حماس في قطاع غزة وفي الخارج، وهو القمة العربية التي عُقدت في القاهرة الثلاثاء، والتي من المفترض أنها اعتمدت خطة لـ"اليوم التالي" في قطاع غزة من دون حماس. هذه الخطة، وفق الظن الإسرائيلي، "تُقلق حماس أكثر من تجدد القتال من جانب إسرائيل، لأنها تهدد بقاءها في قطاع غزة كقوة مهيمنة، حتى ولو لم تكن في السلطة فعلياً".
إذ ترى إسرائيل "أن السيطرة على قطاع غزة هي أعظم إنجازات حماس منذ تأسيس الحركة في ثمانينيات القرن العشرين، وإن فقدت السيطرة الرسمية على القطاع والقدرة على أن تكون القوة المؤثرة فيه، فلن يكون بوسعها أن تزعم أنها القوة الرائدة في الحركة الفلسطينية، ولن تتمكن من السيطرة على الضفة الغربية ومنظمة التحرير الفلسطينية.
ومن أجل تعديل مشروع القرار العربي ومنع تجدد الحرب مع إسرائيل، قد تقبل حماس مخطط ويتكوف مع بعض التعديلات". ولكن، ليس من المؤكد على الإطلاق أن تقبل حماس بالخطوط العريضة لخطة ويتكوف، فإن أصرت، فلن يكون أمام "إسرائيل" سوى إرسال "جيشها" للمناورة بالقوة في القطاع، وهو ما بدأت ترسل إشارات على جديتها بخصوصه من خلال بعض عمليات القنص والقصف التي يمارسها "جيشها" بهذه الذريعة أو تلك.
وعلى المقلب الآخر من خارطة المشهد المتلبّد، يبدو أن تصريحات نتنياهو عالية السقوف تصب معظمها في خانة الضغط على المقاومة فقط. وكما لديه جملة من العوامل الدافعة إلى العودة إلى القتال، لا تخلو طريق العودة إلى الحرب من الكوابح والمعوقات التي يحتاج تجاوزها إلى أكثر من الشعارات الرنانة والدهاء. فقد نقلت صحيفة "جويش إنسايدر" عن النائب الجمهوري راندي ويبر أن نتنياهو "يواجه ضغوطاً سياسية تمنعه من العودة إلى القتال" خصوصاً من عائلات الأسرى والقتلى والمصابين خلال الحرب.
وحتى لو أعطى ترامب الضوء الأخضر لاستمرار التطهير العرقي في غزة، فليس من المؤكد أن هذا سيكون كافياً لإقناع الجمهور الإسرائيلي بضرورة استمرار الحرب. في الواقع، يبدو أن الحرب في غزة أصبحت عبئاً على الحكومة و"الجيش" والمجتمع الإسرائيلي بشكل عام. ففي كل استطلاعات الرأي، تدعم أغلبية واضحة تتراوح بين 60% و70%، أو حتى أكثر، إنهاء الحرب.
ربما لا تصل مظاهرات "كابلان" إلى حجم المظاهرات التي خرجت مباشرة بعد قضية التعديلات القضائية، لكن التحدي التي تشكله للحكومة الإسرائيلية لم يتضاءل، بل ربما على العكس تماماً.
ويبدو أنه لم يحدث من قبل أن طالب هذا العدد الكبير من الإسرائيليين، بهذه الصراحة بإنهاء الحرب التي تخوضها "إسرائيل". ويبدو أن الخوف من غضب عائلات الأسرى الذين ظلوا في غزة سيلعب دوراً مهماً في منع العودة إلى الحرب، والجمهور الإسرائيلي الذي "يعيش لحظات من البهجة بعودة الأسرى" لن يقبل بسهولة العودة إلى الحرب، ناهيك بالتكاليف الاقتصادية، والرغبة العامة في العودة إلى الحياة الطبيعية.
كما أن لدى نتنياهو مُعضلة أخرى لا تقل أهمية هي ميزانية الدفاع التي لن تغطي تكاليف الحرب في حال العودة إليها. فميزانية "إسرائيل" لعام 2025 تعتمد على توقع انخفاض شدة الحرب، ولا يُتوقع أن تلبي احتياجات منظومة الدفاع في حالة العودة إلى القتال الكثيف، إذ يواجه "جيش" الاحتلال الإسرائيلي أزمة مالية كبيرة. وبحسب تقرير في صحيفة "ذا ماركر"، ورغم تصريحات نتنياهو بشأن الحاجة إلى "القضاء على حماس"، فإن ميزانية "إسرائيل" لعام 2025 تعتمد على "تقليص النزاعات"، وهو ما قد يؤدي إلى نقص حاد في الموارد إذا استؤنف القتال بشدة.
وبحسب التقرير، فإن ميزانية الدفاع لعام 2025 ستبلغ نحو 107 مليار شيكل، بالإضافة إلى احتياطي بقيمة 10 مليار شيكل في حال التصعيد. وترتبط النفقات الإضافية بالتعبئة المكثفة لاحتياطي "الجيش"، إذ إن أي تصعيد عسكري سيتطلب استمرار تجنيدهم وزيادة القوى العاملة بما يتراوح بين 5 آلاف إلى 10 آلاف جندي إضافي، وهو ما من شأنه أن يزيد التكاليف. ويخلص التقرير إلى أن أي قرار بتجديد الحرب في غزة سيجلب معه تحدياً مالياً كبيراً، وهو ما قد يضر بالاستقرار الاقتصادي في "إسرائيل".
ويبدو أن "جيش" الاحتلال يعاني هو الآخر الإرهاق والتعب، ما يتطلب فترة طويلة من التأهيل والتعويض عن الخسائر في الأرواح والمعدات بسبب الحرب في غزة ولبنان، ولن يكون بوسعه إثبات فعالية عملياته العسكرية ضد قوى المقاومة في حال العودة إلى القتال، وأقصى ما يمكنه فعله هو إلحاق الأذى بالمدنيين في غزة.
لقد كرّس "جيش" الاحتلال نفسه للتطهير العرقي في القطاع، ومع أنه يدرك أن المقاومة قد ضَعُفت، لكنه يدرك كذلك أنها بعيدة كل البعد عن الاستسلام، وتبدو مهمة إعادة الأسرى بالقوة العسكرية مستحيلة بشكل عام، والأجواء السائدة بين الجنود تشير إلى أنهم يخوضون حرباً عبثية لن تؤدي إلى أي نتيجة سوى قتل المدنيين، وبالطبع لا يرجع هذا إلى دافع أخلاقي، فوفقاً لمسح أجراه مؤخراً معهد "أكورد"، فإن 62% من الإسرائيليين يقبلون العبارة القائلة بأنه "ليس هناك أبرياء في غزة"، بل لأن أهداف الحرب غير واضحة.
الأمر الأكثر أهمية هو أن نتنياهو نفسه ربما بدأ يشك في شعار "أنه ليس لديه مصلحة في إنهاء الحرب"، وهي النظرة التي تبناها منذ بداية المواجهة، خصوصاً بعد أن أخفق في رفع شعبيته بشكل كبير على خلفية ما وُصِفَ في الإعلام الإسرائيلي "بالانتصارات المذهلة التي حققتها إسرائيل في لبنان وسوريا وإيران وضد حماس". في واقع الأمر، حدث العكس إذ تراجع ائتلاف نتنياهو إلى 49 مقعداً، وهو ما يقترب جداً مما كان عليه مباشرة بعد السابع من أكتوبر 2023.
إذاً، أمام احتجاجات عائلات الأسرى، التي تؤججها عمليات إعادة الجثث الإسرائيلية من غزة، والإرهاق في "الجيش"، وانخفاض "شعبية الحرب" وتدهورها وفق استطلاعات الرأي، ربما وصل نتنياهو إلى استنتاج مفاده أنه إذا استمرت الحرب حتى "النصر المطلق"، فإن فُرصه في الفوز في الانتخابات المقبلة، التي من المتوقع أن تجرى بعد عام وبضعة أشهر، منخفضة للغاية. ولذلك، ربما يقرر "تقليص الخسائر" والاستمرار في الاتفاق. وربما يعتقد أنه حتى لو قرر بن غفير وسموتريتش إطاحة الحكومة، فإن لديه فرصة جيدة للنجاح في الانتخابات المبكرة إذا ما عرض إنجازاته باغتيال السنوار ونصر الله من جهة، مع احتضان الأسرى العائدين أحياء، من جهة أخرى.
الخلاصة أن مُخطط ويتكوف يلبّي مطالب "إسرائيل" بالكامل، لأنه يسمح بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين على مرحلتين، لكنه يؤجل الحاجة إلى إعلان "إسرائيل" عن وقف إطلاق نارٍ دائم بضمانة أميركية. بالنسبة إلى نتنياهو، فإن المخطط له ميزة إضافية سياسية، لأنه يؤجل المواجهة مع سموتريتش وبن غفير في الائتلاف ويسمح بالموافقة على ميزانية الحكومة، التي إن لم تتم الموافقة عليها هذا الشهر، فإن الحكومة، وفقاً للقانون، ستسقط وسيتم الإعلان عن انتخابات مبكرة.
من المرجح أن يأتي ويتكوف نهاية الأسبوع لمحاولة إتمام الصفقة بروح الخطوط العريضة التي وضعها، وتحاول "إسرائيل"، التي أعلنت رسمياً موافقتها عليها، مساعدته من خلال استراتيجية تفاوضية تقوم على اللعب على الحافة وتشديد المواقف، لكنه من غير المستبعد أن تؤدي ضغوط اليمين إلى دفع نتنياهو إلى استئناف الحرب.